الغنوشي. . مفكر إسلامي أم سياسي حركي حديث؟ الحلقة الأخيرة (3)

حيدر إبراهيم علي

يُعتبر كتاب(راشد الغنوشي) المعروف: ” الحريات العامّة في الدولة الإسلامية”، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، هو إسهامه الفكري الوحيد الذي اشتمل علي أفكاره الأساسية والتي قامت عليها كل مواقفه الأخيرة. وقد تعرضت للكتاب في لقاءات فكرية سابقة، كما أن كتابي: “التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية”، الصادر عن نفس المركز في طبعتين عاميّ1996و1999، هو دراسة نقدية لموقفه وغيره من الإسلاميين من الديمقراطية. ويتكون الكتاب في شكله العام، من مقدمة ل(محمد سليم العوا) وتمهيد وثلاثة أقسام وستّة فصول وخاتمة، وسبعة ملاحق.

هناك سؤال يطرحه المتابعون للكتابة عن عرض كتاب مهم: لماذا صدر هذا الكتاب في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا لم يتطرق(الغنوشي) للموضوع وهو الناشط في الحركة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي؟قد يكون السبب الأول شخصي، هو تجربة(الغنوشي) في السجن. فقد جعلته يتأمل في فكرة الحرية عامة ثم الحريات في العالم الإسلامي. بالإضافة لصعود حقبة تاريخية تهتم بالحريات والديمقراطية تسندها نظريات مثل ” نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات” مبشرة بعصر الليبرالية. وقد شهدت تلك الأيام تحديا لموقف الإسلام من الحريات، وذلك بصدور فتوى الإمام (الخميني)بقتل (سليمان رشدي)بسبب كتابه (آيات شيطانية).كما أن (مركز دراسات الوحدة العربية) أطلق في نفس الفترة،مبادرة للحوار القومي-الديني. وكان من أهم قضايا الحوار موقف التيارين:القومي والإسلامي، من الحرية،والديمقراطية، والمواطنة.

يواجه الكاتب مشكلة منهجية تتكرر عند الإسلاميين عموما، وهي التركيز علي ماذا قالت النصوص أي الكتاب والسنّة؟ولكن المهم ليس ماذا قال الإسلام ، بل ماذا فعل المسلمون بما قالته النصوص الدينية؟فالإسلاميون يهربون من قراءة التاريخ والواقع إلي قراءة النصوص فقط، وبأثر رجعي أي حسب الافكار الحالية المعاصرة،وخارج سياق عصرها. وحسب القراءة العلمية والمنهجية للتاريخ الإسلامي، لم تكن “الحرية هي قضية القضايا”. لذلك سيجد الفكر الإسلامي الحركي المعاصر صعوبة في أن يجعلها كذلك، كما يقول هو وصديقه مقدم الكتاب (محمد سليم العوا).ويعود ذلك لخلو التاريخ، والفكر السياسي الإسلاميين، وكذلك الفقه الإسلامي من اهتمام واضح ومباشر لمفهوم الحرية، والذي لايتردد كثيرا في الكتابات التراثية. فالفقهاء المسلمون الذين اهتموا بتفاصيل حياتية صغيرة تصل درجة تقديم الرجل اليمين عند دخول الحمام أو الطهارة من دم الحيض، لم يهتموا بالكتابة عن التداول السلمي للسلطة ، رغم أن ذلك الخلاف كلف المسلمين الآف الأرواح وحصد مئات الرؤوس.

إن قضية الحرية بمضمونها السياسي الشامل وليس مجرد تعريفها بأنها عكس العبودية، هي مفهوم حديث جدا في الفكر العربي الإسلامي، يمكن أن نؤرخ له بحملة (نابليون) في عام1798م. ففي اللغة كنا نجد فقط عند تعريف الكلمة: “رجل حر”أو “إمرأة حرة” مثلا، ولا نجد شرحا للحرية كإسم. ووردت في مجادلات أهل الكلام “حرية الإرادة”. وفي كل الأحوال لم تكن تعني الحقوق، خاصة الحق في اختيار الحاكم. فمن الملاحظ عدم اهتمام المسلمين الأوائل بالسياسة كعلم ومعرفة ، لذلك رغم ترجماتهم لكثير من التراث اليوناني القديم، أغفلوا ما له صلة بالسياسة. فهم لم يترجموا كتاب”السياسة”لأرسطو، و”جمهورية أفلاطون”ترجمت بصورة مختصرة ومبتسرة، كذلك كتاب “الأخلاق”. وكان من الطبيعي أن يكتفي المفكرون المسلمون الكلاسيكييون أمثال (الماوردي) بالأحكام السلطانية، ويكتبون: “تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المَلك وسياسة المُلك” أو” نصيحة الملوك” أو” قوانين الوزارة وسياسة الملك”. وهي جميعا تعتمد علي النصح لتجنب الحديث عن طبيعة السلطة أو الشرعية أو المشاركة، رغم ادعائه أنه يريد بحث ماهية السلطة.

