وحيد

عادل سيد أحمد

قالتها بإستنكار:
يعني هسة إنت دايرنا نسكن في بيت أُمَّك!
و ليتها ما قالت، فقد كانت تلك هي الجُملة التي قصمت ظهرَ علاقتِهُ بها.
كانت السُّكنى في بيت أمّه تضايقه: أكثر منها، و تغلُّ يده عن كثير من هواياته و تحد من طاقاته الإبداعيّة، و تحدد علاقاته بأترابه و أصدقائه.
و لكن! أمُّه العجوز، و أختاه اليتيمتان، ما زالتا تحتاجان، لا على إنفاقه عليهما فحسب، و لكن لوجوده اليومي في البيت: لحمايتهما، و لتوجيههما و رعايتهما كبراعمٍ لم تشبْ عن الطوقِ، و لا تحتمل: هوج الرياح!
و دَّعها، و انطوت في القلبِ حسرة، و لاذ، بعدها، بكتبه، و عمله، و القهوة… وزياراته المُتقطعة لنادي الحي الرياضي…
و لم يشكو لأحد، و لم يشعر أحد بمعاناته، و لم يواسِهِ أحد…
و لكن، كانت تنتظرهُ أمّه في الأمسيات، و لا تنام حتى تطمئن إلى أنه وصل الدار، و حينئذٍ تأتي لتسالمه و هي تحمل صينية صغيرة فوقها كوب من الحليب الدافيء: كانت هي كل ما يتناوله كعشاء، في ليالي وحدته الخالية، الطويلة.
سيعرف وحيد بعد سنوات، قيمة كوب اللبن المصحوب بابتسامة، و كيف أنه لم يكن وحيداً كما كان يشعر، و أنه الآن، بعد وفاة الوالدة، صار طيرٌ منتُوف الريش، و صار ليله مرتعاً للهواجس و الخوف. و بات لا يحتمل لحظات غُروب الشمس بالذات، إذ كانت تحمل مع الظلام المُتسرب من حناياها، تحمل معنى الخبُو و إشارات النهاية.
و كان ذلك مما لا يُمكن احتماله، فصار (وحيد)، يتفادى الغروب بأن ينوم من الخامسة في المساء… و حتى السابعة و النصف، أي قبيل صلاة العشاء بوقتٍ وجيز، يكفيه بالكاد لأداء صلاة المغرب، على عُجالة، و يلحق المغرب بالعشاء، و يجلس في البرش يمنى نفسه بكوبٍ دافيءٍ من الحليب: لن يأتي أبداً، و إبتسامة مشرقة، خبت منذ عهد، و ذهب ريحُها مع ما كان قد ذهب من صِلاته العزيزة.
قبل وفاة والدته، عليها رحمة الله، بل و قُبيل مرضها الأخير بزمن، كان يجد (وحيد) بعض السلوى في زياراته لعبد الرحمن، خصوصاً إذا ما عكرت الأجواء مسألة من مسائل الأسرة و إداردتها الصعيبة، و نشب جراء ذلك خلاف بينه و أمه، فكان يقضي أياماً و ليالي في بيت عبد الرحمن، المريح كصاحبه، و لكن، سافر عبد الرحمن، ابتلعته الغربة كما ابتلعت العديد من أصدقائه و زملائه و أبناء دفعته الموهُوبين، الذين ضاق عليهم الوَطنْ بما رحُب، و جارَ عليهم، و على آمالهم الزمانُ.
كان من الممكن أن تنوب علاقته بأختيه، و تعوضه بعضاً مما أفتقد، و لكن البنتين، فوق إنهما كانتا خجولتين، ظللن يضعن ثلاثة حواجز بعد كل حاجز يزيله في سبيل توطيد العلاقة معهما… و ساعد فرق العمر بينه و بينهن في تسوير العلاقة، و ضرب عليها الطوق، بحيث عاش كل زول في حالو، و كانت الحوارات و الونسة، تنتهي، فور بدايتها، على طريقة السلامُ عليكم … و عليكم السلام.
و عندما لزم وحيد السرير الأبيض، لفترة كانت ليست بالقصيرة، ساعد في الإحساس بوقعها و استطالتها كم الألم الذي عانى منه بسبب إنزلاق الغضروف اللعين…عندما لزم ذلك السرير إكتشف إن إحساسه بالوحدة مجرد هزار بالنسبة لما يعانيه الآن، فقد سد سقف الغرفة عليه الأفق، و صار في خلوته تلك يناجي طيف أصدقائه البُعاد، و يؤانس طيف أمه الحنون في الخيال، و يشرب كوب الحليب الدافيء المصحوب بإبتسامة في حالة هي: بين بين، في منتصف الطريق الواصل بين الصحو و أحلام اليقظة و الأضغاث.
