شكر الأقرع: ثمن خيانة الأصدقاء!

تسللتُ، في أواخر ذلك الصباح البعيد، من شهر فبراير، مغادرا مبنى ما درج حامد عثمان وأمثاله على أن يطلقوا عليه بكثير من السخط اسم “سفارة النظام الديكتاتوري الطفيلي الغاشم الرجعي حد التخاذل”، في جاردن سيتي. ولو علموا بما فعلت هناك لأطلقوا عليَّ بدوري ولا بد اسما أشبه في طوله وبؤسه واتساخ كلماته المتعاقبة بقطار “نيالا”. وكنت، بالضبط، مثل ذلك الأعرابي، الذي رجع، وقتها، إلى أهله، وقد فقد دابته وما حملتْ من خير، بخفيّ حنين. لا شرفا أبقيتُ ولا مالا في مقابل ضياع الشرف “الرفيع” جنيت. أو لنسمي الأمر بعبارة أخرى “خيانة طوعية غير مدفوعة الثمن”. أي لم يتذوق صاحبها حتى “شربات الضيافة”. وإذا أنت كنت في مكان أولئك الرجال الثلاثة الذي حققوا معي داخل السفارة شَبِعَا لا تني تتجشأ فالأغلب أنّك لا تفكر أن الرجل الذي يجلس الآن قبالتك إلى مائدة المفاوضات نفسها في حاجة ماسة إلى أشياء ثانوية ليست بذي بال مثل الطعام.
وهذا أكثر إن لم نقل “أشد ما يحزن”.
وضعتُ إذن مبنى السفارة اللعين ذاك خلفي، وبدأت أغذي خطى الخيبة تباعا، في اتجاه مبنى “وزارة التربية والتعليم”، حيث تقع قريبا، من هناك، محطة مترو أنفاق سعد زغلول، أو ذلك الزعيم السياسي المصري الراحل، الذي ظلّ يضع على رأسه وفق معايير الرفعة السائدة وقتها ولا بد طربوشا تركيا مقرونا بلقب “باشا”، والذي طلب، هو أسير فراش الموت لحظتها، من زوجته ورفيقة درب حياته السيدة صفيّة، أن تشد “اللحاف” عليه وتغطيه، بنبرةِ صوتِ المحتضر المفارق تلك نفسها، قائلا:
“مفيش فايدة”.
كانت صفية في حاجة ماسة كما أتخيل إلى ما قد يُعضّد لها فكرة وجود أمل ما في هذا العالم بعد رحيله ذاك خاصّة. وكان عليَّ في المقابل أن أعبر شارع قصر العيني ذي الاتجاهين، على أمل أن حظوظي لا تزال في تلك الساعة كبيرة، في ألا يضبطني أحد المعارضين إيّاهم، لأنّهم عادة ما ينفقون معظم الليل، في حلّ مشكلات العالم المستعصيّة، وما تبقى من مزق الليل يبددونه غالبا، في تجديد تلك المعارك الصغيرة الطاحنة، التي لا تنتهي، من شاكلة “أنت بعت القضيّة، يا هذا”، أو “لقد تمّ ضبطهما معا”، وقد أسكرهم العرقي الأرجح، فيواصلون النوم السعيد، إلى وقت متأخر، من نهار اليوم التالي، ليجدوها هي نفسها في انتظارهم، قابعة كقدرٍ ولا فكاك عند أقدام السرير مباشرة، وأعني جملة تلك المسائل اليومية المتعلقة، بتدبير شؤون الأكل والشرب وإيجار المسكن، ليدركوا جيدا أن هذا العالم مثقل ولا بد بأحزان كثيرة لا مبرر لها، حتى لا يسمح للنبلاء الثوريين في بعض الأوقات بإمكانية تغييره نحو الأفضل، وهذا على الأرجح ما يحزن أكثر فأكثر، حتى أن المرء ليقول أحيانا: “مفيش فايدة، يا صفية”.
