قصة قصيرة – الطبيب

أمى تذرف دموعا غزارا و تهتف و هى تسند رأسها المنهكة على كتف جارتها ” لقد رأيته فى المنام بالأمس . كان طويلا كالنخلة و كان يبصق على المدينة فى احتقار عظيم ”
………………………
صاح بائع الجرائد ” اقرأوا أخبار الجريمة المروعة ” فأطلت عشرات الرؤوس من نوافذ السيارات المرصوصة فى قلب المدينة فى ذاك الشارع الشهير . دقائق و هرول البائع سعيدا بعد ان نفدت بضاعته .
……………
فى قصره الباذخ الفخم جلس بكرشه الممتلئ سحتا . طالع بعينيه الجامدتين العنوان الذى تتصدر أكثر من صحيفة . عبرت بذهنه صورة لرجل ضخم الجثة ، يستلقى على كنبة مريحة و يتحدث و تعابير وجهه غائمة فى ضباب كثيف ، بينما يجلس بقربه طبيب شاب يسجل ملحوظات بين الفينة و الاخرى . ابتسم فى ارتياح و هو يقضم تفاحة بشبق .
……………
وضعت الأموال التى يبعث بها اليها زوجها كل شهر من احدى دول النفط . استدارت بسرعة لتخرج من ذاك البنك الذى لا يرتاده سوى الاثرياء جدا فوقعت عيناها على العنوان الكبير فى الجريدة . لاحت لها على زجاج الباب الدائرى صورة لأنثى تتلوى كالأفعى بين يدى عشيق شاب .
…………..
كلكم سعيد بموتى يا أوغاد . أنا مستودع عفونتكم الابدى . انا تابوتكم الذى توارون فيه جثامينكم القميئة . أنا ذاكرة مدنيتكم الغارقة فى مجارى الرذيلة و الفساد . قبل أعوام كنت طالبا نابغة فى كلية الطب ، قسم الجراحة . و ذات مساء قدم لنا خبير أجنبى محاضرة عن شد الوجه . أذكر جيدا أن القاعة اكتظت ? وقتها ? بوجوه نساء المدينة اللواتى بدأ الزمن فى يرسم خطوطه العنكبوبتية على وجوههن. أما عنى فلطالما شحذت عملية شد الوجه خيالي كمحاولة إنسانية يائسة للالتفاف حول عجلة الزمن الجهنمية . فجأة خطرت لى فكرة غريبة . عرضتها على الخبير على انفراد بعد نهاية المحاضرة فقال لى و عيناه تلمعان ” أنت عبقرى” . ثم أضاف هامسا و عيناه تلمعان بخبث طفولى ” سأكون زبونك الأول ” .
فى داخل المعمل صممت آلتى الجهنمية بعد شهور مضنية من التجارب . تضع ? أيها الوغد – يدك عليها لتسجل بياناتك فتلوح لك فى الشاشة الصغيرة صورة روحك مغضنة الجبين بألف ألف جرح . تستلقى على الكنبة المجاورة . و تغمض عينيك ، لتبدأ فى الاعتراف بكل قبحك الزنيم . و مع كل سر يخرج منك يختفى خط من الخطوط السوداء فى جبين روحك . حتى إذا وقفت عاريا على شاطئ اعترافك الاخير ، بانت لك روحك فى الشاشة غضة فتية و كأنها نزلت من رحم أمها للتو . إنه مشروع شد الروح الذى ملأ الدنيا و شغل الناس .
فى اليوم الأول جربته على خطيبتى فهتفت باسم صديقى بفحيح ثعبان جائع . و بعد يومين زارتنى جارتنا المصون . وضعت يدها على الآلة فبانت بضعة خطوط سوداء . استلقت على الفراش و حدثتنى باستسلام ” لا يأبه بى . يقضى أعواما طوال فى ديار النفط . و يكتفى بارسال الاموال لى هنا . لا استطيع العيش معه لأننى أرعى بناتى اللواتى قدمن الى بلادى لأجل الدراسة الجامعية ، كما لا استطيع مقاومة العقارب التى تلسعنى فى دمى . لم أجد من ملاذ فى جوع الليالى سوى فى حضن سائقى الشاب “.
