إدريس جماع.. مانجِل مُتوج على ككر الشعر.. الشاعر الملك

الخرطوم – محمد عبدالباقي يرسم الشاعر الفذ إدريس جماع صورة واضحة المعالم لحياته منذ بواكيره شبابه وحتى نهايته المأساوية من خلال شعره. ورغم أن شعر جماع يقف على أغراض حددها في الثورة على الظلم والتوق للحرية وحب الإنسانية والتغني بالطبيعية والجمال، لكن بعض مما خطه يمثل الطريق الذي سار عليه الشاعر حتى مغادرته لشاطئ العالم العقلاني، وركله لكل قوانين العقل والعيش بحرية في عالم اللاعقل واللاقانون بالمرة. وبتمعن أشعار جماع بدقة يتضح أنه في أواخر أيامه اختار العالم الذي يناسبه حين تخلى عن العقل بإرادته، إذ يستحيل أن يعيش بين البشر بسوأتهم من كان يمتلك حساسيته وإنسانيته المفرطة. نبوغ مبكر لا حاجة لأي دارس لشعر إدريس جماع محاولة إثبات عبقريته الشعرية ونبوغه المبكر، ويكفي تقديم مقاطع مختلفة من أشعاره، وهو بالمرحلة الابتدائية ليعلم القارئ مدى سطوع موهبته، وأدناه بعض من أشعار كتبها، وهو في شرخ الصبا، إذ يقول فيها: إن تريدي كتم سر فاغمضي عينيك عني إنما عينيك بلور يشع الصفو فيه عادة البلور أن يسفر عن ما يحتويه ودون شك من يستطيع التعبير عن ذاته بمثل هذه الأشعار لا يترجى منه غير النبوغ الباهر، وهذا ما حدث في مبدأ حياة جماع الذي تفوق على أقرانه في الشعر وفي العلم، حيث أحرز جوائز عدة ببخت الرضا إلى أن غادرها معلما ومن ثم طالبا بمعهد الزيتونة بمصر. وهناك حقق شاعرنا مبتغاه بجهد تفوقه لا بشهاداته الأكاديمية عندما فاز ضمن طلاب الشهادة الثانوية بفرصة الالتحاق بكلية العلوم بجامعة الأزهر، وتقديرا لنبوغه وعبقريته، رأت لجنة القبول ضمه للجامعة دون شهادة أكاديمية، ومنها تخرج وعاد للسودان معلما في مدارسه. مبدأ المعاناة بعودته للسودان بعد تخرجه في كلية العلوم واجه جماع مصاعب عدة في مسيرته المهنية، زادت منها مثاليته المرهفة وإنسانيته المفرطة، وتكشف أشعاره جانبا من هذه المعاناة حتى بلغت نهايتها، ورغم أنه ليس يسيرا تتبع شعره وترتيبه تاريخيا لكن الاهتزازات النفسية التي اعتلته تبدو جلية، ودون شك أن تلك الاهتزازات النفسية تكاد تكون إصابة طبيعية لإنسان بهذه الحساسية المفرطة والمشاعر الإنسانية النبيلة والضمير النقي من الشوائب والاعوجاج. أنا مازلت ساخرا من ضميرا له حدود تارة كله اشتعال وحينا به جمود هذه علة الوجود فهل يشتفي الوجود؟! وتظهر المعاناة النفسية بجلاء في شعر جماع خاصة في قصيدتي (صوت من وراء القضبان) و(لحظات الحياة)، ففي الأولى التي صنفها النقاد بأنها أول قصيدة يرثي بها شاعر نفسه، وهو مشرف على النهاية: على الخطب المريع طويت صدري/ وبحت فلم يفد صمتي وذكري وفي لُجج الأثير يذوب صوتي/ كساكب قطرة في لج بحر دجى ليلي وأيامي فصول يولف نظمها ماساة عمري أشاهد مصرعي حينا وحينا تخايلني بها أشباح قبري إلى أن يقول: وأحلام الخلاص تشع آنا ويطويها الردى في كل ستر/ حياة لا حياة بها ولكن بقية جذوة وحطام عمر أما قصيدة (لحظات الحياة) فيبتدرها: لحظات الحياة لحن يغنيه شعوري على خطا