كرمكول .. و القدار ودبة الفقراء ولتي .. القرى المنسية

كرمكول قرية تنام في أمان لله عند منحنى نهر النيل شمال السودان ناحية قرية دبة الفقراء ولولا أنها أنجبت في العام 1929م الأديب العالمي الطيب صالح وليد عيشة لما كانت على موعد مع الشهرة لأن “الطيب” بخلاف كثير من طباع البشر الذين يغادرون مدنهم وقراهم طاف بقريته لكل الأمكنة اللامعة والصالونات الأدبية .. دخل بها أصيلة المغرب وإربد الأردنية وحارات سيدي الحسين وسوق عكاظ.

سكنت فؤاده وانحشرت بين أفخم مدن العالم منذ أن عمل مذيعا بهيئة الإذاعة البريطانية عام 1952م .. وحين هبط دولة قطر منتصف الستينات وكيلا لوزارة الإعلام وأمسك بملفات دول الخليج باليونسكو كانت كرمكول معه.. كان بها بيننا في دوحة الخير ..

​​لم يغسل قدميه من طينها وكتاحتها ورائحة دميرتها وتمرها ودومها ذلك الذي كان حلاوته واقرانه .. كما فعل القائد الأثيوبي الذي دحر الطليان وأمرهم بغسل أقدامهم قبل الصعود لسفن الفرار وحينما سئل لماذا ؟ أجاب لكي لا يحمل جندي ذرة رمل من الحبشة إلى إيطاليا، لكن الطيب ظل يتنفس هواء ونخيل كرمكول ويحضنها بين أضلعه عشقا ويحادث الناس عبر أبطال رواياته بنفس لغة قريته وأدبياتهم في تفاصيل الحياة.‏

كرمكول التي أنجبت “الصالح” ما كان لها أن تغادر تلك البقعة الجغرافية ناحية قبة الفقراء إن لم يحدث “التربال المتفرنج” الناطق بالعربية المعجونة بلهجة أهله الركابية في شمال السودان والمتحدث بالإنجليزية بطلاقة وكأنه أبن بكر لشكسبير قال الطيب: “كنت ألبس جلبابي لأتمدد في عنقريب أمي أشرب معها شاي الصباح في التكل حول موقد خشبي من جذوع شجر الدوم وجريد النخيل ، كنت أمسك بأطراف يد أمي حتى تدخلني للمسيد لأحفظ القرآن، وحينما كنت أعود في إجازتي من بلاد الإنجليز كنت أجلس القرفصاء لآكل قراصة القمح بدمعة الدجاج والملوخية والبامية المفروكة التي كنت أحبها والتي تخلصني من استعمال الشوكة والملعقة ” .

قالت فاطمة إحدى قريباته: “كان متواضعا يجالسنا في الحيشان تحت ظلال أشجار النخيل ويرافق شباب الحي لبيوت البكاء والطهور والأعراس ويدس المقسوم لخالاته وعماته كعادة أهل السودان .. ومنذ أن غيب الموت الطيب صالح أحد أولادنا الفالحين نبكيه (أحي على وليد عيشة ما شفناك يا ود الحشا إلا وجنازتك ملفوفة بعلم السودان في مقابر البكري بأمدرمان).‏

أكتب هذه الـ “كرمكول” التي ما عادت لامعة منذ أن غادر وليدها الصالح هذه الدنيا الفانية وكأني أسمع صوته عندما زار مدينة مروي وهو يقول: “كنت تعبا لكنني ارتحت عندما رأيت النخيل .. وبيوت الطين”، فالطيب الذي كتب الرواية ومجد القرية بمبانيها المطلية بالطين الأسود وزبالة البهائم وألحيشان منثورة فيها التمر على بروش مصنوعة من جريد النخيل ويتكوم بجانبها جوالات القمح والفول التي كانت منتجا غزيرا وتقفز العنزة من ركن لآخر تُرضِع سخيلاتها غير عابئة بمن يرتشفون الشاي الساخن ، ولا بحديث الحبوبات حول ذات الموقد المشتعل. ‏

