اكتوبر المجيدة : إلى القصر حتى النصر

ثورة اكتوبر المجيدة مهما قيل عنها تعد ملهمة الشعب السوداني باعتبارها اول ثورة شعبية بعد استقلال السودان عام 1956م تطيح بحكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية ، وكاد ان يتكرر في 1985 لاسقاط النميري الا ان تدخل الجيش احتوى تلك العاصفة الشعبية ، والان يحتفل الشعب ولو بدواخله بمرور الذكري 52 لثورة اكتوبر 1964م .
في يوم 21 أكتوبر 1964م …. تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة . فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب . فما كان من قوات الأمن إلا أن تدخلت مستخدمة الذخيرة الحية لفض الندوة بالقوة فسقط جراء ذلك إثنين من الطلاب صرعى هما أحمد طه و بابكر عبد الحفيظ وجرح العشرات . وعلى إثر ذلك تقدم الأساتذة السودانيون في هيئة التدريس باستقالات جماعية معلنة أن لا عودة إلا بعد زوال نظام الحكم العسكري …..
وشهد يوم 22 أكتوبر 1964م تجمع الجماهير السودانية في الخرطوم لحمل جثمان الطالب أحمد القرشي من مستشفى الخرطوم للصلاة عليه ونقله إلى مسقط رأسه “قرية القرّاصة” ؛ حيث تحول هذا التجمع فيما بعد إلى مظاهرات عارمة اندلعت في العاصمة وشملت كل مدن السودان فيما بعـد.
وعلى ضوء نجاح الحشد الجماهيري للنزول إلى الشارع . أعلنت اللجنة المنسقة للثورة الشعبية العصيان المدني الذي شل حركة البلاد بأكملها . فأعلن الرئيس إبراهيم عبود في 26 أكتوبر1964م حل أعمدة السلطة آنذاك وهي المجلس العسكري ، ومجلس الوزراء ، والمجلس المركزي.
وبتاريخ 27 أكتوبر1964م تكللت المفاوضات التي جرت جوار قبة الإمام المهدي بأمدرمان بين كبار ضباط الجيش وممثلي الأحزاب السودانية . تكللت بالاتفاق على تكوين حكومة انتقالية مدنية ، عرفت فيما بعد بحكومة سر الختم الخليفة الأولى التي أعلنت يوم 30 أكتوبر 1964م .
إن عظمة ثورة اكتوبر تكمن في أنها ثورة الطلاب والمهنيين من أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة جامعيين ومعلمين وموظفين والعمال كما أنها توشح جسارة الثوار السودانين في نكران الذات ووضع المصالح الوطنية العليا فوق كل مصلحة حزبية او جهوية ، كما يميزها التسابق على العطاء دون اخذ او انتظار لتقسيم سلطة او ثروة او منصب كبير ، ان ملهم الثورة الشهيد القرشي لو كان بيننا الان لكان عمره 71 عاما ولكان فجر عشرات الثورات ولكنها ارداة الله
بإسمك الأخضر يا أكتوبر الأرضُ تغني
والحقول إشتعلت .. قمحا ووعداً وتمنـي
والكنوز أنفتحت .. في باطن الأرض تنادي
بإسمك الشعب إنتصر .. حائط السجن إنكسر
والقيود إنسدلت جدلة عـُرس ٍ في الأيادي
إن ثورة أكتوبر يجب ان لا تمر علينا مرور الكرام ، فحكومة الانقاذ حاولت ان تتناسى وتنسي الشعب اي من الذكريات العطرة لتلك الثورة كلما تمر ذكراها ، لانها بالطبع تذكرهم بما لا يودون ذكراه ولكن على الشعب ان يتذكر بأن اكتوبر يمكنها أن تعلمنا الكثير من الدروس والعبر التي يمكن استلهامها اليوم وسوداننا العزيز يواجه التحديات الكبيرة من التهميش والفقر والحد من الحريات ويتعرض لمحاولات استهداف من الداخل ومن الخارج .