الزمان غير أني لا أسمع اليوم إلا نغما في متاهة الأحزان ونماء الورود عندي كالأزهار حول التابوت والأكفان جف عن نفسي الندي وتلمست هشيماً من ذابلات الأماني رثاء وأسى لن يحتاج المدقق لكبير عناء ليربط بين القصيدين اللتين دون شك جادة بهما قريحة الشاعر في أواخر أيامه، وقصيدة (صوت من وراء القضبان) تؤكد أن الشاعر رثى بها نفسه وتأسى عليها، وهو يخطو نحو الشاطئ الآخر للاوعي حيث قضى بقيت أيامه هائما في ملكوته: يقلبني الفراش على عذاب يهز أساه كل ضمير حر تطالعني العيون ولا تراني فشخصي غيرته سنين أسر يصم صليل هذا القيد سمعي وفي الأغلال وجداني وفكري واضح أن (صوت من وراء القضبان) حجزت مقعد النهاية في قائمة كتاباته الشعرية، وهي تبين دون مجال للشك أن إنسانية إدريس جماع كانت غير متكلفة وغير مدعاه فهو على هذه الحال، ويكتب: في جنبي إنسان وروح/ وحب الناس في جنبي يسري رغم أن وطأة الأسى في قصيدة (لحظات الحياة) أخف مما تمور به أبيات قصيدة (صوت من وراء القضبان)، لكنها تُبيِّن أيضاً وطأة ثقل العذاب الذي يكابده: ينابيع قوتي لم تزل تزخر تحت الهجير بالجريان لتعيد الصفو الندى بنفسي وتغذي منابت الريحان ولتسري فيها النضارة كالنشوة تحيي الحياة في الإنسان فحفيف الأوراق ينتظم النبت ويكسو عواري الأقصان ما بين الهجير الذي يطغى على قوته وإشارته للأغصان العارية التي تنتظر الأوراق لتكسوها يتبين هول المأساة التي تنتظم روح الشاعر الشفيفة. من العسير اختزال شاعرية إدريس جماع الذي قال عنه الناقد محمد حجاز مدثر”لو سار التاريخ دون تعرج لكان جماع ملكاً على السودان كله أو بعضاً منه أو أميرا يتمتع بالجاه والألقاب”، في قصائد بعينها فكل شعره دُرر ينم عن تفوق ونبوغ
اليوم التالي
إن تردني فلن تجدني في إسمي *** إنه محض صدفة للمســـــــمّي
وبرغمي صــــاحبته في حياتي *** وكذا صورتي فما أنا رسمي
فالتمسني في غير رسمي وإسمي *** ترني بادياً وتبصر وســمي
غير أني أراهمـــــا زاملاني *** فوفاء أبقيهما في نظمــي
—————–
هنا صوت يناديني *** نعم لبيك أوطاني
دمي وعزمي وصدري *** كله أضواء إيمان
سأرفع راية المجد *** وأبني خير بنيان
هنا صوت يناديني *** تقدّم أنت سوداني
————–
النيل من نشوة الصهباء سلسله *** وساكنو النيل سُمّــار وندمان
وخفقة الموج أشــجان تجاوبها *** من القلوب إلتفاتات وأشـجان
كل الحياةربيع مشـــــرق نضر *** في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصـائل في واديه حالمةً *** يحفها موكب بالعطــــر ريّان
—————
أعلى الجمال تغارمنّا *** ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرةٌ تُنسي الوقار *** وتُســعد الروح المعنى
دنياي أنتِ وفرحتـــي *** ومنى الفؤاد إذا تمنّى
أنت السمـاء بدت لنا *** واسـتعصمت بالبعد عنّا
————-
شاءالهوى أم شئتِ أنتِ *** فمضيت في صـمتٍ مضيتِ
أم هزّ غصنـــــك طائرٌ *** غيري طرت إليه طِــرتِ
وتركتني شبـــــه أمدّ *** إليك حبي أين رُحـــتِ
وغدوت كالمحموم لاأهذي *** بغير هـــــواك أنتِ
………………… *** ……………….
