الزراعة بالقضارف العذاب فوق شفاه تبتسم

? أمين الزراع السابق بالقضارف: رغم الإنتاج المبشِّر فالمزارع مهدد بالسجن بسبب الكساد وتدني الأسعار
? قرار النائب الأول لرئيس الجمهورية بتمويل المزارعين المعسرين وجد إشادة وإرتياحاً بالغاً
? وزير الزراعة بالقضارف يشترط عدداً من السياسات والإجراءات للنهوض بالإنتاج
? قرار فك الاحتكار في التأمين الزراعي راحة نفسية لدى المزارعين
? التقانات الزراعية الحديثة يمتلكها قلة فقط من كبار المزارعين بالقضارف بينما البقية محرومة

الحلقة الثانية
موسم زراعي ناجح تشهده البلاد هذا العام في القطاع المطري، نسبة لمعدلات الأمطار العالية التي شهدتها معظم أنحاء السودان، ومع هذه المعطيات المبشرة بإنتاج وفير، إلا أن المزاعين لازالت أوضاعهم (محلك سرك) يتهددهم ويطبق عليهم الإعسار من كل جانب، في حالتي “الوفرة” و “الندرة”، وهذه مفارقة غريبة ! بينما يواجه هذا الإنتاج الاستثنائي المتوقع قضية “التسويق”، وعقبة “التخزين”، ورغم إن هاتين القضيتين ظلتا تقابلان العملية الزراعية، لكن الدولة فشلت حتى الآن في إيجاد وضع سياسات وإستراتيجيات تسويقية، للمحاصيل التي تتم زراعتها، وخاصة محصولي السمسم والذرة، اللذان يشكلان غالبية الإنتاج، ويشغلان معظم المساحات. في هذا التحقيق الاستقصائي أستمعنا لمعظم أطراف العملية الزراعية، وقلبنا أوراق الحرفة الرئيسة لأهل السودان، وأسباب تراجع جدواها وعائدها للمزارعين والدولة على السواء، ومن ثم المجتمع حينما كانت تنعكس عليه عائدات الإنتاج الزراعي وخيره الكثير.