و أكتشف في تلك الفترة الصفراء من أيّام عمره المَديد أنَّه لا يهابَ الموت، و لكنه: يخشي و لدرجة مُميته، الألم، الذي هو أسوأ شُعُور يتملَّك الإنسان، في دنياهُ، على الأطلاق… و في أثناء علاجه كان يدعو، بهمهة مسموعة، للأطباء و الصيادلة و الممرضين كلما أستطاعوا، و لو مجرد التخفيف، من آلامه المُبرِّحة، التي أصابت بدنَه و روحَه مُجتمعين.
عندما ماتت أخته الكبيرة، فجأةً و بدون مقدمات أو إرهاصات مرضيّة، تيتَّم وحيد للمرّة الألف، و أعتراهُ إحساس بالهانةِ و الإدقاع، و أفتقد حتى الحِوارات القصيرة من نمَط: (السلامُ عليكم… و عليكم السلام) و بان له الآن فقط، رونق تلك الجُمّل المقتضبة و جدواها، إذ: لاذت أخته الصغيرة، أصغر البيت، فور المصاب الجلل، بالصمت وَجْداً و حُزناً على أختِها، و دخَلتْ في حالةٍ من الذُهول و الغرقان في ذاتها، لم يُفلح أطباء النفس في إخراجها و إنقاذها منه أو على الأقل: تخفيفه!
و هكذا بضربة واحدة من عزرائيل فقد و إفتقد (وحيد) أختيه الإثنتين، من قامت مقام أمه، و من حَنْت عليه من موقعِها كأصغر أهل البيت.
و غاص وحيدٌ في مأساته، و دخل في مرحلة جديدة من الوحدة القاسية المُرَّة، التي لا له، و لا لأي أحد آخر: قبل بها.
و كان لابُد لوحيدٍ من مخرجٍ، أو مهرب من راهنه، أو مدخلٍ لعالمٍ جديد، يقضِي على حالة العزلة التي تولد لها، كل يوم تقريباً، أسباباً جديدةً.
و وجد وحيدٌ في العمل العام، على نطاق الحي، ضالته… و غاية آماله.
بدأ بمشاركةٍ… خجولةٍ، في اليوم الذي أقامهُ شبابُ الحي للتشجير، و انسجَم من حيثُ يدري أو لا يدري مع الفكرة، و اجتهد و تميَّز في التنفيذ… و في الحفرِ و غرسِ الشُجيرَات و ريِّها، تلك الأشجار التي صار فيما بعد، يجدُ متعةً كبيرةً تشارفُ الإثارة، في رعايتها و تشذيبها، و تعهُدها بالسُّقيا و التسميد…
و زالت عنه العين السوداوية الظلاميّة، التي كان يطلُّ بها على الناس و العالم من حوله… و تراجعت رغبته في الإنتحار و انحسر التفكيرُ، الدائم، في إنهائه حياتهُ: إذ صار، هُنالِك، من يفتقده و يسأل عنه… و يجالسه، و يبادلهُ السمر : من شباب الحي.
و لكن، الزمنَ دوّارٌ… و النعمةَ لا تدُوم!
أُصيب وحيدٌ في حادثِ حركةٍ كبير، بعد أسابيعٍ قليلةٍ من إكتشافه الإصابة بالضغط و داء السكري اللعين، و بُترت رجله اليُسرى من منتصف الساق، و لزم سريرَ المستشفى لشهور، و صارت بعدها حركتهُ محدُودة، و انحسرت، بالتالي، علاقاته بشباب الحي، إلا القليل منهم.
و لمّا زُرته عند عودتي في الإجازة، باعتباري صديقاً حميماً و قديم، احتضنني و هو يبكي… فقد تفجرت عنده، بمجرد رؤيته لي، تفجرت سيول من الذكريات العزيزة، عندما كان وحيد يسرح و يمرح و سط أترابه و عندما كانوا جميعهم، يعتبرون أمه أمّاً لهم، و داره داراً لهم.
و تركت وحيداً و أنا بائسٌ محزون، بعد أن أهديته ثلاثة نسخ من كتبي الثلاثة التي صغتها و أنا في المِهجر… علَّها تكون فاتحةٌ لولوجه دُنيا جديدة، و نداءٌ لأشخاصٍ متخيلُون يلتفُون حوله، و يُبددون وحشته، و يُؤانسون وُحدته.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..