رجع الربيـــــع وفيه *** شوقٌ للحياة وما رجعتِ
———————-
في ربيع الحب كنا *** نتســـــــاقى ونغني
نتناجى وننـــاجي *** الطير من غصــن لغصن
ثمّ ضـاع الأمس منّا *** وانطوت في القلب حسرة
شذراتٌ حرّى من شعر جماع، حتما ستطوف بك آفاقا سرمدية … تأخذك بعيدا عن هموم الحياة وكثافة المادة التي تقعدك على الثري وتأبى أن تطوف بك تلك الآفاق الرحبة التي رسمها أولئك المبدعون الذين عبروا هذه الفانية كالنجوم التي سطعت برهة ثم توارت خلف الأفق البعيد ..
جمّاع .. جمع الحسن والذوق والإبداع والحب الشفيف .. وضعه النقاد في قائمة شعراء التجديد. يقول عنه الدكتور تاج الدين الحسن الذي شارك في الإشراف على ديوانه (لحظات باقية)، :{إن شعر جماع يقع في إطار الشعر التراثي والديواني العربي فهو شاعر من المدرسة العربية التراثية وهو من رواد التجديد الشعري في العالم العربي ضمن مجموعة عبد الرحمن شكري والعقاد وإبراهيم المازني} .. لقد إتّسم شعر جماع برقّة الألفاظ والوصف الفائق كما يزخر شعره بوصف ثورة الثائر الوطني الغيور على حرية وطنه وكرامة أمته.
لقد أسعدني الحظ أن سجّلتُ وبعض الزملاء المعلّمين من مدرسة (الإزدهار) بالخرطوم بحري زيارة وّدية إلى أسرة المرحوم جمّاع بحلفاية الملوك عرفاناً وتقديرا لرجل ساهم في تشكيل وجداننا وذكرياتنا الخالدة .. كيفما كانت .. ألا رحم الله جمّاع بقدر ما قدّم لوطنه وأمّته .. لقد مهر جماع إسمه بدمه في صحائف الخالدين لأمّة بقامة السودان.
لقد أسعدني الحظ أن سجّلتُ وبعض الزملاء المعلّمين من مدرسة (الإزدهار) بالخرطوم بحري زيارة وّدية إلى أسرة المرحوم جمّاع بحلفاية الملوك إستجابة لدعوة كريمة من الأسرة إذ كانت إحدي تلميذاتنا تنتمي لها وأيضا كانت الزيارة عرفاناً وتقديرا لرجل ساهم في تشكيل وجداننا وذكرياتنا الخالدة .. ألا رحم الله جمّاع بقدر ما قدّم لوطنه وأمّته .. لقد مهر إدريس حروف اسمه بدمه الطاهر في صحيفة الخالدين لأمّة بقامة السودان.
على الخطب المريع طويتُ صدري *** وبُحت فلم يفِدْ صـمتي وذكري
وفي لُججِ الأثير يذوب صــــوتي *** كساكب قطرةٍ في لُجّ بحــــر
دُجى ليلي وأيامي فصـــــــولٌ *** يؤّلف نظمُها مأساةَ عمـــري
أُشـــــاهدُ مَصْرعي حِيناً وحِيناً *** تخايلني بها أشــباهُ قبرِي
وفي الكونِ الفسـح رهينُ ســجنٍ *** يلوّح بها الرّدى في كل شِبر
وأحلامُ الخلاص تشِـــعّ آناً وآناً *** ويطويها الرّدى في كُل سـِتر
حياةٌ لا حياةُ بهـــــــا ولكن *** بقيةُ جَذوةٍ وحُطـــــامُ عُمر
خُطوبٌ لو جَهرتُ بها لضــــــاقت *** بها صورُ البيان وضَاق شِعري
جَهرتُ ببعضها فأضـــــــافَ بثّي *** بها ألمـــاً إلى آلام غِيري
كأنّي أسـْـــــــعُ الأجيالَ بعدي *** وفي حِنْقٍ تُردّد هَولَ أمـــرِي
*********************************************************
إذا مِتُّ لا تحـــــــــــزني إّنني *** ترابٌ يعودُ إلى بعْضِــــه
لقد جعلتني ليلي العــــــــذاب *** ألذ المماتَ على بغْضِـــه
وما كان عيشــــــي هنيئاً فاذكر *** ما كان بالأمس من غضّــه
ولكن في النفس معنى الرُّجولــــةِ *** يحتمل المُرّ من مَحْضِـــه
وفلســــــفتي في الظّلامِ الكثيفِ *** تُرى لمحةٌ من سَـنَى ومْضِه
********************************************************
مربّع جماع ( إقرأ طولاً وعرضاً ):
ألومُ حبيبي وهذا مُحـــال
حبيبي أفيكَ كلامٌ يُقــــال
وهذا كلامٌ غداة الجمال
محالٌ يقالُ الجمالُ مُحــال
قرأتُ شعر جماع في قصاصات ورقية قبل أن تُجمع في ديوانه (لحظات باقية) وقد لاحظتُ أن هنالك بعض الأبيات نُسبت إلى جمّاع ولكن لم أجد لها أثراً في ديوانه .. وربما يكون هنالك الكثير الكثير من شعر جمّاع ضاع هنا وهناك .. وربما تكشف لنا الأيام في المستقبل كنوزا لا تزال في إنتظار من ينفض عنها غبار السنين.