كرمكول كما كثير من القرى يعيش الناس فيها في تقشف، لكنهم يعيشون ترفا في حكاياتهم ولوازم صلاتهم وتسبيحهم، فعلى فروة أُحسن دباغتها يؤدون فروضهم وحين يشتد البرد يستعملونها كغطاء ويمددون من تحت أطرافها أرجلهم وأياديهم ليدلقوا ماء الوضوء من إبريق أحسن صناعته من نحاس بتصاوير ونقوشات، ليرقع المصلي مسبحته من خشب الصندل يداعب حباتها ويمسح بها وجهه ليستنشق رائحتها، وإن غضب من أحد أبنائه ضربه بذات السبحة على رأسه لأن ذلك في عقيدته تطرد الشيطان من رؤوس الصغار الفالتين.

حدث الطيب صالح العالم المتمدين عن أدوات تجميل نساء قريته كرمكول من كحل سكن الدوكة والدلكة والحناء كما حدثهم عن الفركة والقرمصيص الأحمر والبرش الذي غزلته أصابع النساء بإتقان لا يقل عن أحدث مكائن الغزل والنسيج بتبريز واصفهان تماما كما حدثهم عن حياة الأنس بين صبايا وصبيان الحي، قال الطيب: نحن وحيواناتنا سواء بسواء نصحو حين تصحو وننام حين تنام .. أنفاسنا جميعها تتصاعد بتدبير واحد، وأهلي في قرية كرمكول ينامون حين يسكن الطير ويمتنع الذباب عن مشاكسة البقر وتستقر أوراق الشجر وتضم الدجاج أجنحتها على صغارها وترقد الماعز على جنوبها تجتر ما جمعته في يومها من علف.‏

طاف “عبقري الرواية العربية” بقرية كرمكول وثقافة أهلها دول العالم وصالوناتها الأدبية من خلال مفرداتها وحبه لأمه عيشة وصنع روايته الأشهر “موسم الهجرة إلى الشمال” والتي صنفت ضمن أميز وأجود أهم مائة أثر فكري وثقافي أحدثت أكبر الأثر في تاريخ الإنسانية قاطبة منذ أن عرفت البشرية الكتب والكتاب، هذا ما توصلت إليه اللجنة الدولية وضمنها أربعة من حملة جائزة نوبل هم: وولي سوينكا ونادين قولدمر وق . س نايبول وشيموس هيني، وسوف تبقى كرمكول تلك البقعة التي جسدت حوار الثقافات وتبادل المعارف بين الشعوب. ‏

ها أنا أتحدث عن كرمكول فأتحدث عن الطيب صالح، وكأنهما شيء واحد، ولا غرابة، فقد ارتبط الصالح بقريته المبنية بالطين الأسود والمليئة بالنخيل والشوك والعشر والواقعة في الولاية الشمالية ، والتي هجرها غالبية أهلها طلبا للرزق، وأشجار النخيل هرمت وأنهكها الجفاف وكأني بها ايضا حزينة بائسة فما عاد ابنها حيا ليذكرها ولا الاخرين متشوقين لزيارتها كما كانوا متحلقين حوله ..

من هنا من هذا المكان قرية “كرمكول” خرج على الدنيا ومنها أيضًا استلهم جميع رواياته التي نالت إلاعجاب وحصدت الجوائز، وربما يعرف كثيرون صالح ورواياته ويحفونها بإعجابهم لكن كثيرين أيضاً لا يعرفون أنها جزء لا يتجزأ من الواقع في تلك القرية الصغيرة.

‎ولا يختلف نمط حياة السكان هناك عن حياة كل من يقطن في الفرقان والقرى التي تتوسط ضفتي النيل شرقاً وغرباً،‎ ‎فقد تغيرت خارطة كرمكول التي تمتد مع امتداد النيل نحو ثلاثة كيلومترات، ذهابًا وإيابًا من الجنوب إلى الشمال عدة مرات، بيد أنها مع ذلك كله خرجت من صدماتها ، ولاتزال شامخة تقاوم بقوة زحف الرمال من الناحية الغربية وظاهرة “الهدام” مع انجراف التربة على شاطئ النيل من الناحية الشرقية‎.