ولعل من أهم الدروس والعبر التي يمكن استلهامها من ذكرى ثورة أكتوبر، قوة الاصرار والعزيمة التي لا تعرف الخنوع والتراجع والانكسار ، وقوة المبدأ في اتخاذ القرار وتوحيد الموقف ، فعندما كانت تهتف تلك الجموع ” الى القصر حتى النصر ” تحقق لهم الشعار ونالوا جهد التضحيات . كما أن ثورة اكتوبر المجيدة علمتنا أن الحقوق والمستحقات لا تأتيان الا بالتضحيات وقوة الارادة والعزيمة الصادقة ، وعلمتنا أيضا أن الحرية والكرامة لا تأتيان إلا عندما يكون الوطن والمواطنون على قلب رجل واحد ،،،،
إن اهم قيمة لثورة اكتوبر المجيدة هي ان تظل جزوة متقدة تستلهم منها الاجيال والشعوب كيفية التنظيم الشعبي السلمي لتحقيق الديمقراطية ورفض الاستبداد والظلم فهي بلا شك تصنف أم الإنتفاضات السودانية الشعبية التي كان لا يماثلها في العالم كله إلا الثورة الشعبية الفرنسية في القرن 18 الميلادي ضد حكم لويس السادس عشر حين إنفجر الشعب الفرنسي في باريس العاصمة وغيرها بسبب أزمة الغذاء وندرة الخبز،،،
أكتوبر واحد وعشرين
ياصحو الشعب الجبار
يالهب الثورة العملاقة
يا ملهم غضب الأحرار
من دم القرشي وأخوانه
في الجامعة أرضنا مروية
من وهج الطلقة النارية
أشعل نيران الحرية
بارك وحدتنا القومية
واعمل من أجل العمران
[email][email protected][/email]
نحن في السودان لم نقبل بالحكم العسكري رغم أن نظام عبود رفع رؤوسنا وشرفنا بين العالمين وفي الداخل لاينكر ما قام به من واجبات الدولة في التنمية والاعمار إلا مكابر ولا يشك في وطنيتهم عاقل فقد كانوا حقا من أبناء الشعب الأبي حملوا كل صفاته وقيمه ولو لا كبت الحريات وقلة طول بال إخوتنا الجنوبيين لبلغت بنا تلك شأوا أرفع في التنمية الداخلية والعلاقات الخارجية ولما فقدنا شيرا من أراضينا، فقد كانوا جادين في وضع أسس التنمية المستقبلية للسودان بناء على رؤيتهم وحدهم كسودانيين (وبس) أقحاح غير مؤدلجين وحق لهم أن ينفردوا بالحكم لأن الديمقراطية منذ قبل الاستقلال أضاعت أربع سنوات في الفاضي و بوأد هذه الديمقراطية العاجزة لم يكن من المنطقي السماح بحرية التحزب والعمل السياسي لأن الغاية من الحرية هو التنمية ولم تتحقق في الديمقراطية الطائفية ديمقراطية الاشارة والذين كان يرونه في استمرار حالة الجهل والأمية لسواد الشعب لتسهيل حكم الاشارة ولو لم يأت نظام عبود لما سمعتم بالتلفزيون ولما استمتعتم بفضائياتكم العامة والخاصة اليوم ولما سمعتم بمصانع السكر والفاكهة والنسيج وثوفير المياه والصحة والتعليم المجانيين ولما وصلت السكة حديد لنيالا و واو!
ولكن يا حسرة فقد اندلعت ثورة أكتوبر بسبب تصعيد تمرد الجنوبيين للحرب مع النظام العسكري الذي لم يروا فيه غير طغمة عسكرية شمالية لاخضاع الجنوبيين وما دروا أن هذه طبيعة النظم العسكرية لا تميز بين أجزاء الوطن ولا قبائله ومنطقها هو أنها لا يمكنها تنفيذ أهدافها التنموية إلا بإخضاع الجميع ومنعهم من عرقلة مشاريعها وهذا شيء طبيعي ولو كان عبود أكثر حصافة لضم في مجلسه العسكري بعض الجنوبيين وهو أمر فطن إليه الانقلابيون من بعد عبود مستفيدين من هذا الخطأ..