* وقد أتاحت لي هذه السانحة إجراء بحث قصير للمشاركة به في إثراء تبادل المعارف والمعلومات بين المشاركين خاصة والأمر يتناول جانبا هاما من جوانب إرثنا الثقافي الثّر .. فعند تصفّحي للشبكة العنكبوتية بحثا عن مأثورات جمّاع وجدت الكثير المثير ولكن تنقصه في كثير من الأحيان الدقّة واللغة السليمة .. فقد أورد بعضهم قصة جمّاع وتلك الحسناء التي إلتقى بها في المطار وكيف أن قريحة شاعرنا جادت بقصيدته الشهيرة (أعلى الجمال تغار منّا) .. كما أورد بعضُهم كيف أن جمّاع عندما سافر إلى لندن للعلاج أُعْجب بعيون ممرضته فأطال النّظر في عينيها مما دفعها إلى أن تخبر مدير المستشفى فأمرها أن تلبس نظارة سوداء ففعلت ، وعندما عادت لمواصلة عملها ونظر إليها جمّاع بهيأتها الجديدة أنشد قوله:
السّيف في الغِمد لا تُخشى بواتِرُه *** وسيفُ عينيكِ في الحالين بتّارُ
وقد أورد بعضهم أن هذا البيت أبلغ ما قيل عن العيون في الشعر الحديث.
* وقد ذكر بعضهم (مع إختلاف في الصياغة والمفردات) أنّ جمّاع هو القائل:
إنّ حظّي كدقيقٍ فوق شـــــوكٍ نثروه *** وقالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ اجمعـوه
فلما ثقل الأمـر عليهم قلت اتركوه *** من أشقاه ربّي كيف أنتم تسعِدوه
وقد اخترت من بين الصياغات المتعددة البيت أعلاه لظنّي أنه أقرب إلى شعر جمّاع.
ويكفي معرفة شجون جماع ومعاناته المستمرّة بمراجعة قصائده الواردة في ديوانه الوحيد (لحظات باقية) والذي اخترت منه الشذرات المنثورة في صدر هذه المشاركة سيّما قصيدتيه (ظلمات وشـُـعاع … وصوتٌ من وراء القُضْبان).
إن تردني فلن تجدني في إسمي *** إنه محض صدفة للمســـــــمّي
وبرغمي صــــاحبته في حياتي *** وكذا صورتي فما أنا رسمي
فالتمسني في غير رسمي وإسمي *** ترني بادياً وتبصر وســمي
غير أني أراهمـــــا زاملاني *** فوفاء أبقيهما في نظمــي
—————–
هنا صوت يناديني *** نعم لبيك أوطاني
دمي وعزمي وصدري *** كله أضواء إيمان
سأرفع راية المجد *** وأبني خير بنيان
هنا صوت يناديني *** تقدّم أنت سوداني
————–
النيل من نشوة الصهباء سلسله *** وساكنو النيل سُمّــار وندمان
وخفقة الموج أشــجان تجاوبها *** من القلوب إلتفاتات وأشـجان
كل الحياةربيع مشـــــرق نضر *** في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصـائل في واديه حالمةً *** يحفها موكب بالعطــــر ريّان
—————
أعلى الجمال تغارمنّا *** ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرةٌ تُنسي الوقار *** وتُســعد الروح المعنى
دنياي أنتِ وفرحتـــي *** ومنى الفؤاد إذا تمنّى
أنت السمـاء بدت لنا *** واسـتعصمت بالبعد عنّا
————-
شاءالهوى أم شئتِ أنتِ *** فمضيت في صـمتٍ مضيتِ
أم هزّ غصنـــــك طائرٌ *** غيري طرت إليه طِــرتِ
وتركتني شبـــــه أمدّ *** إليك حبي أين رُحـــتِ
وغدوت كالمحموم لاأهذي *** بغير هـــــواك أنتِ
………………… *** ……………….
