الطّغاة ولعنة الشّعوب : رسالة للعِظة والإتِّعاظ

عبدالرحمن صالح أحمد(أبو عفيف)
قِيل أنّ الشعب عادةً لا يحتفى كثيراً بإنجازات الحُكّام , لكنّ تستنطقه عثراتُهم وسوءُ تصرفهم . ولذلك قال بعض الفقهاء أنّ حاكماً كافر عادل خيرٌ من حاكمٍ مسلم ظالم , لأنّ العدل والظلم يقعان على عامة النّاس , والكفر والإسلام يختصان بالحاكم . لعلّنا نتحرى الإتّعاظ من حُكّامنا فى هذا العصر بتاريخ من حكموا الشعوب من قبلهم , ولعلّ حسن الخاتمة وسوءها أجدر بالتأمل . فمنهم من مات فى صلاته , ومنهم من مات سكراناً . وقد يختلف بعض الناس مع المتنبي فى قوله :-
” إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌ … فَمِنِ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا “.
لأنّ فلسفة الموت عند المتنبى قد تكون متفردة فقط بالشجاعة والإقدام من غير إعتبار للأخلاق السمحة , كما فعل هتلر عندما أقدم على الموت بصدرٍ مفتوح , لكنه مات منتحراً و هذا من المعاصى عند المسلمين , خلاف ما فعل الخليفة عمر عبدالعزيز عندما أُخْبِر بالمؤامرة التى تحاك ضده لإغتياله قال : “اللّهم إنْ كنت تعلم أنّي أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي”. إذن فلسفة الموت عند عمر عبد العزيز تستوجب تجاوز فكرة الموت عند المتنبى وهتلر ,(من العار أن تموت جباناً وخائناً) أىّ خيانة الشعب .
قُتل عثمان بن عفان , رضي الله عنه , وكان يُدرك أن القوم يتربصون به لقتله , فلم تأخذه شوارد الدنيا وبهاءها , بل أستمسك بعهده مع الله والرعية , أستقبل الفاجئة وهو صائم فمات شهيداً . وتوفى المشير عبد الرحمن سوار الدهب وهو مستمسك بعهده مع الشعب , فدُفن فى أطهر بقعة على وجه الأرض , وهى البقيع جوار الرسول صلى الله عليه و سلم . حتى الحُكام من غير المسلمين لا يُستثنوا من الثواب الدُّنيَوِى لتمسكهم بالأخلاق العامة مثل العدالة وعدم النكوث بالمواثيق , لأنّ الأحكام التى تقوم عليها منظومة الأخلاق العامة هى شروط بشرية فى المقام الأول لا تنحصر على المسلمين فقط , لذلك أكثر الحكام الذين ينتهى حكمهم بهدوء هم من ألتزموا بالمواثيق التى عقدوها مع شعوبهم مثل الأروبيين فى عصرنا الحالى .
وفى مقابل هذه الأمثلة نجد الطغاة عادة ما تكون نهاياتهم مأساوية , وذلك أرتبط بنوعية علاقة القادة بالرعية , عندما تمكّن إحد الفراعنة من قبضته على أمر الشعب , طغى وأستهوى الطغيان , وأخذته العزة بالإثم , فجعل من نفسه إلاهاً , وفرق الناس شيعاً وأستعبدهم , أنتهى به الأمر أن أصبح من أندر الأقاصيص التاريخية فى الطغيان وسوء الخاتمة.
رُبّما كان سوء خاتمة القادة مقروناً بالخيانة الشعبية (سرقة الثورة) , عندما أتّحدّ الفرقاء فى دولة المماليك لدحر الصليبيين بعد إحتلالهم دمياط والمنصورة , قاموا بتنصيب توران شاه خلفاً لوالده “الصالح أيوب” تقديراً لوالده , وإن كان فى إمكان “المماليك البحرية” أن يتولوا الحكم لأنّهم كانوا القوة الوحيدة التى حررت دمياط والمنصورة من الأحتلال بعد تخاذل الجند , إلا أنّ توران شاه غدر بهم , فأركتب الفظائع فى حق ” المماليك البحرية” قتلاً وتشريداً وأنقلب على بقية الشعب , أنتهى أمر توران شاة بأن تم قتله بأيدى الثوار فمات جريحاً ومحروقاً وغريقاً , وظلت جثته فى العراء لثلاث ليالٍ .