ليس المقصود التقليل من قيمة الفكر السياسي، ولكن المسألة هي ماهي الأولويات في النظام الإسلامي؟لم تكن الأولوية للحرية خاصة بالمفهوم الذي نتداوله الآن. كانت الاولية لتثبيت أركان الدين الجديد وسط عداوات كاسحة بوسائل حربية وفكرية. ولذلك كان الجهاد، وحماية العقيدة من الردّة والزندقة والتجديف. وكان الحديث عن الفرقة الناجية الواحدة وتكفير أكثر من سبعين فرقة أخري. كما لم يكن غريبا أو” منافيا للديمقراطية وحقوق الإنسان” حسب معاييرنا الحاضرة، أن نقرأ في التاريخ: “أوصي الخليفة عمر للمقداد بن الأسود. قال: (أدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبدالرحمن بن عوف وطلحة، وأحضر عبدالله بن عمر ولا شيء له من الأمر. قُم علي رؤوسهم: إن اجتمع خمسة ورضوا رجلا منهم، وأبي واحد، فأضرب رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة ورضوا رجلا منهم، وأبي اثنان، فاضرب رأسيهما. إن رضيَ ثلاثة رجلا منهم، وثلاثة رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا (أي رفضوا)اجتمع عليه الناس”. هذا هو (عمر) أعدل خليفة وأرشد الراشدين، ولكنه كان لابد له من درء أي فتنة محتملة. فقد كان مطالبا بتأسيس الدولة الإسلامية وتثبيت أركانها ضد “لُقاحية” قريش. وهو وصف، حسب (هادي العلوى)، يستعمل لوصف الناس الذين لا يخضعون لسلطة نتيجة قرار يتفقون عليه بالدفاع ضد أي احتمال فرض السلطة عليهم من مصدر خارجي أو داخلي. (فصول من تاريخ الإسلام. نيقوسيا، دفاتر النهج، 1995: 367) .
بدأت مرحلة جديدة استمرت مع الحكم العضوض الذي دشنه (معاوية) وابتكر المعادل الموضوعي لصندوق الانتخابات الحالي، وهو السيف. ويكتب (أدونيس) :

أهل الكوفة
ولدوا سيفا يتقلد رأسا
رأسا يتقلد سيفا

ويقول الرواة أنه بعد أن حسم الصراع حول السلطة مع (الحسين بن علي) ، في طست، جاؤوا بالرأس، نصبوه في ساحات الشام، ويقول اشياعه: كسفت في ذلك اليوم، الشمس. ويقول السيوطي: “لما قتل الحسين، مكثت الدنيا سبعة أيام، والشمس علي الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضا”. أما المنتصر فدعا لمزيد من الرؤوس وتبارت القبائل، يقول الراوي: “احتزت كل رؤوس القتلي، جاءت هوزان بعشرين رأسا، تميم بسبعة عشر، كندة بثلاث عشر، ومذحج بسبعة رؤوس، بنو أسد بستة، وسائر الجيش بسبعة”. وهذا هو سجل الحرية حسب التاريخ والواقع، وليس كما دعت له النصوص وبشرت به.