‎وسط هذه البيئة المعقدة ترعرع الطيب صالح وعاشت شخوص رواياته، قبل أن يجسد ويحول حياتهم إلى أدب من نوع خاص هزّ العالم لدرجة أن كرمكول نفسها لم تكتسب كل هذه الأهمية والشهرة إلا بعد بروز نجم صالح و‎تبدأ قرية كرمكول من الشمال إلى الجنوب بمجموعة تلال رملية ومنازل متناثرة من الطين هجرها أهلها لتتحول مع الزمن إلى مجموعة قطع حجرية او كثبان رمل تتلالي مع اشعة الشمس متناثرة تحكي عن ذلك الماضي الجميل الذي صورته روايات “عرس الزين” و”دومة ود حامد” و”موسم الهجرة إلى الشمال”، إذ تعتبر كرمكول القرية الأكثر تأثراً بالهجرة التي أصبحت مشكلة عصية في الشمال بسبب ضيق ذات اليد والإهمال الشنيع من قبل الحكومات المتعاقبة، وتنتهي كرمكول بمجموعة قباب وأشجار نخيل وسنط ونيم ودوم وحلفا ، فعل فيها الجفاف فعلته‎. ‎وفي كرمكول مجموعة آثار قديمة من بينها قصر “المانجولوك”، وهو اسم نوبي ربما اقترن بالممالك القديمة في الشمال الذي لاتزال آثاره قائمة إضافة إلى تركة العمد الذين شغلوا أيضًا جزءًا من روايات صالح التي غالباً ما تصور القرية في زمن الاستعمار الإنجليزي للسودان ..واه يا وطن ..

عواطف عبداللطيف [email][email protected][/email]

اعلامية مقيمة بقطر

همسة : كرمكول مثل قرية القدار انجبت ساتي ماجد شيخ الاسلام سنتاول قصته في سانحة اخرى

تعليق واحد

  1. أكتب هذه الـ “كرمكول” التي ما عادت لامعة منذ أن غادر وليدها الصالح هذه الدنيا الفانية وكأني أسمع صوته عندما زار مدينة مروي وهو يقول: “كنت تعبا لكنني ارتحت عندما رأيت النخيل .. وبيوت الطي
    ما عباراتك وسلاسة الفاظك ايتها المهجرية التي تحفظ نظم الكلم السوداني لقد بهرتنا بهذا المد العاطفي الذي رافقه حنين الوطن وكم سعدت بان حواء بلادي انجبت وما زالت تنجب لم يغادرنا ابن كرمكول الا جسدا وها انت تبدعين رعاك بنيتي وحفظ الله امثالك من بنات بلدي v

  2. رحم الله جدنا ساتي ماجد سوار الذهب و رحم الله الأديب الأريب الطيب صالح, إبني المنطقة و رحم الله أهلنا جميعاً الذين جاهدوا و قدموا الكثير أينما حلوا.
    لم يتمكن ساتي ماجد من تقديم شئي لأهله في القدار , لكنه سعي و بذل جهداً في سبيل توفير السكن الكريم لأهله من الدناقلة و المحس الذين كانوا يعملون في الري المصري في منطقة الشجرة, جنوبي الخرطوم. كانت الشجرة حي عشوائي حتي منتصف الأربعينات الماضية و بالتالي كانت تطال بيوت الطين الهدم من قبل البلدية. بعد عودته من أمريكا, تعرف ساتي صالح علي الحاكم العام وقته و عن طريق هذه العلاقة, صدق الحاكم العام بخطة إسكانية لهؤلاء العاملين في الري المصري و من ثم نشأ حي الشجرة في مكانه الحالي. حصل ساتي ماجد علي قطعة أرض في هذا الحي, ضمن المواطنين. لكنه كان رجلاً زاهداً و بالتالي لم يهتم بقطعته هذه مثل الآخرين. و للأسف, قيل أن أحد المواطنين وضع يده علي هذه القطعة و حولها لإسمه. و المفارقة أن إبنه الوحيد محمد ساتي المحامي كان يسكن في بيت مستأجر في هذا الحي إلي وقت قريب !!!
    أما الطيب صالح و رغم أنه سافر بعيدا و قرأ كثيرا و ألف الروايات و عرف الآخرين بالأدب السوداني و نقله إلي مصاف العالمية, إلا أنه لم يعمل علي تقديم شئي لبلده كرمكول, هذه القرية الوادعة التي ترقد في منحني النيل. لا أدري لماذا؟! هل هي الأزمة التي يعيشها المثقفين كما يقولون, أم أن في الأمر شئي آخر؟
    كرمكول و القدار إسمان يترددان كثيرا, فكرمكول هي التي أنجبت الطيب صالح و القدار هي التي أنجبت ساتي ماجد شيخ الإسلام في أمريكا و أنجبت المرحوم اللواء الزبير أحمد محمد صالح. لكن تعيش هاتين القريتين في هدوء و يعاني أهلها البؤس. هل من يد تمتد إلي هذه المنطقة لتنتشلها من حالة البؤس هذه؟!

