مصلحة الوطن أم مصالح الإسلاميين؟«3» .

د. الشفيع خضر سعيد

بعد أقل من «24» ساعة من أحداث هجليج الأخيرة التي خلقت وراءها الموت والفزع والدمار، التقى في أديس أبابا القادة السياسيون المتنازعون، ونشرت الصحف صورهم وهم يتبادلون التحايا والابتسامات، بكل مودة وأريحية. والناظر إلى أي من تلك الصور، ربما سيرد في ذهنه السؤال التالي: إذا كان بإمكان قادة الجنوب والشمال أن يتبادلوا مثل هذه الابتسامات الحميمية كمقبلات للحوار، فلماذا لم يتداركوا الأمر قبل أن تسقط الأرواح وتنهد الجدر الآمنة؟ أم أن قيمة الإنسان عند حكام السودان أصبحت فعلاً تساوي أن «يقش قشا بعد أن يلحس كوعه»؟. فعلاً، ممارسات الإنقاذ جعلت ناموس الحياة مختلاً تماماً في السودان. لكن، إذا كانت هذه الإشارة هي من المتكررات المفصح عنها يومياً، والمدعومة بكل الأدلة والقرائن، فإن حدث الحرب والموت والدمار لا يمكن التعامل معه وكأنه حدث عادي مثل غيره من الممارسات، فضلاً عن أنه مرفوض جملة وتفصيلاً. وفي الحقيقة، كيف يمكن أن نقبل باستمرار نظام حكم يتمسك بالجلوس على خرائب المدن والقرى ؟ وفي مسألة الحرب والسلام هذه، يبحث العديد من الناس عن تفسير لظاهرة تكررت، على الأقل حتى الآن، مرتين: اتفاق أديس أبابا الإطاري، والموقع بين دولتي السودان وجنوب السودان قبل عدة شهور، الغي من على منبر جامع قبل أن يستجم موفد الإنقاذ من وعثاء السفر، لتتطاير مزيد من الرؤوس وليتواصل رذاذ الدم.. ثم جولة أخرى من التفاوض!. اتفاق الحريات الأربع الموقع بالأحرف الأولى بين الشمال والجنوب، وبعد أن وافقت عليه رئاسة الجمهورية وقيادة الحزب الحاكم، يصبح في مهب الريح بعد أحداث هجليج الأخيرة، وذات الريح تعصف الاجتماع المشترك بين رئيسي البلدين وتمنع أية حلول أو إجراءات استباقية لما سيحدث بعد 8 أبريل القادم بشأن أوضاع مواطني كل بلد في البلد الآخر!! ثم وبعد عدة ساعات فقط من احتدام القتال تهرع وفود النظام لتلحق بالمفاوضات في أديس أبابا!! الضغوط الدولية، بسيناريوهاتها المقترحة، بالتأكيد تأتي في صدر التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة المتكررة.

لكن، من الواضح أن هذا الأداء المتخبط للنظام يعكس تصدعاً في بنيته الداخلية، وهو ليس بمعزل عن صراع التيارات داخل حزب المؤتمر الحاكم. والمتابع للمشهد السياسي يمكنه أن يرصد عدداً من هذه التيارات، لكن أبرزها ثلاثة تيارات رئيسية: فهناك تيار الألف أخ الإصلاحي الذي يهدف إلى إصحاح المسار، ولو أدى ذلك إلى فك الارتباط بين الحركة الاسلامية وجهاز الحكم، والملاحظ أن تركيبة هذا التيار تغلب عليها فئات المثقفين والمهنيين، وهي لا تتمتع بنفوذ تنفيذي واسع، ولكنها تتيع تاكتيك التعبئة والحشد حتى قيام مؤتمر الحزب. وهناك التيار الداعي للتعامل مع حقائق الواقع الموضوعي، بما في ذلك التعاطي الإيجابي مع المجتمع الدولي، ولعل هذا التيار تمثله المجموعة التي تحملت عبء نيفاشا، وهي تمسك بقدر غير قليل من مفاصل السلطة، ولكن يبدو أن نفوذ هذه المجموعة في تناقص مستمر. أما التيار الثالث، فيغلب عليه الطابع المتشدد المتشبث بالسلطة، ولعله يمثل تحالفاً واسعاً يضم المؤدلجين أصولياً داخل المؤتمر الوطني، وكذلك المجموعات المتشددة المختلفة من سلفيين وتكفيريين، إضافة إلى مجموعة «منبر السلام العادل». وهذا التيار لا يخفي هدفه في إقامة الدولة الدينية في السودان حتى إذا أدى ذلك لانفصال أجزاء أخرى من البلاد، لا سيما أنه لا يخفي، أيضاً سعادته بانفصال الجنوب.