يستهل (الغنوشي) كتابه بالقول أنه لم يكن من خطة المؤلف أن يقدم منظورا وبرنامجا لحزب إسلامي أو دولة إسلامية، ولكن مطلبه هو إدارة حوار مع الإسلاميين وغيرالإسلامين. ولكنه في نفس موقع هذه الدعوة يحيلنا إلي هامش (ص21)والذي يصيب القاريء بالدوخة والزغللة. فهو يقول: ” والمؤلف لا ينظر إلي المرحلة التي تعيشها تونس والبلاد المماثلة، إنها مرحلة استقرار تسمح بالتنافس بين مختلف البدائل والبرامج المرشحة للحكم، ولا هي مرحلة الصراع بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية. . فتلك أيضا مرحلة متقدمة من الصراع؛فنحن في حالة أشبه ما يكون بمرحلة الكفاح التحريري ضد الاستعمار. وحركتنا اليوم أشد، وضحاياها أكثر، ودور الفكر فيها أعظم لكشف الأعداء المتسترين بالوطنية والعروبة، وحتي الإسلام وهم الوكلاء الدوليون”. وهذا شكل آخر لتكفير المجتمع وجاهلية القرن العشرين، لأن هؤلاء الأعداء يشملون كل القطاعات والاتجاهات غير حقيقية بل متسترة ولا نعلم من له الحق في كشف الستر وتحديد الصادق من الزائف. والأهم من ذلك ما العمل؟يرد بأنه: “وقبل أن نبني دولتنا الوطنية الديمقراطية التي توفّر لكل مواطن حدّ الكفايةمن حقوقه كمواطن وإنسان (. . .) فيشارك بالتفكير والعمل في الشؤون العامة، وتنضج الخيارات والأطروحات، وتتبلور البدائل، وينفسح المجال للاختيار الحر وتحكيم الشعب (. . .) قبل ذلك لا مجال لأي جدل هامشي”.

يردد (الغنوشي) فكرة التثاقف بين الحضارات، ولكن يناقش قبلها التفاعلات والتأثيرت. ويكتب أن: “شعار نقل الحضارة إلي المتخلفين شعار المرحلة السابقة، ولكنه شعار لئن صلح في تقويض البنيان الشيوعي والإتيان عليه، فنقله إلي العالم الإسلامي والعربي علي وجه الخصوص يُشك إلي حد بعيد أن يفرز نفس الثمار أي الليبرالية، بل الأحرى أن يفك أغلال العملاق المكبّل الإسلام”. (ص19) يريد أن يقول أن الإسلام أقوى منه وسيهزمه. ولكنه يتناقض حين يصف محاولات الاصلاح والتأثر بالغرب بأنها استكانة واستسلام (ص40) .

ويستمر في نفس الاتجاه ليقول بأن إحدي مهام الفكر هي: “العمل علي بلورة المشروع الإسلامي المستوعب لثمرات الجهد البشري، متجاوزا مواطن الفشل والسقوط في الحضارة المعاصرة، ومنعها من سحقنا وهضمنا. ومنطلقنا هو مبدأ وحدة الأصل، والمصير البشري، واتساع الرحمة الإلهية للبشرية كلها. ” (ص20) وهذه الكوزموبوليتانية أو الكونية لا تمييز بهذه الطريقة بين المستغلين والمضطهدين، والأشرار والخيرين. ويقول أن بعد سقوط الشيوعية لم يبق غير الاسلام “أملا في امتداد الحضارة وتأنيسها بعد أن توحشت تقنياتها وسياساتها في ظل الفلسفة المادية التي قامت علي أساسها الحضارة المعاصرة (. . .) إن الإسلام وحده قادر علي أن يقدم الأمل والشفاء والسعادة في الدارين لعشرات ، بل مئات من ملايين البائسين في العالم، وقد عضّهم بنابه حتي أدماهم، . . . . . الجوع والمرض والمرض والأوبئة الجنسية الفتّاكة، والقلق، والعزلة، وانهيار الاسرة، والحروب الطاحنة، والخوف منها، والتمييز الديني والعنصري، والاستبداد السياسي، والتعذيب الوحشي، والتطهير العرقي، واحتمال حرب الكل ضد الكل”. (ص20). ولكن كل هذه الأدواء مستوطنة في العالم الإسلامي، وكأنه يصف حال المسلمين في كل مكان. فكيف يمكن أن يكون خلاص العالم في يد هؤلاء؟هذا هو الوهم الذي يعيشه الإسلاميون واليوتوبيا التي تجعلهم يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة. ويحاجج البعض بأن المسلمين حادوا عن الإسلام الصحيح. ولايجيبون علي أسئلة مثل: لماذا حدوا عن الدين؟أو لماذا وكيف تغلب الإسلام غير الصحيح علي الإسلام الصحيح؟ يروي أن (أبو جعفر المنصور) قرأ: ” عسي ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون”.