وللأسف وبعد أربع سنوات من أكتوبر 1964 عادت الطائفية لقديمها وانشغالها بالمماحكات والمكائد التنافسية فيما بينها وانشغلت بذاتها أكثر من مطالب شعب الاشارة ولم تنجز شي رغم الفوز الكبير في الانتخابات بل لم تكن للحزبين الحاكمين أصلاً برامج مسبقة في الانتخابات لأن الانتماء الحزبي كان يكفي وحده للفوز بالانتخابات أو أن طموح الناخبين كان قانعاً فقط بجو الحرية المتوفر في الديمقراطية، ولكن بلغ بهذه الطائفية من السفه السياسي قمته في أواخر 1968 حينما خدعهم الاخوان المسلمون في جبهة الميثاق الاسلامي وزينوا لهم مؤامرة الاقدام على طرد حزب سياسي مثلهم رغم اختيار الشعب لعدد من أعضائه بالبرلمان مما جعل الحزب الطريد من الديمقراطية يدبر انقلاباً عليها في مايو 1969 يقيادة النميري وقد قدم النميري بعض الخدمات للبلد من خلال التخلص من اليسار حيناً والتحالف مع اليمين حيناً آخر والعكس مع محاربة الطائفيين الذين لم يتركوه في حاله حتى قامت انتفاضة ابريل 1985 وعادت الطائفية كما كانت ولم تتعلم من دروس الماضي ولم تنجز شيئاً كالعادة، غير أن دهاء وخبث الاخوان المسلمين الذين سبق أن زينوا للطائفية حل حزب سياسي ممثل في البرلمان وطرده منه، مستغلين بذلك توافق الحزبين الطائفيين معهما في النزعة الدينية، قد استثمروا هذه المرة تناقضات حزبي الطائفية وتنافسهما السياسي ونفذوا انقلابهم المشئوم وظلوا يحكمونكم إلى اليوم بسبب غباء الطائفية التي ما زالت بين ظهرانيكم، فما لم تتعلموا أيها الشعب السوداني الفضل وتبلغوا الرشد السياسي الذي بلغته الشعوب المستنيرة في العالم الغربي الذي يمارس الديمقراطية على أساس البرامج التنافسية في خدمة البلاد والعباد وليس الأشخاص والزعامات فلا فائدة مرجوة أبداً من أي ديمقراطية مستقبلاً حيث تتكرر دورات الطائفية والانقلابات العسكرية بلا نهاية؛ فهلا سألنا أنفسنا عن تلك الديمقراطيات الغربية وخلوها من الانقلابات العسكرية رغم أنها تملك أقوى الجيوش في العالم؟! والاجابة في بساطتها هي أن الشعب هناك مستنير ويعرف حقوقه الفردية والقومية تماماً وأهمها من بعد ذلك الحرية في ممارستها من أجل الرقي والتنمية ولا يمكن لعاقل هناك أن يسمح لأي مجموعة أو فرد أو جهة فرض شيء عليهم بالقوة والقهر، بل ولا يجرؤ أي مقامر على القيام بفرض أي سيطرة عليه؛ وبهذا يقاس رقي الأمم والشعوب حيث لا تعرف الانقلابات العسكرية إلا لدى الشعوب المتخلفة وكل بلد تشهد هذه الانقلابات ولو مجرد محاولات مثلما حدث في تركيا مؤخراً فهي بلا شك بلد متخلف بكل معنى الكلمة بمعنى الفقر والمرض والظلم وانتهاك حقوق الانسان وهلم جرا وتبعاً لذلك تكثر فيها الانتفاضات والثورات بلا طائل وتظل تدور في حلقة مفرغة إلى الأبد بينما تنعم الشعوب المستنيرة بخيرات بلادها وبلدان هذه الشعوب المتخلفة المغلوبة على أمرها.