وقد ظهرت قوة هذا التيار في أكثر من معركة منها، إلغاء اتفاق أديس أبابا الإطاري، ثم التعبئة والحركة الواسعة بهدف إجهاض اتفاق الحريات الأربع وأية نتائج محتملة للتفاوض الجاري الآن. ومن الواضح أن هذا التيار يطرح نفسه باعتباره الأصدق تعبيراً عن مصالح الرأسمالية الطفيلية والأكثر قدرة على حمايتها. وبسبب اصطراع هذه التيارات، وغيرها، داخل النظام، اصبح القرار السياسي للحكومة مصاباً بحالة دوار! فإذا هو أقبل على النيفاشيين هاشاً باشاً، يتحول رد فعله في لمح البصر إلى حالة رفض قاطع بسبب المتشددين. وأية محاولة لإرضاء الألف أخ، يقابلها منع نشر أي خبر عن قصص الفساد. وأصلاً القرار السياسي عند النظام لا تنقصه أسباب الدوار، فهو محاصر بكثير من المؤثرات الخارجية الكبيرة جداً على بنيته الهزيلة. لكنه، بدلاً من الانسحاب وإعلان الهزيمة، يواصل حالة التعايش على الوهم ومحاولة رتق لعبته السياسية، فيمسك بالدستور الاسلامي، محركاً جهات تدافع عن ضرورته وتكفر الآخرين، وكأنما الصراع في مناطق الحرب يدور حول هل أنت مع أو ضد الدستور الإسلامي؟!

لكن، وللمرة المليون، لمصلحة من تدور وتتواصل الحرب الأهلية في السودان؟ لمصلحة القطن قصير التيلة أم لمصلحة سماسرة تجارة السلاح الدولية؟ لمصلحة الجنود البسطاء أم لمصلحة لوردات الحرب؟ لمصلحة الناس الغلابى أم لمصلحة الطفيلية وحماية المنتهكين للحقوق وكآلية للاستمرار في السلطة؟ لمصلحة بناء أمة سودانية أم لمصلحة بناء تنظيم ظلامي؟ والحرب الأهلية الدائرة الآن في البلاد، ليست حرب فرسان ومبارزة بالسيوف، بل هي حرب طائرات وأسلحة حديثة تستوجب تحالفاً بين المستفيدين «الداخليين» والمستفيدين «الخارجيين» لتسويق البضاعة الراكدة منذ انتهاء الحرب الباردة. وهؤلاء التجار لا يجدون من يملأ جيوبهم غير الجهلة وشذاذ الآفاق وسماسرة الحرب في العالم الثالث.

«23» عاماً كبلت فيها حركة الأحزاب السياسية ونشاطها وسط الجماهير، استعمرت فيها الخدمة المدنية، حطمت مشروع الجزيرة والسكة حديد وكل وسائل النقل البري والبحري والجوي، وأجبرت الشباب على الهجرة القسرية من البلاد، دمرت التعليم، ونفذت بكل قوة قانون «فرق تسد» مستخدمة العصبية القبلية للتأليب والتخويف وفرض السيطرة.. «23» عاما والإنقاذ خلالها تحاول تحويل العقيدة القتالية للقوات المسلحة، والتي هي بوتقة للانصهار القومي، من العقيدة القتالية الأصلية، أي الذود عن حمى الوطن ضد الأعادي، إلى الجهاد الذي كان عصا على الرؤوس، وإلى هذه النعرة العنصرية الطافحة، حتى أصبح من الممكن جدا الإشارة إلى الإنقاذ باعتبارها مهدداً للوجود القومي السوداني. فقد علت نبرة القبيلة حتى أصبحت بنداً مهماً في كل الأوراق الرسمية، وهذه كارثة في بلد يقوم أصلاً على التعايش السلمي بين القبائل والأديان المختلفة، ويعتمد بشكل كبير على عملية، تتجدد كل ثانية، من أجل تمتين العلاقة بين المكونات القومية المختلفة لصالح دعم وجود الأمة السودانية. والآن، بعد هذه الـ «23» عاماً، أصبح واضحاً الخلل في نمو الأمة السودانية، فما يفرق المدن أصبح أكثر مما يربط، وما يحرك الناس لاقتلاع الحقوق هو عامل الجهة والقبيلة. لقد طغى الحس القبلي الضيق على كل العوامل الأخرى، وهو بطبعه حس أناني يجد القبول ويلف العقول، ولكنه يبهت بسرعة لأنه ضد الحياة. هكذا يعود بنا النظام إلى صراعات بدائية جداً ظننا أننا بصدد تجاوزها عندما رفعنا علم السودان وغنينا «أنا سوداني وسوداني أنا». إن الحرب التي تقوم دعوتها دفاعاً عن العرق، أول حصادها هو فناء صاحب الدعوة نفسه.. أليس العرق هو الذي جمع الحشود حول هتلر وهو نفسه الذي دفعه للانتحار، ومن ثم طي صفحة النازية؟