بعد يومين كنت قد عينت سكرتيرة لى لتلقى الاتصالات . و بعد أربعة أيام فقط سمعت هديرا خارج المعمل . نظرت عبر النافذة فرأيت مشهدا غريبا : جميع سكان المدينة مصطفون و على وجه كل منهم قناع بلاستيكى ليخفى هويته .
بعد أسبوعين وقفت عربة سوداء مظللة فى الخارج و نزل منها سائق شاب تبدو على وجهه سيماء دعة العيش . ” سعادة المسئول فلان يريد التحدث إليك ” . ثم مد لى هاتفه الجوال . قهقهت فى خبث . لطالما سعيت أن أقابله فكنت لا أحظى سوى برؤية صورته فى التلفاز . حدثته و اتفقنا على اللقاء فى نفس اليوم . جاءنى بعدها بساعات متدثرا بجلباب أسود . همست فى سخرية فى سرى ” و كأنك يا ابن الزنيمة فى حاجة إلى سواد اضافى ” . استلقى على السرير فارتعشت شاشة العرض . غطاها سواد كثيف . قال فى قلق و هو يؤمى الى الشاشة ” أين روحى ؟ لم لم تظهر كأرواح بقية الخلق ؟ ” . تمتمت معتذرا ” يبدو أن الشيخوخة التى اصابت روحك أكثر كثافة من مقدرة الشاشة ” . ثم أردفت و أنا أحاول تفادى عينيه اللتين بدتا كعينى ثعبان جائع ” دعنى أحاول ثانية ” . بعد ساعة ظهرت روحه على الشاشة فلم أجد ملاذا من وضع منديل على أنفى . قال فى همس ” أنا مسئول حكومي . أقسمت يوم جئت على حفظ حقوق الشعب ” ثم صمت فوجدتنى أتمتم فى سرى مكملا ” لكنك خنت الأمانة . سرقت عرق البسطاء . كل طوبة فى بيتك هى جمجمة لمزاع فقير . و كل إناء فيه هو دمعة متجمدة ترقرقت على خدى فقير يدعو على أمثالك فى هدأة الليل ” .
بعد أسبوعين زارتنى زوجته . خيانة زوجية و سرقة أموال و استغلال نفوذ . ثم بدأ مرتشو المدينة يحضرون لى فجرا . لا يكاد أحدهم يسترخى على الكنبة فى المعمل حتى تعطس الشاشة من عفونة روحه و تلوح الشاشة كقطعة سوداء من ليل بهيم .
بعد شهر حضر الى المعمل سائق السياف مسرور . قال لى إنه لن يستطيع الحضور بسبب حساسة منصبة . و حين ذكرت له أننى لن استطيع العمل خارج معملى قال بحزم ” سننقل الآلة الى مكتب سعادته ” . و أذكر ليلتها أنه حين وضع يده على الآلة ارتعبت كطفل مقرور ثم قفزت من النافذة و ركضت بعيدا ، قبل أن يقبض عليها رجاله و يقتادوها أسيرة الينا . و حين وضع يده عليها لم تخرج قطرة دم واحدة بل خرجت حقول و غابات و أنهار و فلاحون و قرى ومدن . لم تظهر روحه على الشاشة مباشرة ، فقدرت أن مساحة السواد فوق قدرة الشاشة فاضطرت لتوصيل ثلاث شاشات أخر لتستوعبها .
بعد شهر آخر قرر سعادته أن ارافقه فى رحلاته الخارجية لأجل رفقائة من الدول الأخرى .
مرت شهور و أنا محاط بمستنقعات الكبار الصغار . فجأة تحركت الأمور بصورة ميلودرامية . كتب صحفى مشاغب مقالا عنى . صباح اليوم التالى نعته جريدة معارضة . و ذاك المساء فوجئت بثلاث رجال غلاظ يهجمون على معملى و قبل أن يطرف لى جفن وجدتنى اقتاد الى بقعة نائية حيث صدر الأمر بتصفيتى حرصا على أسرار الدولة العليا على أن يتحول اختراعى الى معلم سياحى يقف فى قلب المدينة .
