الصحافة بين.. شقي الرحي

محمد لطيف
تعقيبا على ما كتبناه بعنوان (حوار الرئيس وخطابه) حول أزمة الصحافة تكرم الأستاذ محمد عبد السيد برفد (اليوم التالي) وقرائها بهذه المادة القيمة مبتدرا نقاشا نأمل أن يتصل..
م. ل
في مطلع عام 2005 تمكنا بعد لأي أنا وزميلي الأستاذ عمر العمر مساعد رئيس تحرير صحيفة (البيان) الإماراتية من إجراء حوار غير مسبوق حينها مع مسؤول قيادي بارز في المؤتمر الوطني وتم الترتيب لهذا الحوار الذي قدم له عمر خصيصا من دبي بجهود مضنية فقدنا فيها الأمل عدة مرات، وكنا قد استعنا لإجراء الحوار بعدد من المسؤولين في مواقع تنفيذية قومية وولائية استمرت جهودهم لثلاثة أسابيع ولم تكن الجهود التي بذلت هي الصادمة لنا ولا نصف الساعة التي حددها القيادي للتكرم بإجابات كانت مقتضبة وتلغرافية على الأسئلة التي تولى طرح جلها الأستاذ عمر، بل جاءت الصدمة من رأي المسؤول في الإعلام عموما والصحافة الورقية خصوصا، فقد أبلغنا بمنتهى الوضوح قبل أن نطرح الأسئلة أنه لا يحب الإعلام, نعم استخدم كلمة (لا أحب)، وأكد أنه لا يثق في ما تبثه تلك الوسائط من معلومات عما يجري في الجوار أو عالميا، وقياسا ينسحب رأيه على الداخل، ولهذا السبب أكد أنه يضع بينه وبين أجهزة الإعلام سدا.
ولاحظت لاحقا أن الثقة تكاد تكون معدومة بين غالب قادة المؤتمر الوطني والصحافة ويبدو أنها ثقافة راسخة في صفوفهم، ولكن المدهش أن تعامل الدكتور حسن عبد الله الترابي مدير مدرسة الحركيين الإسلاميين الذين يقودون الوطني مختلف كليا بدرجة تمحو المقارنة، ومن المؤكد أن قراء الصحف والصحافيين لم يغادروا محطة الدهشة التي اعترتهم خلال الحملة الانتخابية جراء هجمات الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل على الصحافيين في معرض الدفاع عن وزير الدولة للإعلام ياسر يوسف.. ضغط الموقفان أعلاه على ذهني لمشاركة الأستاذ لطيف الذي فتح ملف الإعلام والسلطة في منبرين خلال أسبوعين متتاليين الأول مساحته هذا العمود والثاني المركز العام للمؤتمر الشعبي المعارض.
إن مايثير قلق الذين جاءوا إلى هذه المهنة عن سابق تخطيط ورغبة وتصميم تطور واستقرار العلاقة بين السلطة والإعلام في دول عرفت الوسائط الإعلامية بعد السودان بعشرات السنين، ومنها ـ أي تلك الدول ـ من اعتمد في وضع أسس العمل الإعلامي وحدود المساحة بين الطرفين على خبراء من السودان البروفيسور (علي محمد شمو نموذجا). ولم يعد إصدار صحيفة أو إطلاق فضائية خاصة يثير التوتر في الدول الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي أو إلى قلب القارة الأفريقية (النيشن الكينية كالأهرام المصرية تطبع ما يقرب من المليون نسخة يوميا). ومن دلائل الاستقرار على القواعد المنظمة، سماح دول الخليج توزيع المطبوعات العربية التي تصدر في لندن في مدنها، ودعم الفضائيات التي تنطلق من الخارج، والهدف المتفق عليه واضح (الإعلام يمارس دوره التنويرى، وعرض الثقافة المحلية على الآخر، على أن يتفادي الطرفان الإصطدام بقوى الانكفاء).