كانت لا تزال عالقة هناك، كداء الجرب على جدار روحي، بقايا شعور ذكرِ نملٍ أغبر يرغب، بطموح كبير، في الأذى، وهو يخاف، وقد وعي تماما مدى صغر حجمه البائس الضئيل ذاك، من الدعس، أي أن يتمّ اكتشاف أمر شروعي ذاك متلبسا بالخيانة العظمى ولا بد، في اللحظة نفسها، التي أغادر فيها مبنى السفارة، وإذا حدث ذلك، كان من الممكن جدا أن يكون أمرا، والعياذ بالله، بمثابة الكارثة المحققة. وبعبارة أخرى، ولكنها شاعرية نوعا ما، كنت في تسللي خارجا عبر باب السفارة اللعين ذاك، وهذا بيني وبينكم، أشبه بواحدة “آنسة”، من بيت حسب ونسب شهير، تدعى مها الخاتم، تعشق الجنس في الكتمان، وتخاف في آن أن تحمل. “استغفر الله التوّاب العظيم”، فأنا أبدو هنا وللمرة الثانية، مثل الفاجرة مها الخاتم نفسها، أحب القطيعة والنميمة، حد أن أبتلع ريقي وترتجف أصابعي لحظة سماع إحدى تلك الفضائح “الفاتنة”، وأخاف في آن “والله غفور رحيم” من الحساب يوم القيامة، إلى درجة أنني أقول أحيانا:
“ما هذا الإنسان اللعين الذي هو أنا”؟
مع كل خطوة أبتعد بها راحلا، عن حرم مبنى السفارة اللعين ذاك، كان يقوى ضوء ذلك الأمل البهيّ، في ألا يراني أحد أولئك الأشقياء، قاتلهم الله. إلا أن الأرض انشقت، بأسرع مما توقعت، عند محطة بنزين قريبة، عن أحد أولئك العميان الثلاثة، وكان يقوده (لحسن حظي ربما) رجل غريب، وقد بدا بالفعل كما لو أنّه حديث عهد، بجملةِ ألاعيب الريبة القاهريّة تلك، لأنّه كان معنيا أولا وأخيرا وحتى النهاية بقيادة ذلك الأعمى اللعين، بأكثر من أي شيء آخر، حتى أنّه لم يلتفت إلى وجودي المذعور، وأنا أمر مواصلا السير في الاتجاه المضاد، على بعد أقلّ من متر واحد منهما، وقد تصاعدت نسبة إفرازات الخوف في دمي، عندما صمت الأعمى المشهور بالثرثرة فجأة، وتوجه بأنفه نحوي. لقد خشيت أن يتعرّف عليَّ (ابن الزانية) بالرائحة فقط من كل ذلك القرب. فأنت حقا لا تعرف على وجه التحديد إذا تعطلت بعض الحواس بالذات لدى أمثال أولئك الأوغاد ما يمكن أن يكون عليه عمل الحواس الأخرى من قوة إضافية مكتسبة.
يقينا يمكن لهذا الأعمى اللعين بالذات أن يتأكد من حسن سير قدرته على صناعة المشكلات من العدم. كأن يسأل ذلك الرجل الغريب الذي يقوده كما لو أن الأمر يحدث عفوا عمّا إذا كان يرى “سودانيا” وهو يمر الآن بالجوار. وسيلتفت الغريب اللعين لحظتها ويراني أنا الميت في رعبي ذاك على وجه الخصوص ويقول همسا ولا بد “نعم هناك سوداني مر بنا للتو”. والأعمى الخبيث سيسأله:
“هل يمكن أن تصف لي ما ملامحه؟”.
وهنا بالذات ستقع الكارثة. لأنني وببساطة أبدو كرجل بملامح متميزة “جدا”. بمعنى أن أي إنسان إذا رآني مرة واحدة، أقول “واحدة فقط”، ومهما كان هذا الإنسان غبيا، إلا أنّه سرعان ما يمكنه التعرّف على شخصيتي “البارزة”، حالما يراني للمرة الثانية فقط، حتى لو فصل بين اللقاءين اليتيمين (الأول والأخير) نحو العشرين سنة، لأنني وببساطة شديدة أبدو بالفعل ألصق شبها بأي أرنب لعين آخر يمكن أن يخطر على بالك الآن. يقينا وأنا لا أمزح هنا أنّك حتى كنت ستفكر أن ترميني ولا بد بأقرب حجر إذا ما برز لك وجهي وحده من داخل غابة مرتفعة مقدار نحو المتر من الأعشاب الكثيفة المتشابكة. لدرجة أنني أستغرب حتى هذه اللحظة لماذا لا يبادرني النّاس بعدُ بسؤال من شاكلة:
“كيف حالك اليوم، يا شكر الأرنب؟”.