يخلط (الغنوشي) مثل جلُّ الإسلاميين بين نموذج النظام الرأسمالي والنظام الديمقراطية إلا إذا سلمنا بأن الديمقراطية والرأسمالية شيء واحد. حقيقة أن اغلب النظم الرأسمالية اختارت الديمقراطية أو الليبرالية لفائدتها في نمو الرأسمالية بلا قيود، ولكن هذا لا يعني مطلقا التطابق بينهما. ويوقعه هذا الخلط في الوقوع في الفهم السطحي والعنصري، فيصوره أقرب إلي الحيوان في ماديته. وبعد ان يشبعه تحقيرا وينفي وجوده كبشر، مستشهدا بغارودي: “العالم بدون إنسان”. (ص35)ويعرّف الغرب بأن المقصود: “هو هذه الفلسفية المادية وما تولّد عنها من علاقات تقوم علي القوة والمنفعة والرفاه، ومن نظام دولي يقوم علي الهيمنة ونهب خيرات الضعفاء وتدمير ثقافتهم”. (هامش رقم7 ص34) ولكن يستدرك أن هذا هو التوجه العام، إذ يوجد افراد غربيون يرفضون هذا الغرب. وفي الحقيقة، عقدة (الغنوشي)والإسلاميين ليس من مادية الحضارة الغربية ولكن من عقلانيتها التي انتجت هذه المادية بايجابياتها وسلبياتها. ففي موقع آخر يكتب: “أكدت أبحاث الفيلسوف الالماني كانط، ومن قبله، بوقت طويل ابحاث إبن خلدون عجز العقل عن إدراك حقائق الأشياء، ودعوتهما إلي قصر عمله علي عالم الظواهر”. ويري أيضا أن البحث العقلاني يجب ألا يبحث في ماهية الإنسان، لأن ذلك: ” ليس من شأنه إلا الإفضاء إلي العجز والتردّي في الخلط والتناقض، وما لا طائل وراءه بسبب عدم تأهّل أدواتنا المعرفية لإدراك الماهيات”. (ص31) .

يقوم (الغنوشي) ورفاقه الإسلاميون بعملية فصل تعسفي بين المادي والروحي في الإنسان وفي الحضارات أيضا. فكثيرا ما يتحدثون عن الإنسان الغربي المتقدم ماديا والنمحط روحيا، يقابله المسلم المتقدم روحيا والمتخلف ماديا. وهذا يعني أن المسلمين تقتصر عليهم الأخلاق والقيم والتدين بينما يعوزهم العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والإنتاج. وهذه محاولة فاشلة لتبرير التخلف والبحث عن عزاء، فالغرب هو الذي أعطي البشرية القوانين والدساتير الحديثة، والديمقراطية، ومنظمة العفو الدولية، وأطباء بلا حدود، ومنظمات الإغاثة الإنسانية المنتشرة في كل أرجاء العالم، وتمتع البشرية بكل أنواع الفنون والفكر والأدب. هذه هي الروح الحقيقية، وحتي الدين كتجل للروح ليس غائبا في الغرب، ومازال الفاتيكان يؤثر علي كل أحداث العالم موظفا لقوة المادي في الغرب. وينقل (الغنوشي) و (العوا) هذا الفصل لقضية الديمقراطية بالدعوة للفصل بين الوسائل والاجراءات (المادي)وبين المبادئ والأفكار (الروحي) ، ونقرأ في المقدمة: “. . . حيث يجوز دائما الإفادة من حصيلة تجارب البشر دون نظر لعقائدهم في الأولي (أي الاجراءات والوسائل) ويمتنع دائما التقليد المفضي إلي مخالفة أحكام الإسلام ومبادئه ومقاصده وقيمه، في الثانية، هذه التفرقة واضحة تمام الوضوح في فكر دعاة الإسلام الذين يعبر عن موقفهم أصدق تعبير أخي راشد الغنوشي في ثنايا هذا الكتاب”. (ص14) . ويؤكد (الغنوشي) هذا الموقف متناقضا مع التثاقف والتأثير والتأثر مع الآخر، فيكتب: “أما إذا تجاوز الأمر الأشكال والوسائل والإجراءات، وتعلّق بعالم الأفكار والقيم، فإن موقف الشك والتثبت في زمن التبعية ةالاستلحاق الحضاري الذي تعيشه أمتنا هو الموقف المناسب والضروري مع حضارة المتغلب، وفي هذا الصدد لا غيره، ترد توجيهات الإسلام في الحرص علي مخالفة الكفار حتي عدّ شيخ الإسلام ذلك مقصدا من مقاصد الشريعة”. (ص26) .