فى النصف الأوّل من القرن العشرين , برزت ظاهرة الطغاة الأيديولوجيين فى أوروبا و روسيا , طغى هتلر طغياناً أهتزت له أركان الأرض , نصب المشانق حتى لإصداقائه , أنشا الأفران البشرية , ما عُرف بالهوليكوست , فسِيقت حشود الأطفال والنساء إلى المحارق , فآخر ما أستطاع فعله بعد كل هذه المجازر أن قتل نفسه بنفسه . ويسرى هذا المثل على جوزيف ستالين رئيس الاتحاد السوفيتى , يبدو إنّه قتل نفسه كما فعل هتلر إذ وُجد ميّتاً وغارقًا في بوله بعد إنفاضة الشعب ، وهكذا بينيتو أندريا موسوليني رئيس إيطاليا , قُبض عليه و أُعدم ثم عُلِّق في العارضة رأسًا على عقب. ونيكولاي تشاوشيسكو رئيس رومانيا , تم القبض عليه بعد ثورة شعبية وإعدامه فى مجمع مراحيض .
أمّا فى الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت موجة من الثورات ضد الطغاة فى الشرق الأوسط: صدام حسين كان سليلاً للحجاج بن يوسف إذ قتل الناس بالشُّبْهة ولم يتح مجالاً لإستقصاء الحقيقة , أعطى حرسه كامل الحرية فى قتل الناس , أنتهى حكمه بأن تم القبض عليه من تحت جُحرٍ وصار معتقلوه يجِسُّون لهيته وفمه كما يُجسّ الخروف عند الشراء , و تم شنقه فى صبيحة عيد الأضحى , فى نفس البلاد التى قام فيها خالد بن عبد الله القسرى أحد ملوك بنى أميّة بذبح الجعد بن درهم أسفل المنبر فى صبيحة عيد الأضحى مخاطباً المصلين : إنّى مُضحيٌ بهذا فضحوا بأضاحيكم , وكانت هذه الحادثة من ملامح فساد بنى أمية ومن العوامل التى أدّت إلى إنهيار أكبر وأقوى دولة فى ذاك العصر .
كانت دولة القذافى من أكثر الدول التى توفر الرعاية الإجتماعية لشعبها و الدعم الأسرى , لكن بالمقابل هى أكثر الدول التى سلبت الكرامة من شعبها , وكان ذلك أحد محركات الثورة الليبية , فهبّ الشعب ضد القذافى , بعد سقوط طرابلس , هرب القذافي من العاصمة ولجأَ إلى أنبوب صرف , لكنّ لاحقته لعنة الشعب , وتم القبض عليه , هكذا أنتهى أمره أن تلاعب به الصبية فى الشوارع حتى الممات وكان يستجديهم أن يتركوه .
فى غرب إفريقيا , قام صمويل دو بإنقلاب عسكرى فى لبيريا فى 1980 علق فيه الدستور وترأس المجلس العسكري للبلاد ، أسس دو الحُكم على أساس عرقى وقام بتصفيات عرقية ضخمة . تدهورت أوضاع الدولة وثار الشعب عليه وعمّت حالة الإحتجاجات فى مونروفيا العاصمة حتى تم محاصرة صمويل دو , والقبض عليه بواسطة الثوار وتمت تعريته وتعذيبه فى الساحة العامة حتى مات .
الحُبّ الفاحش للسلطة يولّد الخوف من فقدان كرسى الحكم فى نفوس الحُكّام ويزيد من دوافع البحث عن الحماية , التى بدورها تؤدى إلى إزهاق أرواح البشر , وقد تتطور هذه الحالة إلى حالة مرضية , رادوفان كراديتش بعد إرتكابه مجازر ضد المسلمين فى البوسنة وتشريدهم من أجل السيطرة على البوسنة والهيرسك , فى نهاية المطاف تخلى عن كرسي السلطة هارباً من عواقب جرائمه, وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر قبض بحقه لإرتكابه جرائم حرب وتطهير عرقى , حينها تحوّل رادوفان كراديتش إلى متشرد حقيقى متقمصاً شخصية أخرى لمد 13 عام خوفاً من الجنائية , ما يجدر ذكره أنّ أقصى عقوبة تفرضها هذه المحكمة الجنائية هى توليد الخوف فى نفوس “الطغاة”.