كان كل شيء قد توقف في داخلي ومات، إلى أن عبرت شارع قصر العيني، وبدأ عقلي يعمل بعد مرور نحو دقائق، وهو يوضح لي أنني “في الواقع” كنت خائفا بأكثر مما ينبغي، وأنّهما (الغريب والأعمى اللعين)، كانا ولا بد في الطريق إلى مبنى السفارة الكنديّة القريب لاستكمال إجراءات لجوء الأعمى، كما يشاع، إلى كندا. هكذا، أو أخيرا، تنفست الصعداء، وبدأت أشكر لله للتو والحين تاليا لوجود مثل تلك اللفائف العجيبة الرخوة التي تتغذي على السكريات داخل جمجمتي، والتي يشير إليها البعض أحيانا باسم “المخ”، ذلك أن للأعمى اللعين شؤون أخرى، وأنّه لم يتواجد لحظتها هناك، بصحبة ما بدا لي شاهدا، وفقط لرصد “الخونة” من “عملاء السفارة”، من أمثالي.
زمان جاء هذا الأعمى إلى القاهرة مبصرا، كزرقاء اليمامة في حدة بصره وجلاء رؤيته، هاربا بجلده وفي معيته أسرته الصغيرة من الكويت، أي بعد الغزو العراقي المباغت لها، وكان في جعبته (والعهدة للراوي) مبلغا كبيرا من الدولارات الأمريكية، قيل إنه كان يملأ “شنطة سفر صغيرة”، حيث ظلّ الأعمى يؤمّن معيشته، في المنفى القاهريّ، من أرباحها المنتظمة فقط في البنك، أي أن مثله في ذلك مثل أي “واحد رأسمالي آخر قذر”، قد تمّ رصده والتعرف عليه، بمثل ذلك الغلّ الثوريّ الماحق، بواسطة رفاق ورفيقات، تلك الأيام.
بعد مرور نحو أسابيع قليلة، على استقراره في القاهرة، وقد نفد أخيرا خمر “الأسواق الحرة”، تناول ذلك الهارب من الكويت جرعات كبيرة متتابعة، من زجاج خمر مصرية مغشوشة، ففقدوا تماما نعمة البصر، هو والاثنان الآخران، اللذان كانا في صحبته، ولم تمضِ سوى سويعات، على تناولها. كان العالم الأليف الغارق في الليل وراء النافذة آخر ما رآه وانطبع على ذاكرته عبر بصره المنسحب بعيدا مرة واحدة وإلى الأبد.
وقتها، أو كما لو أنّهم كانوا في انتظار حدوث مثل تلك النكبة، أخذ النّاس، من بين جموع أولئك المنفيين، وكان المنفى عوَّدهم على النظر إلى مصائب الغير بوصفها نجاتهم، يتداولون سرا فيما بينهم شيئا، عن “عدالة السماء المحققة”، التي عاقبت الأعمى ولا بد، على سرقة “شنطة أحد أولئك الشيوخ الكويتيين الفارين وقتها بما خفّ أو حتى بثيابهم البيتية وحسب، فالأمر سيّان، حين يتعلق الأمر بمسألة البقاء على ظهر الأرض غنيّا أو مفلسا”، المهم أن تظلّ حيّا. ولم تكن تنقص مطلقي الشائعة صناعة الحجج والمبررات: “كيف يمكن أن يتحصَّل بربكم مجرد سائق عربة أجرة في الكويت على شنطة مكتظة بالدولارات في ظرف أقلّ من الثلاث سنوات من العمل المتباعد المتقطّع؟”.
كان أغلب أولئك المنفيين في القاهرة يتفاعل مع مثل تلك الحجج المتعلقة بتقييم وضع الأعمى المالي، بما بدا قابلية طبيعية للتصديق، ربما لأن سوادهم الأعظم لم يكن قد رأى في حياته كلها ورقة نقدية من فئة المائة دولار، ناهيك عن لمسها، اللهم إلا عبر الصور، أو مشاهدة أفلام المافيا القديمة. لما وصل الأعمى، في معية أسرته، إلى مطار تورنتو، وكان يجيد التحدث بالإنجليزية مثل وغد، أعلن أمام موظف الهجرة الكندي عارضا أمانته أن بحوزته مبلغ الخمسين ألف دولار أمريكي. أصابني ذلك النبأ بإسهال لمدة ثلاث ليال. كان من باب التضحية الثورية البحتة إنفاق مثل ذلك المبلغ على أيتام الحزب في القاهرة والمؤلفة قلوبهم من أمثالي. إذ طلب منه موظف الهجرة ببساطة أن ينفق “هذا المبلغ”، يا “مستر”، على نفسه وأسرته أولا، لتصرف له إعانة اللاجئ تاليا، أي عند زوال آخر مليم من بين حصيلة تلك الدولارات اللعينة.
[email][email protected][/email]