وهنا يورد إبن تيمية : ” إن الشارع أمر بمخالفة المشركين مطلقا، وإن حسن المخالفة أمر مقصود للشارع”. ومع ذلك يكتب: “إذ يمكن للآليات الديمقراطية مثلما هو الأمر مع الآليات الصناعية باعتبارها إرثا إنسانيا أن تعمل في مناخات ثقافية وعلي أرضيات فكرية مختلفة”. (ص88) . ويسعي من خلال توفيقية مستعصية أن يرفع تناقضاته وأن يمرر الديمقراطية الأداتية. وهنا اتفق مع الررأي القائل بثنائية (الغنوشي) والتي تتمثل في المراوحة بين الموقف العلمي وبين الهم السياسي، وبين النظرة الواقعية العقلانية وبين النظرة المثالية الطوباوية. (نورالدين العويديدي، مجلة الإنسان ، العدد 13، مارس 1995، ص95) .

أما الثقب العظيم في الكتاب وفي فكر (الغنوشي) فقد ظهر في الجزء الخاص بالسودان، والذي عنونه: “الحركة الإسلامية في السودان وأنموذج الحكم في السودان” .(ص282 وما بعدها) . فهو يكتب مبررا الإنقلاب الإسلاموي من خلال تبخيس فترة الإنتفاضة الشعبية والتجربة الديمقراطية الثالثة (1986-1989) التي يقول عنها: “. . . وأهم من ذلك بالقياس إلي ما أنجزته الحركة الإسلامية خلال ثلاث سنوات (أي في عام1992 وقت التأليف) من استلامها الحطام السوداني الذي تناوب عليه حكم عسكري فجّ بلا فكر ولا روح، وحكم ديمقراطي شكلي هو عبارة عن غلاف رقيق مخرق من الحداثة التي تخفي وراءها التخلف والقبلية والإقطاع الديني في أكثر أشكاله إنحطاطا في العالم”. (ص282) . وفي خلال ثلاث سنوات من حكم الإسلاميين تغيرت الصورة تماما بسر حرف كُن ومساندة السماء، ويعلن الغنوشي: ” لم يمر علي استلام الحركة الإسلامية هذا الحطام غير ثلاث سنوات، حتي كادت هذه الصورة عن السودان أن تتواري، فالتمرد أًدب بحزم، فتمزق شر ممزق ونزل عن كبريائه صاغرا يطلب الصلح لأول مرة (. . .) والحياة الاقتصادية التي كانت تقوم علي التسوّل انبعثت فيها حياة جديدة سواء علي مستوى ارساء البنية التحتية، أو الضبط الإداري، أوتحريك قوى الإنتاج وتفعيلها حتي حقق البلد لأول مرة إكتفاء في سبع سلع أساسية، وبدأت عملية التصدير وبركات الإسلام تفيض. وثورة مماثلة علي مستوى الخدمات الاجتماعية كالتعليم حيث تضاعفت الجامعات، أو الصحة أو العمل الطوعي”. (ص283)ويسمية التجربة السودانية “طريق الاجتهاد الثالث”، والذي يعرفه بقوله: “إنه الطريق الذي يتجاوز ويطوي ملف التجربتين الفاشلتين في تاريخ السودان، اللتين أوشكتا أن تطيحا به إلي الأبد، أي النظام العسكري والنظام التعددي. إنه طريق الديمقراطية الشعبية التي تتم ممارستها عبر نظام المؤتمرات الشعبية”.(ص284) . وللقارئ الكريم أن يتصور أن قائل هذه الأحكام، قد توج هذا العام بجائزة (إبن رشد) للفكر الحر. وبالتأكيد أن لجنة التحكيم لم تتابع إنتاج الشيخ(راشد الغنوشي) جيدا أو أن لها أهدافا أخري لا صلة لها بالفكر الحر.