ومع أخبار الحرب من موت ودمار تأتي بالونات اختبار الحلول السياسية: انتخابات مبكرة لتوسيع قاعدة الحكم! هذه من عينة الحلول التي تجعل المسافة بين تلودي والخرطوم كالمسافة بين الخرطوم وواشنطن! هؤلاء الناس لا يفهمون أن زمان الحلول الفوقية قد ولى.. ولا بد من حل جذري يوقف الحرب أولاً، ثم بعد ذلك يمكن أن نبحث في توسيع قاعدة الحكم لتستوعب أكثر من ألف أخ سوداني من «نوبة وزنوج وبجة وحلب…رطانة عربان مو أشو ومولدين»، على حد قول الراحل حميد! لكن، وبإطلاقها بالونة الانتخابات المبكرة، قد تكون الحكومة ترغب في الإعلان عن أزمتها في الحكم. أو ربما هي تفكر بصوت عالٍ في التنازل عن الحكم، أو ربما تكون علامة رضاء لصفقة ما يلوِّح بها بعض «المهتمين الدوليين» بالشأن السوداني!!

وهكذا، نظام الإنقاذ يتحرك صوب الحرب لأنه ما من شيء يبقيه في كرسي السلطة غير الحرب، ولأنه يصحو كل صباح ليجد دوائر الخلاف داخله آخذة في الاتساع. إذن، الحرب والمتاجرة بالدين والرهان على إثارة النعرات القبلية، هي الأذرع الرئيسة التي تتحرك بها الإنقاذ، وكل ذلك بدفع مباشر من التحالف الشرير المشار إليه آنفاً، بين الطبقة الحاكمة والرأسمالية الطفيلية التي لا تكتسب شرعية وجودها إلا في عهود الانحطاط.

نحن نرى ألا مخرج للبلاد من هول ما يحدث إلا بتكاتف الجهود لوقف الحرب أولاً ومعالجة كل تبعاتها، وقيام حكومة قومية تدعو لمؤتمر دستوري قومي يضع حداً لكل النزاعات ويصيغ دستوراً للبلاد، وتحقق التحول الديمقراطي الكامل، بما في ذلك تحقيق استقلال القضاء وأجهزة العدالة، تحقيق قومية أجهزة الدولة المختلفة، إعادة النظر في مفوضية وقانون الانتخابات، ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة.. ويدعم كل ذلك مشروع فكري ثقافي يؤطر لإعادة بناء الأمة السودانية.. وباختصار لا مخرج لهذه البلاد من أزمتها إلا برحيل نظام الإنقاذ!!

الصحافة

تعليق واحد

  1. صدقت يا دكتور مجموعة من الانقاد هادم ومهدد حقيقى للقومية السودانية والوجودالسودانى على الخرطة

  2. وباختصار لا مخرج لهذه البلاد من أزمتها إلا برحيل نظام الإنقاذ!!
    فعلاً أخي لا مخرج لنا الا برحيل هذا النظام الفاسد المفسد الضال المضل …اللهم اصرفهم عنا وعن بلادنا واجعلهم عبرة للمعتبرين …

  3. لايوجد حل الا برحيل الانغازيون الانتهازيون ومحاسبتهم فرداً فرداً

    ايها الشعب السودانى الحر الصابر الصامد لانريد اسقاط النظام بالقوة ولكن بمقاطعة الانتخابات ومطالبته بالرحيل

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..