تحقيق : محمد سلمان
قلنا في الحلقة الماضية: إن هذا الموسم الزراعي المبشر بالقطاع المطري تواجهه الآن عدة عقبات، من بينها قضية التخزين بسبب عدم وجود مواعين تخزينية، حيث اضطر البنك لدفن مخزونه من محصول الذرة تحت الأرض في “مطامير”، ومازال موجود فيها حتى لحظة مطالعتكم لهذا التحقيق! وأظنه سيبقى أكثر وأكثر إذ ليس للدولة أي سياسات واضحة في تصدير وتسويق الذرة وتصنيعها والاستفادة منها، وقد قال لنا وزير الزراعة بالقضارف دكتور عبدالله سليمان: “نحن بحاجة إلى إستراتيجية ورؤية ثابتة للزراعة، نجيب من خلالها على عدة تساؤلات، من بينها مثلاً : لماذا نزرع الذرة ؟ ولماذا ندعم منتج يخلق مشكلة وإعساراً للمزارع ببيعه بالخسارة ؟ مافاض عن استهلاك هذا المحصول هل لدينا إستراتيجية الآن لعمل مخزون إستراتيجي؟ وهل نذهب لتقليل مساحات الذرة ؟ أم نتجه لتصنيعه ؟ “، يشدد وزير الزراعة بالقضارف على ضرورة الإجابة على هذه الأسئلة لوضع إسراتيجية ورؤية واضحة وثابتة للزراعة، ونادى سليمان بالتوسع أكثر في زراعة الحبوب الزيتية، وقال لنا: ” دعم وتشجيع زراعة الحبوب الزيتية فيهو منطق لأنها ستدر عملة صعبة للبلاد، وذلك بتوطين تقاويها محلياً مثل محصول زهرة الشمس لأن التقاوي المسورة سعرها عالي جداً، مما يزيد تكلفة الإنتاج، أيضاً تطبيق التقانات في زراعة السمسم سيمكن من زيادة إنتاجية الفدان، وبالتالي إمكانية المنافسة عالمياً ” ، يمضي دكتور سليمان في تبيين قضية توطين التقانات الحديثة أكثر من ذلك قائلاً: “استخدام المبيدات يحد من تكلفة العمالة، لكن لابد من إدخال صناعة المبيدات والأسمدة بالبلاد، حتى نوفرها للمزارع بأسعار معقولة، وأيضاً لابد من توفير الحاصدات لصغار المزارعين، وتوفير قطع الغيار”
في الحالتين مسجون:
التقينا بـ”عمر حسن فاضل”، أحد كبار مزارعي القضارف، نائب رئيس اتحاد الزراعة الآلية بولاية القضارف (المحلول)، أمين الزراع السابق بالولاية فقال لنا : ” إن سعر التركيز الذي حددته الدولة لمحصول الذرة بـ(250) جنيهاً للجوال، وهذا السعر لم تعمل الدولة على زيادته لأكثر من أربع سنوات، وهو سعر مجحف جداً، لأن تكلفة الإنتاج تضاعفت عشرات المرات “، المزارع فاضل دعانا للتأمل في مسألة غريبة جداً، وهي أن المزارع أصبح مهدداً بالسجن في الحالتين، بقوله: ” فعندما يكون الإنتاج ضعيفاً يكون الإعسار والسجن في انتظار المزارعين، وعندما ينتج ?أيضاً- يكون السجن بانتظاره، لأن سعر السلم وسعر السوق أقل من تكلفة الانتاج ” ! وهي قضية تحمل مفارقات جمة، “إعسار ووفرة” و “سجن” قد ينتظر ينتظر المزارعين في هذا الموسم المبشر، ولازالت هناك أفواه تبتسم وكأن شيئاً لم يكن! يمضي فاضل في حديثه أكثر، وقال لنا : “الكتفلي سيزدهر ” !! وبيع (الكتفلي) هو مصطلح لدى المزارعين يقصد به البيع عند طريق ظاهرة (الكسر)، وهنا يجزم فاضل بأن عدد المزارعين الذين سيذهبون للسجن سيكون كبيراً، وعلل ذلك بقوله : “لأن السعر الذي حددته الدولة أقل كلفة للإنتاج، فهو لم يراع التكلفة ولا انخفاض الجنيه “، ويطرح المزارع عمر فاضل تساؤلاً : من أين سيسدد المزارع هذه التكلفة العالية؟، وكيف سيقابل مديونياته في الإنتاج ؟ ويجيب فاضل نفسه السؤال، قائلاً: “المزارع البسيط سيضطر لبيع كل مايملك من حصول بالسعر الزهيد ليسدد مديونياته، وبالطبع سيبيع بأقل من سعر التكلفة، وبالتالي ستكون المعادلة هنا صعبة جداً، وهي إنتاجية عالية، وإعسار كبير، وفرة وكساد، اختتم فاضل حديثه لنا في قضية التسويق بقوله: “على الدولة أن تلتفت منذ الآن لضياع المزارعين، وعليها مراجعة السياسات الزراعية، والتدخل في الوقت المناسب، وأن تخطط منذ الآن لصادر محصولي (السمسم) و (الذرة)، وعليها أن تتحوط وتتخذ التدابير اللازمة لتحدد، أين يذهب منتج هذا الموسم ؟ “.
تمويل ولكن
توجيهات النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول ركن بكري حسن صالح بتمويل جميع المزارعين بما فيهم المعسرين، وجدت إرتياحاً بالغاً لدى المزارعين، وقال لنا المزارع فاضل : “نحن كمزارعين نشيد بقرار النائب الأول لرئيس الجمهورية بتمويل المعسرين، وقد كان قراراً منصفاً ومتقدماً”، لكن المزارع فاضل نبهنا إلى أن هذا القرار سيترتب عليه، إن المزارع سيكون مواجه بمديونيتين، مديونية هذا الموسم، ومديونية الموسم السابق “المجمدة” لبعض المزارعين المعسرين، وتساءل فاضل: هل يستطيع المزارع بالسعر الحالي أن يسدد للبنك مديونية سنتين؟ .
التمويل ?أيضاً- مرتبط لدى البنك بالتأمين الزراعي، فالبنك يشترط التأمين على المحصول شرطاً أساسياً لحصول المزارع على التمويل، فضلاً عن التجديد، والرهن.
فك الاحتكار