رجع الربيـــــع وفيه *** شوقٌ للحياة وما رجعتِ
———————-
في ربيع الحب كنا *** نتســـــــاقى ونغني
نتناجى وننـــاجي *** الطير من غصــن لغصن
ثمّ ضـاع الأمس منّا *** وانطوت في القلب حسرة
شذراتٌ حرّى من شعر جماع، حتما ستطوف بك آفاقا سرمدية … تأخذك بعيدا عن هموم الحياة وكثافة المادة التي تقعدك على الثري وتأبى أن تطوف بك تلك الآفاق الرحبة التي رسمها أولئك المبدعون الذين عبروا هذه الفانية كالنجوم التي سطعت برهة ثم توارت خلف الأفق البعيد ..
جمّاع .. جمع الحسن والذوق والإبداع والحب الشفيف .. وضعه النقاد في قائمة شعراء التجديد. يقول عنه الدكتور تاج الدين الحسن الذي شارك في الإشراف على ديوانه (لحظات باقية)، :{إن شعر جماع يقع في إطار الشعر التراثي والديواني العربي فهو شاعر من المدرسة العربية التراثية وهو من رواد التجديد الشعري في العالم العربي ضمن مجموعة عبد الرحمن شكري والعقاد وإبراهيم المازني} .. لقد إتّسم شعر جماع برقّة الألفاظ والوصف الفائق كما يزخر شعره بوصف ثورة الثائر الوطني الغيور على حرية وطنه وكرامة أمته.
لقد أسعدني الحظ أن سجّلتُ وبعض الزملاء المعلّمين من مدرسة (الإزدهار) بالخرطوم بحري زيارة وّدية إلى أسرة المرحوم جمّاع بحلفاية الملوك عرفاناً وتقديرا لرجل ساهم في تشكيل وجداننا وذكرياتنا الخالدة .. كيفما كانت .. ألا رحم الله جمّاع بقدر ما قدّم لوطنه وأمّته .. لقد مهر جماع إسمه بدمه في صحائف الخالدين لأمّة بقامة السودان.
لقد أسعدني الحظ أن سجّلتُ وبعض الزملاء المعلّمين من مدرسة (الإزدهار) بالخرطوم بحري زيارة وّدية إلى أسرة المرحوم جمّاع بحلفاية الملوك إستجابة لدعوة كريمة من الأسرة إذ كانت إحدي تلميذاتنا تنتمي لها وأيضا كانت الزيارة عرفاناً وتقديرا لرجل ساهم في تشكيل وجداننا وذكرياتنا الخالدة .. ألا رحم الله جمّاع بقدر ما قدّم لوطنه وأمّته .. لقد مهر إدريس حروف اسمه بدمه الطاهر في صحيفة الخالدين لأمّة بقامة السودان.