  3. الله مااروعك فقد اعتيني الي الزمن الجميل لوصفك لقرية كرمكول والحياة فيها حيث اني من قرية ارقي شرق الدبة تقاصد كرمكول في الناحية الشرقية رجعت بي الذكريات الي العام 79 حيث عدنا الي البلد من كسلا واقمنا بها حوالي سنة وذلك لمرض حبوبة وممارضت امي لها لهما الرحمة وكيف الحياة الغنم والرعية وجلب الماء والجزيرة محل الزراعة فهي تسمى الجزيرة والذهاب العصريات لجلب حطب الواقود وهو من حطب البلح والجريد وحلب الاغنام واللمع عند شراب الشاي في الصباح والمساء وشراب الموية العكرة وغسيل الملابس عند شاطئ البحر واللمعة والجلوس وسط العمات والخالات وكيف نحن ذهبا الي قرية كرمكول لزيارة خالتي فاطمة فهي متزوجة من رجل بكرمكول لازالت تلك الرحلة في خيالي اتذكرها كما انها الامس ركبنا اللوري من الدبة الي كرمكول بعد ام اركبنا البنطون لتعديه ناحية الغرب ذهبت مع امي وكيف طفنا كرمكول وتعرفنا علي اهلها ان الحياة في الشمال رغم صعوبتها فالحياة جميلة مفعمة بالحركة والتعب فالرجال كما النسوان دائما في عمل فالمراءة تزرع وتحصد وتضفر سعف النخل وتجعل منه البروش والقفاف وتقوم ببيعه كمصروف لها تبيعه في سواق الدبة يوم الخميس والاثنين فهو يوم عيدنا حيث ياتي الاباء والحبوبات بالحلاوة والفول والتسالي من الدبة كل ذلك ذكريات جميلة نجترها لنقاوم بها صعوبة الحياة والغربة
    كل مدن الشمال مهملة وخصوصا الضفعة الشرقية فقري البديرية من مورة والسدر وكوري والهو والعفاض وارقي وبقية العقد الفريد فكلها مدن تعاني من الزحف الصحراوي والهدام الذي ضايق الناس في الزراعة والسكن في البيوت فًحل منها وتركوها خالية اتمنى ان تكون هناك جمعية من جميع ابناء مدن الشمال التي هجرها اهلها ان تكون هناك عودة ورجوع لجزور وتعمير بيوت الاباء والاجداد واهل هذه البلاد تعلموا فمهم الدكتور والمهندس والسفير فالمطلوب منهم تقديم خدمة الي قراهم ومنبت صباهم ومن نسى قديموا تاه

  4. أدبائنا وفلاسفتنا وعظمائنا ماكانوا يقيمون وزنا لقريتهم أو يمجدونها وكانوا يخفون كل ذلك فى وجدانهم ويحتفلون بها بطريقتهم الخاصة فى دواخلهم تماما كما كان يفعل ( مصطفى سعيد ) ..! كانوا يلتحفون علم السودان ويعلنون على الملأ بأنهم( سودانيين )فقط لاغير ..!
    يكفى أديبنا الطيب صالح بأنه ترك لنا ( نصلا) مغروسا فى أحشاء من عذبونا ( من أين أتى هؤلاء )..!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..