لمن تعزف مزامير التهريج؟

تحت عنوان حكاية المجاعة في زمن حكم السودان كتب أحد صحفي صحيفة (مصر اليوم) مقالا استعان واستجار خلاله بمواطن يدعى محمد طاهر سدو ينتمي الى قبيلة البشارين أحد قبائل البجا المحاذية للحدود المصرية والتي ينحدر منها العميد الراحل الشهيد محمد عثمان كرار .الكاتب أتخذ من تصريحات المواطن أرضية انطلق منها لتأكيد تبعية مثلث حلايب لمصر..المقال عاد بي بالذاكرة الى مقال صدر في منتصف الستينات في الصفحة الثالثة لصحيفة (أخبار اليوم) وجاء تحت مانشيت عريض يقول وزير سوداني في أراض مصرية ..الوزير المعنى بالأمر كان الأمير عبد الله عبد الرحمن نقد الله وكان وقتها وزيرا للداخلية وكان في زيارة تفقدية لمنطقة حلايب ..الصحفي وجه للوزير أسئلة تفوح منها رائحة الاستفزاز من شاكلة هل حصلت على تأشيرة دخول من السفارة المصرية ؟ ولماذا يتجاهل السودان منطقة الفشقة المحتلة من أثيوبيا ويتوجه الى مصر هل لافتعال مشاكل معها ؟ ..الصحفي يقول إن الوزير رشف رشفة واحدة من كوب ماء قدم له ثم دلق باقي الماء في التراب قبل إن يلقمه حجرين صلبين .. فقد استنكر سؤال الحصول على تأشيرة دخول لأنه في بلده وإنه لا يحتاج الى تأشيرة من أحد ..أما حكاية الفشقة فقد قال إن حكومته واعية بقضاياها وأولوياتها ولا تنتظر درس عصر من أحد ..
(2)
الانطباع الذي يخرج به المرء بعد قراءة ما يكتبه الكتاب المصريين في قضايا العلاقات بين البلدين إن الطرح يأتي في كثير من الأحيان فطيرا سقيما يعلوه الجهل وتفوح منه رائحة الاستعلاء ….فالتناول يفتقر الى المنطق والتحليل العقلاني الهادئ وأحيانا يتعمد الإساءة دون اعتبار لخصوصية العلاقة وأحيانا يجهل تداعياته وإسقاطاته على المواطن السوداني واسع الاطلاع جاد التعامل منذ أن أطلق محمد حسنين هيكل ثورة الرعاع على ثورة أكتوبر 1964 في مقاله المشهور تحت عنوان (ثم ماذا بعد) وهو مقال فجر غضبا في الشارع السوداني لم يحتسب له هيكل حيث خرجت الجموع في تظاهرة عارمة اتجهت للسفارة المصرية وألحقت بها أضرارا بليغة .كما أثار مقال آخر له عن مصرع الإمام الهادي بمنجة مسمومة خلافا لتقارير الشرطة وشهادات من نجا من المواجهة سخطا شعبيا واسع النطاق .
(3)
في قضية حلايب بدا واضحا إن الكاتب وجد ضالته في المدعو محمد طاهر سدو فقد استدرجه لينتزع منه هذه الاعترافات ثم يبني عليها ويقفز منها الى تبرير الاحتلال الذي تم في منتصف التسعينات بقوة السلاح بعد الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الإنقاذ في مطار أديس أبابا في بواكير عهدها فقد كان حدثا طائشا يفتقر الى الحكمة اتكأ عليه الرئيس المصري السابق حسني مبارك لاحقا بإصدار أوامر احتلال المثلث قبل أن يستثمر محاولة الاغتيال في حملة واسعة النطاق لعزل النظام وقصم ظهره بسلسلة من العقوبات لازالت تدفع ثمنها الإنقاذ ومن ورائها شعب السودان بالغالي والنفيس ومع ذلك فالكاتب يزعم إن الاحتلال العسكري كان استجابة لإغاثة جائع ملهوف كما يقول المواطن البشاري سدو.
(4)
السؤال هنا من هو محمد طاهر سدو ؟ تقول الرواية إن الرجل تعرض لاعتقال من جهاز الأمن في بورتسودان خلال الأيام الأولى من نشوة الإنقاذ ..الرواية لا تتحدث عن أسباب الاعتقال ولكنها تروي معاملة قاسية تعرض لها خلال إجراءات التحقيق في كل من بورتسودان وكسلا ..بعد إطلاق سراحه لم يتردد فقد توجه الى أهله وذويه في منطقة حلايب مشحونا بالبغضاء والكراهية ومخططا للانتقام لما اعتبره إذلالا وإهانة لكرامته ..وهناك تلقفته سلطات الاحتلال بعد أن وجدت فيه خامة جاهزة للتشكيل في منطقة تجهل تأريخها وأعرافها ونسيجها الاجتماعي بل حتى لغة التواصل معها ..تم تعيينه رئيسا لإدارة القبائل بمخصصات مغرية منها منزل مؤثث ومكتب وسيارة يرفرف فوقها العلم المصري للقيام بالدور المرسوم له وهو شرعنة الاحتلال ..
(5 )
نحن هنا لسنا بصدد محاكمة هذا الرجل البدوي فالخلط بين الوطن والحكومات والاستقواء بالأجنبي هي ممارسات سودانية أفرزها الصراع السياسي ويقف التاريخ الآن شاهدا عليها فالروايات تتحدث كيف إن حزب الأمة وفي عصر الإمام عبد الرحمن المهدي لجأ الى دولة الكيان الصهيوني طالبا المساعدة المالية نكاية بحزب الشعب الديمقراطي الذي كان يمارس نشاطه السياسي بتمويل كامل من الحكومة المصرية كما إن تأليب السياسي المخضرم مبارك الفاضل الحكومة الأمريكية لضرب مصنع الشفا بحجة إنتاجه لأسلحة كيمائية يعتبر محطة هامة من محطات الخلط وتغليب الخاص على العام . وهناك قصة تروى عن علم مصري رفعه نوبة الشمال المحاذين لمصر فوق بناية عالية احتجاجا على نقل الحكومة لإدارة الجمارك جنوبا الى منطقة (ارجين) قبل أن تسرع الحكومة بالاستجابة الى طلبهم بإلغاء قرار النقل ..فرية المجاعة التي تعتصر المنطقة واستجارة مواطني حلايب بمصر لحل الضائقة هي كلمة حق أريد بها باطل ..صحيح إن هناك معاناة ناتجة عن غياب التنمية ولكن التصدي لها مسئولية الحكومة السودانية كما إن المواطن المصري ليس أفضل حالا من السوداني فالحصول على الضروريات في أدنى مستوياتها معاناة كبيرة مع تراجع السياحة وارتفاع التضخم وتدني القوة الشرائية للجنيه المصري..ومع ذلك فهي أكثر كرما لمواطني حلايب من مواطني الجيزة وعينها على الاستفتاء إذا خسرت أمام التحكيم الدولي .

