عزيــز مصــر ومحنــة « كن ولا تكن» !

منذ أن بدأ عزيز مصر (محمد علي) باشا فى بناء مصر كدولة حديثة، بدأت الحيرة الفكرية حول صياغة الدولة، على أسس مرجعية دينية صرفه، أم حسب معطيات الفكر الإنسانى الغربي

وكان خيار (محمد علي) المزج بين الاتجاهين، واعتمد على تعليم عصرى حديث على الطراز الأوروبى لا يتعارض مع أصول الدين، وظلت هذه الصيغة مقبولة رغم ما يعتريها من إبهام.

رغم التجارب التاريخية التى مرت بها مصر، فلم تحسم هذه الحيرة حتى الآن، فهناك من يريد استنساخ الحضارة الغربية بحذافيرها، وكذلك من يرجع كل الإخفاقات العربية للبعد عن صحيح الدين، أما من يجتهد لاتخاذ موقف وسط بين الفريقين فهو فى محل شك واتهام من الفريقين ممن يحددون معايير شعار «كن ولا تكن»!

فتطبيق الديمقراطية على أساس ما تنتجه صناديق الاقتراع فقط، يؤدى لتفجير المجتمعات، خاصة مع وجود فوارق لغوية ودينية وثقافية، فتقوى الأغلبية العددية على حساب الأقليات، ويزداد الإحساس بالظلم والتهميش، بسبب طغيان الأغلبية، ويبدأ الصراع الاجتماعى الذى يهدد السلم الأهلي، ولذلك نجد أن الديمقراطية فكرة إنسانية مرتبطة بكل مجتمع، يضع الضوابط والقوانين التى تكفل للمواطنين الإحساس بالطمأنينة، فهى ليست قالبا واحدا، يجب على كل المجتمعات أن تصب فيه، خاصة أن أغلب المجتمعات تتميز بتبيانات داخلية، تستدعى مناهج للتحليل مختلفة عن غيرها، فالديمقراطية «غير اليبرالية» التى فرضتها الإدارة الأمريكية فى الثورات الملونة أدت إلى تقسيم هذه البلاد، وأدت إلى تدمير العراق كدولة قوية، ولبننته، بديمقراطية الطوائف، التى تقضى على الفرد واستقلاله، وتضطره إلى الانضمام إلى كيانات وأحزاب متناحرة، حسب العرق أو الطائفة أو الدين، ضد ما تهدف إليه الديمقراطية الشاملة، بضمان الحرية الفردية، ضد كل أشكال الطغيان، فلا تفلح الديمقراطية كقالب مستقل على طريقة «كن ولا تكن» وهو ما تدركه الدول التى أنتجتها، عندما حظرت فرنسا الحجاب والمظاهر الدينية للحفاظ على ثقافتها، وكذلك الاحتياطات الأمنية للحد من حرية الأفراد التى اتخذتها أمريكا، للحفاظ على أمنها القومى!

أما التيارات الدينية المتطرفة، فأدت تطبيقاتها إلى أبلغ الضرر بالدين الإسلامى الحنيف، فما تمارسه (بوكو حرام) من إرهاب، يضع علماء الأمة الإسلامية فى مسئولية واجبة للدفاع عن الإسلام، من الخوارج الجدد، الذين يرفعون القرآن الكريم شعارا لهم، وهو ما يدعو للعلم والمعرفة والعقل ذلك «البوكو» الذين يدعون أنه حرام!، فتلك التطبيقات الشكلية قد أخرجت التعاليم الدينية عن مقاصدها الأساسية، إلى التركيز على الشكليات، وتجاوز فقه الواقع كلية، فالجماعات المتطرفة ما أن تصل إلى السلطة حتى تطالب الناس أن يتكيفوا مع قوالبهم الجاهزة، شكلا وموضوعا، على طريقة محنة «كن ولا تكن»

منذ زعم حكام السودان تطبيقهم للنظام الإسلامى المزعوم، وهو يتعرض لما هو معلوم بالضرورة، من تداعيات التطبيق الشكلى للفكرة، فانفصل الجنوب، ورحب بذلك حكام الشمال، وهو معرض لانفصال دارفور، وانقسامات سياسية جذرية وعميقة بين الأحزاب، فشل فى احتوائها النظام الحاكم، وهو كل ما بشر به المفكر السودانى الراحل (محمود محمد طه)، وتم إعدامه لإصداره بيانا، يعارض التطبيق الشكلى للشريعة، والذى كان يرى أنه مخالف لها، وطالب بالحرية للجميع، للحفاظ على وحدة البلاد، وأعدم الراحل فى 18 يناير من 29 عاما، وأعلنت الأمم المتحدة ذلك اليوم يوما لحقوق الإنسان العربي! فأصبح رمزا لمحنة العقل أمام السلطة المتلحفة بالدين، لتتكرر مأساة (الحلاج) الذى ثار على السلطة، فصلبوه بتهمة الردة عن الدين!

حقوق الإنسان العربى ودمه أهدرت، من حاملى شعار «كن ولا تكن» الإرهابي، لتحويل الديمقراطية إلى كرنفالات، والدين إلى طقوس شكلية، بعيدة عن المعانى والدلالات الحقيقية التى تستلزم فهم المعطيات اللازمة للدينامية الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية، للعصر والزمن والواقع الاجتماعى المتشابه الذى نعيشه، ومن ثم التوصل للآليات القادرة على تحقيق أهداف الدين أو الديمقراطية، وأعتقد أن «عزيز مصر» الجديد أخيرا انتخبه المصريون من استطاعوا بحسهم الحضارى التخلص من حكم الإرهاب فى سنة واحدة، سيعطى نموذجا للقيادة الرشيدة التى تحمى الدين والوطن، فتجعل الدين لله والوطن للجميع.

الاهرام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..