قد يجد الشخص السئء فرصة لتأتيب ضميره فى لحظة مفارقة الحياة أو مفارقة السلطة ويطلب العفو , إلا أنّ وصائد السوء قد تتمكن منه وتحول دون ذلك , الأسكندر الأكبر فى اللحظات الأخيرة عندما تأكد إنّه لا محالة ميّت , أوصى أتباعه أن يتخذوه إلاهاً بعد موته بدلاً من تأنيب ضميره أو الإعتذار لرعاياه . كما فعل عمر البشير فى اللحظات الأخيرة لمفارقة الحكم , بدلاً من يعتذر للشعب , أمر بقتل ثلثه , أو كاد أن يفعل.
فمن علامات زوال دولة الإنقاذ , تحول الطغيان الإنقاذى إلى ظاهرة فرعونية , إنشاء المفارم البشرية على غرار المحارق النازية , إستلاب حقوق الناس , إغراس الفتنة بين مكونات المجتمع , عندما تملك الخوفُ زعماءَ الإنقاذ من سوء العاقبة , أضطربوا فى كفية حماية أنفسهم فألغوا الجيش , وأنشاوا بديلاً له من كائب ظلّ , أمن شعبى , جهاز أمن , دفاع شعبى ودعم سريع , ليس هذا كله ضد إحدى الدول المُتَعدِية أو المُعْتَدِية , بل ضد مكونات الشعب السودانى , ولكن سقط البشير أمام ثوّار عُزّل , بعد كل هذه القوات الجرارة والميزانيات الهائلة من المال.
لعلّ أعقل القادة السيئين كان الرئيس على زين العابدين , عندما هرب إثر إحتجاج شعب تونس , ذهب إلى السعودية فعاش فيها حتى مماته , ولم يُذكر بسوء , وأغفل السيئين كان على عبدالله صالح , بعد أن أسقطه الشعب ونجى إلى دولة صديقة , ساورته نفسه بمعاودة ممارسة السلطة بالقوة , عندما عاد إلى اليمن , تم إصطياده برصاصةِ فى الرأس , فقُتل كما تُقتل الكلاب الضالة , حيث تضاربت الأنباء عمّن قتله وكيف و أين , فمات ميتةً كأنما أراد أن يقول” لا نموت حتف أنوفنا ولكن قصعاً بالرماح”،, وكان فى تشييع جثمانه حوالى عشرين شخص فقط .
لعلّ اللاّحقون من الحُكام يتعظوا بما وقع على سابقيهم , ويعرفوا أنّ الثورة الشعبية ليست مجرد فعل متناهى , إنّما هى لعنة الشعوب , وهي تركيبة من المشاعر المتفجرة من تضَوّع الجوعَى وأنينهم , ودموع الثكالى والأرامل , وبكاء الأطفال عند الحرمانة, وصمت العجزة عند المحن, وململة المشردين فى لفحة الهجير ولسعة البرد , وإبتهال الأبرياء فى الزنازين , لعنة الشعوب لا علاق لها بنظرية المؤامرة التى تستنتجها عقول البصّاصين من تصوراتهم الفاسدة . لعنة الشعوب لها صولةٌ لاحقة وجولةٌ صائبة لا تُرد سهامها , فمن أصابته لعنة الشعوب فهو لا محالة ساقطٌ , ألم ترَ صدام حسين , حسنى مبارك , معمّر القذافى , على زين العابدين , على عبدالله صالح , عمر البشير , كلهم سقطوا رغم الحصون التى ضربوها حول أنفسهم , فتجاوزت خطى شعوبهم تلك الحصون كما يتجاوز الضوء الزجاج.
السودان الآن يستشرف حالة تحوّل بنيّوى هائل بالإضافة إلى هذا الإنتقال السياسى الذى تصارعت من أجله الأطراف المختلفة وبالتالى يقع تحت ظروف إستثنائية معقدة قد تؤدى إلى المزيد من معاناة المواطن وتهتك أواصر الدولة , هناك حلٌ واحد لتجاوز الظروف السياسية المعقدة التى يمر بها السودان , وهو أن يسلم المجلس العسكرى (السيادى) السلطة للمدنين بمواثيق والإبتعاد عن السياسة الآن قبل غدٍ عبر توافق مرضٍ . وذلك بعد أن أتفقت الغالبية من السودانيين (الشارع) على رؤية موحدة , بأنّ هذا المجلس لم يكن سوى إمتداد للّجنة الأمنية للبشير , وهى الآن الجهة التى تحكم الدولة , وكان قد أسقطتها ثورة ديمسبر فى 2019 .
يُقال : ” السَّعِيدُ من وُعِظ بغيرِه والشقيُّ من اتَّعَظ به غيرُه”.
رسائل الثورة (40)
يا سلام. كلام مثل الدرر إن كانوا يعقلون قبل فوات الاوان