(6)
بالمختصر المفيد هناك أزمة متجزرة في صلب العلاقات الثنائية ..أزمة أشبه بالرماد الذي يعتلى السطح والنار التي تستعر في الداخل ..الرماد فيها تلك التطمينات والاحتواءات التي تقوم بها سفارتي البلدين في الخرطوم والقاهرة بالاتصالات المكوكية حينما تقع الفاس على الراس ..أما النار فهي تباعد المواقف وعمق الخلافات في قضيتي الساعة حلايب وسد النهضة والتي ينفخ فيها الإعلام المصري ..أنا والله ومعي كثيرين لا ندري لمن يعزف مزاميره المذيع الذي يشنف آذاننا بأنه لا يعرف ولا يعترف ببلد أسمه السودان ..هل تدري الحكومة المصرية تأثيرات وتداعيات هذا التهريج على الإنسان السوداني وعلى مجمل العلاقات التاريخية بين البلدين ؟ نحن نعترف إن هناك إشكالية بين البلدين في منطقة حلايب وحلها في ساحات القضاء والتحكيم الدولي ولكننا لا نفهم لماذا ترفض مصر التي وافقت على التحكيم الدولي وجلست لسنوات على طاولة التفاوض مع اليهود لاسترداد منطقة طابا التعامل بالمثل مع السودان سيما وان الوثائق التي كسبت بها القضية صادرة من دار الوثائق السودانية ؟..
(7)
أما فيما يتعلق بقضية سد النهضة فقد إنزلقت الى هاوية من الخلافات العميقة بين مصر وأثيوبيا كان من الممكن تلافيها ..هنا أيضا سوءا في إدارة الأزمة تتجه فيها الأصابع الى مصر ..فمنذ سنوات ظلت أثيوبيا تطالب بإعادة النظر في القسمة الضيزي في اتفاقية مياه النيل الأزرق التي أعطت أكثر من 80% من المياه لمصر بل حفيت أقدامها وهي تدعو لشراكة إستراتيجية لإدارة هذا المرفق المائي الحيوي لصالح البلدان الثلاثة كما هو الحال بالنسبة لدول حوض نهر السنغال وهي غينيا ومالى والسنغال وموريتانيا ..هنا برهنت الإرادة السياسية قدرتها لبناء تعاون إقليمي قابل للحياة في ظل الاضطرابات المتشعبة لتتخذ من المياه ذراعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لاستقرار دول الإقليم بتحويل المياه من أداة للحرب الى أداة للسلام ..نفس هذا ينسحب على دول نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية ..أثيوبيا اعترضت على اتفاقية أبرمت في عصر الاستعمار ولم تكن طرفا فيها وحينما لم تجد آذانا صاغية بدأت وتحت ضغط احتياجات التنمية والتوسع السكاني في تنفيذ مشروع سد النهضة مع ترك باب الشراكة والتنسيق مفتوحا على مصراعيه ..وفي المقابل لم تجد مصر (حسني مبارك) مفتاحا للحل سوى اللجوء الى سلاح الضغوطات وكان من ضمنها شن غارات جوية على منشآت السد .. رئيس أثيوبيا وقتها ملس زيناوي رد برسالة مختصرة يقول فيها لن تكسب شيئا بالحرب .

(8)
أمام التمصير الممنهج لحلايب فليس للسودان خيار آخر سوى الخروج من عباءة العاطفة واللجوء للتحكيم بتسليم القضية برمتها الى خبراء القانون الدولي مع التزام الحياد والدور التوفيقي في الخلاف حول سد النهضة وحذار من السقوط في الفخ المنصوب الذي يستهدف توريطه في حالة عداء مع أثيوبيا .. ويا مصر الشقيقة لقد طفح الكيل وآن الأوان لضبط الخطاب الإعلامي الذي لم يكتفي بتأزيم وتوتير علاقات الحكومتين فحسب بل سمم علاقات الشعبين .

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..