على الخطب المريع طويتُ صدري *** وبُحت فلم يفِدْ صـمتي وذكري
وفي لُججِ الأثير يذوب صــــوتي *** كساكب قطرةٍ في لُجّ بحــــر
دُجى ليلي وأيامي فصـــــــولٌ *** يؤّلف نظمُها مأساةَ عمـــري
أُشـــــاهدُ مَصْرعي حِيناً وحِيناً *** تخايلني بها أشــباهُ قبرِي
وفي الكونِ الفسـح رهينُ ســجنٍ *** يلوّح بها الرّدى في كل شِبر
وأحلامُ الخلاص تشِـــعّ آناً وآناً *** ويطويها الرّدى في كُل سـِتر
حياةٌ لا حياةُ بهـــــــا ولكن *** بقيةُ جَذوةٍ وحُطـــــامُ عُمر
خُطوبٌ لو جَهرتُ بها لضــــــاقت *** بها صورُ البيان وضَاق شِعري
جَهرتُ ببعضها فأضـــــــافَ بثّي *** بها ألمـــاً إلى آلام غِيري
كأنّي أسـْـــــــعُ الأجيالَ بعدي *** وفي حِنْقٍ تُردّد هَولَ أمـــرِي
*********************************************************
إذا مِتُّ لا تحـــــــــــزني إّنني *** ترابٌ يعودُ إلى بعْضِــــه
لقد جعلتني ليلي العــــــــذاب *** ألذ المماتَ على بغْضِـــه
وما كان عيشــــــي هنيئاً فاذكر *** ما كان بالأمس من غضّــه
ولكن في النفس معنى الرُّجولــــةِ *** يحتمل المُرّ من مَحْضِـــه
وفلســــــفتي في الظّلامِ الكثيفِ *** تُرى لمحةٌ من سَـنَى ومْضِه
********************************************************
مربّع جماع ( إقرأ طولاً وعرضاً ):
ألومُ حبيبي وهذا مُحـــال
حبيبي أفيكَ كلامٌ يُقــــال
وهذا كلامٌ غداة الجمال
محالٌ يقالُ الجمالُ مُحــال
قرأتُ شعر جماع في قصاصات ورقية قبل أن تُجمع في ديوانه (لحظات باقية) وقد لاحظتُ أن هنالك بعض الأبيات نُسبت إلى جمّاع ولكن لم أجد لها أثراً في ديوانه .. وربما يكون هنالك الكثير الكثير من شعر جمّاع ضاع هنا وهناك .. وربما تكشف لنا الأيام في المستقبل كنوزا لا تزال في إنتظار من ينفض عنها غبار السنين.
* وقد أتاحت لي هذه السانحة إجراء بحث قصير للمشاركة به في إثراء تبادل المعارف والمعلومات بين المشاركين خاصة والأمر يتناول جانبا هاما من جوانب إرثنا الثقافي الثّر .. فعند تصفّحي للشبكة العنكبوتية بحثا عن مأثورات جمّاع وجدت الكثير المثير ولكن تنقصه في كثير من الأحيان الدقّة واللغة السليمة .. فقد أورد بعضهم قصة جمّاع وتلك الحسناء التي إلتقى بها في المطار وكيف أن قريحة شاعرنا جادت بقصيدته الشهيرة (أعلى الجمال تغار منّا) .. كما أورد بعضُهم كيف أن جمّاع عندما سافر إلى لندن للعلاج أُعْجب بعيون ممرضته فأطال النّظر في عينيها مما دفعها إلى أن تخبر مدير المستشفى فأمرها أن تلبس نظارة سوداء ففعلت ، وعندما عادت لمواصلة عملها ونظر إليها جمّاع بهيأتها الجديدة أنشد قوله:
السّيف في الغِمد لا تُخشى بواتِرُه *** وسيفُ عينيكِ في الحالين بتّارُ
وقد أورد بعضهم أن هذا البيت أبلغ ما قيل عن العيون في الشعر الحديث.
* وقد ذكر بعضهم (مع إختلاف في الصياغة والمفردات) أنّ جمّاع هو القائل:
إنّ حظّي كدقيقٍ فوق شـــــوكٍ نثروه *** وقالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ اجمعـوه
فلما ثقل الأمـر عليهم قلت اتركوه *** من أشقاه ربّي كيف أنتم تسعِدوه
وقد اخترت من بين الصياغات المتعددة البيت أعلاه لظنّي أنه أقرب إلى شعر جمّاع.
ويكفي معرفة شجون جماع ومعاناته المستمرّة بمراجعة قصائده الواردة في ديوانه الوحيد (لحظات باقية) والذي اخترت منه الشذرات المنثورة في صدر هذه المشاركة سيّما قصيدتيه (ظلمات وشـُـعاع … وصوتٌ من وراء القُضْبان).