شئ واحد لم ينسنى اياه الموت أيها الغربان : أن أبصق علي وجه مدينتكم ليل نهار !
……………….
مهدى يوسف ابراهيم عيسى
( [email][email protected][/email] )
جدة
تقافز بين المشاهد يطلق عقل المتلقي في سفر ممتع بين محطات التوقع
(كان طويلا) من؟ و ما دلالة الطول لدى الساردة؟ و ما هي تلك المدينة التي بصقها في احتقار عظيم؟ عُدْ أيها القارئ بلا إجابة و لكنه جهل يبعث المتعة دون أن تقيد المتلقي بأحادية الفكرة التي كانت ستكون مفروضة من الكاتب الذي أبى بذكاء إلا أن يحترم قدرة المتلقي على الأخذ بحرية .. الكل يصور كيف شاء
في المشهد الثاني .. تتكر ذات الأسئلة .. أية جريمة؟ و أية رؤوس؟ و أي شارع؟ و تتوالى الأسئلة في المشاهد التالية و لكن ثمة ربط تسلسلي سلس عن جريمة ما .. جريمة ليست بالضرورة نزف و همادة أجساد .. جريمة حسية قبرها الوجوه .. مواتها انعكاسات تعيسة تكشفها آلة الغوص في النفوس .. يراها الكل .. تؤذي العيون و الأنوف و يعمى صاحبها المعتقل في فكرة العلة الجسدية
صورة رمزية أخاذة أن نستبدل تجاعيدنا المادية بغسل الذات الكفيل بإلغاء و تطهير قناع الوجه القبيح و المظهر المغشوش .. كأنما تصوره في رداء مصنوع من مرآة
عبارة (يبدو أن الشيخوخة التي أصابت روحك أكثر كثافة من مقدرة الشاشة) عبارة وصفية بليغة بلا تناهي لذلك السوء الكامن في الآخر و مثلها ( و حين وضع يده عليها لم تخرج قطرة دم واحدة بل خرجت حقول و غابات و أنهار و فلاحون و قرى و مدن) هي المأكولات سحتا في ذلك الجسد المترهل المملوء بها و الفارغ من كل فضيلة
(و أنا محاط بمستنقعات الكبار الصغر) بيئة نتنة و مجتمع فاسد .. ضخامة أجساد و صغر نفوس .. كلام فوق الروعة و الجمال.
أخي مهدي .. حفظك الله رمزية تكشف عن سوء البراميل المتحركة التي أحوجت وسيلة غير مطروقة للكشف عنها .. رمزية ممعنة في الأدب لكنها مدللة و بجلاء عن سوء و قبح يسكن من قصدتهم .. لك مني كل الود يا ابن بلادي
رأئع كعادتك أيها القاص مهول الموهبة مهدي يوسف
فقرنة القصة هكذا تجديد مدغدغ في باحة القصة القصيرة في السودان
وفكرة الآلة تجسد تناصا ذكيا مع:١ فكرة العرفان والغفران في الكاثولوكية حيث يؤدي بذل العرفان علي كرسي الأعتراف قبالة قديس تفصلك عنه ستارة allegedly الي محو الذنوب والغفران الإلهي ٢ الفكرة التي بنى عليها أوسكار وايلد أشهر أعماله (The Picture of David Gray) 【والتي تجسد فكرة هي الأخري فكرة متلازمة في الأدب الغربي هي فكرة “الحلف مع الشيطان= pact with the devil” ?قوقل للتفاصيل】حيث يخبر البروتاقونيست علاقة عكسية بين قبح أعماله ورسمه (portrait) من جهة و جمال وجهه وشبابه الدائم من جهة أخري.
التهنئة علي هذا العمل البديع، مهدي، ونعشم في المزيد
تصويب:
ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﺬﻯ ﺗﺘﺼﺪﺭ = ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﺬﻯ يتصدر
تصويب:
The Picture of David Gray
والصحيح هو:
The Picture of Dorian Gray