أما في السودان فلا توجد رغبة لابتداع وسيلة تؤسس لنهضة إعلامية تجد القبول والاحترام والثقة من الطرفين (السلطة والمواطن). ومن نافلة القول التأكيد على أن استمرار الشك بين السلطة والإعلام يعمق من هوة عدم الثقة ويدفع الأولى لإدارة ظهرها لكل الوسائط وإهمالها تماما فيما الثاني يتدهور شكلا ومضمونا. والسؤال المحوري الذي ينبغي طرحه لأغراض فتح الأبواب للنقاش الموضوعي وللبحث عن أول الطريق الذي يقود للارتقاء بالإعلام السوداني: ما هي مآخذ قادة المؤتمر الوطنى (الحزب الرئيس الحاكم) على أداء وسائط الإعلام عموما، والمكتوبة منها على وجه الخصوص؟. ما يصدر من قيادات عديدة (ليس رسميا) يلخص المآخذ في ثلاثة: الأول يتهم الصحافة ـ وبالتالي الصحافيين ـ بتعريض الأمن القومي للخطر، وهو مأخذ لا يتحمل وزره الصحافيون بمفردهم، ففي ظروف الحراك الدولي المضطرب منذ سقوط جدار برلين (الرمز) وانعكاساته على السودان من الصعوبة والتخلف السياسي بمكان الحديث عن تعريف ثابت لمفهوم الأمن القومي، فالسقوف العليا تتبدل بسرعة، وهذا يقود للسؤال التالي: هل ينظم القياديون في المؤتمر الوطني لقاءات دورية لتنوير وإطلاع رؤساء التحرير على الأقل على الخطوط العريضة للتغييرات التي تطرأ على أولويات ومهددات الأمن القومى؟. المأخذالثاني (عدم الالتزام) وهي عبارة تصدر بهذا الغموض دون توضيح ما هو الالتزام المطلوب؟ فهل هو السياسي، أم المهني؟، إن كان الأول تتحمل مسؤوليته أمانة الإعلام في المؤتمر الوطني التي ينبغي أن يكون من مهامها الإشراف على مدي التزام رؤساء التحرير فكريا بالخط السياسي للحزب.
قد يبدو لعدد من القراء والصحافيين حديثي عن دور أمانة الإعلام غريبا وربما مستهجنا بحسبان الصحف مملوكة على الورق لناشرين مستقلين، ولكن بدلا من دفن الرؤوس في الرمال دعونا ننطلق من الواقع الحقيقي للصحافة، فحوالي 99% من الصحف الصادرة في الخرطوم مملوكة بالكامل أو جزئيا بشكل أو بآخر للوطني أو لموالين له سياسيا أو فكريا، وبالتالي هو من سيتحمل تاريخيا مسؤولية الحالة التي وصلت إليها كل وسائط الإعلام وفي مقدمتها المكتوبة، وكانت الفرصة وما زالت متاحة أمام الوطني لتقديم نموذج رائد لمؤسسة صحفية مكتملة الأركان (مظهرا ومخبرا) تمتلك مبنى ومطبعة صحفية حديثة (ليست من المخلفات) على أن تتحاشى الجهة المعنية تكليف الكوادر العاطلة عن العمل والموهبة لإدارة مثل هذه المؤسسة (فمصطفى أمين الذي وضع سونا بمواكبته للمستجدات التقنية والصحفية في المرتبة الثانية من حيث التأثير عربيا وأفريقيا لم يكن عضوا بالاتحاد الإشتراكى، ولكن تلاقى استعداده لتقديم تجربة إعلامية رائدة مع رغبة القيادة السياسية في إنجاز مشروعها الإعلامي). المأخذ الثالث شكلي حيث يشكو المسؤولون من اختلالات فنية (معلومات غير دقيقة، وأخرى منزوعة من السياق، وفي أحيان نادرة النقل الدقيق لتفلتات لفظية، عدم ممارسة الرقابة الذاتية)، وعلاج هذا المأخذ يبدأ عندما يتفق أطراف العملية الإعلامية على أسس علاج المأخذين الأول والثاني، وقبل هذا بتحديد المطلوب من الوسائط الإعلامية؛ هل هي مكلفة بإكمال دورة المؤسسات الأخرى والقيام بدورها كسلطة رابعة أم مازال قادة الإنقاذ يتوقعون منها دورا تبشيريا كما لو كانوا في سنواتهم الأولى؟.
إن مشكلة الإعلام السوداني في مجمله ليست في عدم ثقة المسؤولين به، فالهوة التي تفصله عن المواطنين أعمق، وتعد الأرقام التي نشرها مجلس الصحافة والمطبوعات عن الصحف دليلا صارخا على هجر المواطنين لها، وما هو مؤكد أن القراء استبدلوا الورقية بالإسفيرية التي لم تستقر علي قيم قانونية أو مهنية.
ملحوظة مهمة: الأمر الواقع سياسيا (ربع قرن ثم أربع قادمات) يحتم مناقشة قضايا الصحافة باستصحاب المؤتمر الوطني في كل سطر ومن ثم إلقاء مسؤولية تعثر العمل الإعلامي والنهوض به واستعادة ثقة المواطنين فيه على قادته
اليوم التالي