يجسّد كتاب(الغنوشي)عن: “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، مأزق الإسلاميين في التعامل مع الحداثة وفي عصر العولمة. ويلجأ الإسلاميون للإختباء خلف اللغة واستغلال أو توظيف مرونة اللغة وومترادفاتها . ومن خلال ذلك، ممارسة لعبة المصطلحات والمفاهيم مع عدم الانضباط والدقة . ففي لغة تستطيع أن تجد للأسد فيها عشرات الأسماء، يصعب عليها أن تكون دقيقة وقاطعة في ضبط المفاهيم غير الأدبية. . ولذلك يتجول الإسلاميون في المفاهيم والمصطلحات بلا قيود. ويقومون بعملية مزدوجة صعبة، وهي تقديم افكار جديدة في ثوب قديم، والعكس أيضا : تقديم أفكار قديمة في ثوب جديد. رؤية الإسلاميين للعصر مهزوزة ويتداخ فيها القديم والحديث، وهم يعيشون الحقبة التي يسميها علماء الاجتماع (اللامعيارية) أو (anomie) وهي أيضا العملية الفكرية والاجتماعية التي يسميها المفكر الإيراني(داريوس شايغان) ب(التصفيح) والذي يعرّفه: “هو في الغالب عملية لا واعية، يتم من خلالها وصل عالمين متباعدين لدمجهما في الكل المعرفي المتناسق”. أم كيف يعمل التصفيح؟فهو يمكن “أن يجري بطريقتين متعاكستين، ولكن نتائجهما تبدو واحد نسبيا. فهو يمكنه أن يصفح إما خطابا جديدا (حديثا) فوق مضمون قديم، وإما علي العكس، خطابا قديما (سلفيا)فوق تصميم جديد” .(النفس المبتورة، بيروت، 1991، ص94).ويتحدث عن التأسلم والتفرنج والذي قد يندمج في واحد ويتشابك مع جذرين معرفيين مختلفين أو مثل عكس فيلمين متناقضين علي شاشة واحدة. هذه هو التشوش الفكري و”زغللة” الرؤية ، التي يعيشها الإسلاميون حين يحاولون الانتقائية والتوفيقية حسب مزاجهم وليس وفق ضرورات التاريخ والواقع.

في النهاية، أجيب علي تسؤال العنوان، بالقول إن الشيخ (راشد الغنوشي)ليس مفكرا مجددا، وهذا سبب اعتراضي علي منحه جائزة (إبن رشد)، ولكنه سياسي حركي إسلامي مجتهد ومتقدم علي كثير من رصفائه في الحركة الإسلامي. وقد كنت من أوائل من كتب عنه من هذه الزاوية الايجابية. ولكن هذا هو حجمه الحقيقي في موازين الفكر والسياسة. فهو مؤمن بالديمقراطية الأداتية وليس الديمقراطية الفكرية أو الفلسفية، كما قال ذلك صراحة، هو ومقدم الكتاب (العوا).ف(الغنوشي) قابل بقوانين اللعبة الديقراطية حتي الآن ولو أفقدته السلطة. فالغنوشي مازال في مرحلة (التجربة والخطأ) (trial and error) ، في التعامل مع الديمقراطية والحداثة، ولم يحسم أمره. وقد يقفز مثل كل الاسلاميين علي مرحلة الحداثة كلها إلي مرحلة “ما بعد الحداثة” للاستفادة من نقدها لعقلانية عصر التنوير، لكي يرفضوا العقلانية حصرا بسبب عدم قدرة الإيمان علي استيعابها كاملة. وهذه هي أزمة الإسلاميين ومعضلتهم الفكرية.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. رايك شنو في فكر محمود محمد طه الذى لا يعرفه العرب والمصريين استكبارا يا صاحب مركز الدراسات السودانية في القاهرة ؟هل بكون الغنوشي اطلع عليه ؟
    ونحن مالنا ومال ودا وسواعا ويغوثا ويعوقا ونسرا
    هل ستحتفل بذكرى رحيل محمود محمد طه 18 يناير 2015 في المركز؟