ظل المزارعون مراراً وتكراراً يشكون من قضية التأمين الزراعي، وإلزاميته، وحكره فقط على شركة شيكان، فقد كانت لهم تجارب سابقة مريرة مع الشركة من بينها قضية تقاوي زهرة الشمس الفاسدة، حيث رفضت الشركة الدفع للكثير من المزارعين المؤمنين في ذلك الوقت، ودار جدل كبير حول هذه القضية، أيضاً طالب المزارعون بفك الاحتكار للتأمين الزراعي من شركة شيكان، وجعله كمنافسة عامة، للتجويد وتقديم المزيد من الخدمات، ومن هنا كانت دعوة نائب رئيس الجمهورية حسبو محمد عبدالرحمن لمعالجة مشكلة التأمين الزراعي، وتدخل المجلس الوطني، فدخلت لأول مرة “الشركة التعاونية للتأمين” و”شركة النيلين” في التأمين الزراعي بعد أن كان حكراً على “شيكان”، قرار فك الاحتكار جاء بعد خلافات حادة، ومعركة طويلة قادها المزارعون في هذه القضية- كما أسلفنا، وقد خلق قرار فك الاحتكار راحة نفسية لدى المزارعين، ربما بسبب الاحتقان الذي كان قائماً بينهم وشيكان، وربما لمسألة نفسية هي مسألة الاحتكار، ووطأته عليهم وإحساسهم به، ومع ذلك بعد القرار بفك الاحتكار فضَّل بعض المزارعين طواعية التأمين على محاصيلهم لدى شيكان، وخاصة كبار المزارعين منهم، بل وكان بعضهم ممن قاد المعركة في القضية، قابلنا مدير التعاونية للتأمين بولاية القضارف علاء الدين الأمين وقال لنا: “الشركة التعاونية تدخل الآن لأول مرة في تجربة التأمين الزراعي بالقطاع المطري”، في تعليقه على فك الاحتكار، قال الأمين : “إن المزارع سيتفيد بالطبع جودة في تقديم خدمة التأمين الزراعي بعد فك الاحتكار، وسيخلق منافسة بين الشركات وستحاول كل واحدة إظهار مقدرتها في تقديم الخدمة، بمحفزاتها وجودتها، واعتقد أن المنافسة ستكون في الأداء وليس المساحات”، هل لقرار فك الاحتكار ميزات وإيجابيات أخرى غير تجويد الخدمة المؤمن عليها؟ مدير فرع التعاونية للتأمين بالقضارف أجابنا بـ(نعم)، زاد قائلاً : “أحب أن أوضح هنا أن معدلات الأمطار العالية شجعت المزارعين للإقبال على التأمين، كما أن السياسة التمويلية التي أصدرها البنك الزراعي مبكراً ? أيضاً – ساعدت في إعداد مبكر، ولكننا كنا أول شركة أصدرت وثيقة للتأمين، وقمنا بالزيارات الميدانية في وقت مبكر، وسلمنا الوثائق للمزارعين في وقت وجيز، بل إن أتيامنا تسلمها للمزارع في داخل أرضه الزراعية مع الزيارة، وهذا مايقودني للإجابة على سؤالك في إن إصدار وثائق التأمين في وقت مبكر أدى لمحاربة بيع (الكسر) و (الكتفلي)، إذ أن المزارع سيتحصل على تمويله سريعاً ومباشرة من البنك بعد حصوله على التأمين “، وعدد مدير التعاونية إيجابيات دخولهم في التجربة بقوله: “ركزنا بصورة أساسية في تقديم خدماتنا للتأمين على صغار المزارعين والمنتجين، بل وكثير جداً من الجمعيات الإنتاجية التعاونية، وأستطيع أن أقول إنه بالنسبة لنا في الشركة التعاونية، فإن هذا الموسم هو موسم صغار المزارعين، ورغم أن عملية التأمين لهم هي مسألة مرهقة جداً، لأنك ستزور مساحات صغيرة ومتباعدة، بينما لدى كبار المزارعين فإنها مساحات كبيرة متراصة لشخص واحد “، وزارد الأمين قائلاً : ” هذا الاهتمام بصغار المزاعين خلق لنا إقبالاً متزايداً منهم، وسنضطر في العام المقبل لإنشاء قسم منفصل خاص بالتأمين الزراعي”، ذلك كان من أمر التأمين والتمويل، ولكن هل يستطيع المزارعون تطبيق التقانات الزراعية الحديثة التي تنادي بها الدولة لزيادة الإنتاجية ؟ الإجابة لا، من واقع مشاهداتنا وجولاتنا التي قمنا بها ؟ ونلاحظ أن الزراعة بالتقانات الحديثة المتكاملة مطبقة فقط لدى قلة من كبار المزارعين بالقطاع المطري ويطلق عليهم في القضارف “المزارعون الرواد”، هم يحصلون على معظم تمويل البنوك والبنك الزراعي بصفة خاصة، بينما البقية هي محرومة، ولا تحصل على التمويل الكافي الذي يعينها على الأخذ بنصيب الحداثة كالآخرين.
نواصل في الحلقة القادمة

التيار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..