  2. لله درك يا دكتور حيدر في قولك (يواجه الكاتب مشكلة منهجية تتكرر عند الإسلاميين عموما، وهي التركيز علي ماذا قالت النصوص أي الكتاب والسنّة؟ولكن المهم ليس ماذا قال الإسلام ، بل ماذا فعل المسلمون بما قالته النصوص الدينية؟فالإسلاميون يهربون من قراءة التاريخ والواقع إلي قراءة النصوص فقط…) مصداقا لقولك عما فعله المسلمون منذ عهد الصحابة في الواقع انظر لهذه النماذج :
    – الصّحابي الذي بايع الرّسول تحت الشّجرة أبو الغادية يسار بن سبع السلمي رضي الله عنه قتل الصحابي عمّار بن ياسر رضي الله عنه …
    – الصّحابي الذي بايع بيعة الرّضوان عمرو بن حمق الخزاعي رضي الله عنه قتل الصّحابي عثمان بن عفّان رضي الله عنه..
    – الصّحابي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قتل الصّحابي حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه..
    – الصّحابي مروان بن الحكم رضي الله عنه قتل الصّحابي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه..
    – الصّحابى معاوية بن حديج بتحريض من الصّحابي عمرو بن العاص رضى الله عنه قتل الصّحابى محمّد بن أبو بكر الصدّيق و أحرق جثّته رضى الله عنه..
    طبعا كل هؤلاء يعرفوننا بالحرية وقتها و كلهم فى الجنّة و الذي يقول غير ذلك فهو كافر ملعون …
    الغنوشي نموذج للظلامي الذي يتحدث عن الأنوار و مثل الذئب يلبس ثياب الحمل …

  3. يا استاذ انصحك بكتاب “الحرية او الطوفان” لحاكم المطيري.
    وتابع كتاباته فجهلك بنتاج الاسلاميين السياسي ومفهوم الحرية لديهم على مر العصور جهل مركب !

  4. سلام
    شكراً د.حيدر، الفقرة الخاصة بالسودان في كتاب الغنوشي وكما أسميتها ” الثقب الكبير” وحدها كافية لتبيين إنتهازية الرجل وبعده عن الايمان بالحرية أو الديمقراطية وكان أجدر أن تسميها ( الثقب الأسود ).
    انظر قوله: “حتي حقق البلد لأول مرة إكتفاء في سبع سلع أساسية، وبدأت عملية التصدير وبركات الإسلام تفيض.” هل هناك دجل أكثر من هذا، قال بركات الاسلام مرة واحدة ولم يقل بركات الاسلاميين.

  5. من الغريب ان الدكتور كاتب المقال ذكر ((أوصي الخليفة عمر للمقداد بن الأسود. قال: (أدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا رؤوسهم: إن اجتمع خمسة ورضوا ………… عمّا (أي رفضوا)اجتمع عليه الناس”. هذا)) هو (عمر) أعدل خليفة وأرشد الراشدين،
    و نسي تعامل عثمان بن عفان رضي الله عنه مع الثوار القتلة بلين و نهيه أهل المدينة عن قتالهم حقنا للدماء و حفاظا على حرية التعبير!! حيث قدم هؤلاء الى المدينة المنورة في رجب من عام 35 من الهجرة وفي نيتهم مناظرة الخليفة في المدينة أمام الناس لبلبة الآراء، وإشعال نار الفتنة بها، واستطاع عثمان خلال تلك المناظرة أن يبطل دعواهم وشبهاتهم بصورة قوية أخزت الثائرين، ولم يأخذهم عثمان بالشدة رغم قدرته على ذلك وجواز ذلك شرعًا لأنهم أشرار يريدون شق الصف المسلم، وانصرف الثوار خائبين، و لكنهم عادوا مرة ثانية و قتلوه
    أما قصة وصية الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فلا أدري لماذا لجأ الكاتب الى رواية ضعيفة و فيها من الكذب ما فيها و ترك الرواية الصحيحة في صحيح البخاري :
    قالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذلك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز لا خيانة ـ إلى أن قال ـ لما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فاسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم قالا: نعم. … الحديث

  6. شنو يااستاذ؟ عامل لينا موضوع بدون موضوع, شايفك متاثر بالغنوشي دا كتير كدا ليه؟ وعامل من موضوع, خلاص المواضيع اللعندك انتهت ولا قربت تنتهي, عليك الله لو عاوز القراء يقرؤ ليك موضوع شوف ليك حاجه تستهال القراءة, نحن الفينا مكفينا ومفضل, والباقي المفضل داء المفروض هم الياخدوه وكفاية قبل كدا هو اخد جواز سفر بواسطة شيخه وشيخك, وشكرا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..