مُسابَقَة عالميَّة للكذب

بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*( في وقت الخداع العالمي يصبح قول
الحقيقة عملاً ثوريّاً.
– جورج أورويل-
.. أعلنت الجمعية الكونيَّة للكذب ـ ومقرّها في نيويورك ـ عن مسابقة عالميَّة للكذب، والفائز في هذه المسابقة، يحظى بوسام الكذب من الدرجة الأولى، يعلّقه على صدره، كما يُمنَح جائزة ماليَّة، مقدارها مئة مليون دولار.‏
وتمَّ الإعلان عن هذه المسابقة، بوساطة الأقمار الصناعيَّة، والمحطّات الفضائيَّة، وشبكات الاتصال العنكبوتيَّة، وكافة وسائل الإعلام: المقروءة، والمسموعة، والمرئيَّة.‏
فرحَ الكذَّابون الذين يزيِّنون كوكبنا الأخضر، وقالوا مستبشرين:‏
ـ لقد جاء أخيراً مَنْ ينصفنا، ويُكبرُ فينا مواهبنا.‏
وطمعَ كلٌّ منهم بالجائزة والوسام، على اختلاف أوطانهم ولغاتهم وألوانهم..‏
***‏
في إحدى مدن العالم الثالث، وأظنها الخرطوم، قال شيخٌ كبير لابنه:‏
ـ سأشتركُ في مسابقة الكذب يا ولدي.‏
ـ لن تفلحَ فيها يا أبي، لا تطلب المستحيل!‏
استشاط الشيخُ غضباً، واندفع يقول:‏
ـ أتستهين بأبيك يا ولد؟!‏
أما آنَ لك أن تعرفني وتنصفني؟!‏
لقد وهنَ عظمي، وشاب شعري، وأنا أكذب.. رضعتُ حليباً كاذباً، من أمّ كاذبة، كانت لا تدعني أنام حتى تحكي لي حكاية كاذبة، وربّاني أبٌ كذوب، لا يجري على لسانه إلاّ الكذب، وصاحبتُ أساطين الكذب من بني كوز، فأخذتُ عنهم كل غريبَهُ وعجيبَهُ، وساعدت وساهمت في حكم ونهب ثروات شعب اعزل ربع قرن ونيف بالكذب والغش والتدليس، ولن أستريح في قبري، حتّى أعلّق وسام الكذب على صدري.‏
أشفق الابن على أبيه، وقال:‏
ـ أنا لا أنكرُ أنَّك كذَّابٌ كبير، ولكنّ كذبك أصبح قديماً، أمّا في عصرنا الحديث، فقد صار الكذب فناً، له أصوله ومناهجه، لقد ازدهرت الحضارة، وتطوَّرت وسائل الاتصال، فالأقمار الصناعيَّة، تلتقط الكذب المنتشر على الأرض، والكذب المنتثر في الفضاء، ثمّ تغربله وتنخله، لتستخلص أعظمه وأجسمه، ثمّ تقدّمه إلى المختصّين، فيعكفون على دراسته وتمحيصه، وتبويبه وترتيبه، فتغصُّ خزائنهم بالكذب، أمّا أنت فلا تعرف سوى أكاذيب بلدنا وحركِتكَ الإسلاموية، فأين أنت من كلِّ هذا؟!‏
قال الشيخ غاضباً:‏
ـ سأكذبُ كذبة يندى لها جبينُ الإنسانيّة، وتحدثُ بها هزَّة أرضيَّة!‏
ـ وما هذه الكذبة؟‏
ـ سأقول أمام لجنة التحكيم: إنَّ الإنقاذ تحاربُ الإرهاب، وتنشر الديمقراطيّة، وتطبق الشريعة الإسلامية وترعى حقوق الإنسان، وتفشي السلام، وتبغض الكراهية والعنصرية وتكافح الفساد وتقضي على الرشى وإن حوار الوثبة الدائر الآن يفضي للتداول السلمي للسلطة، ومقرراته ملزمة للجميع، وإن العدل والمساواة والخير والجمال والطهر والشفافية تسود البلاد والعباد وإن السعادة والرفاهية والرخاء ستعم كل أفراد الشعب السوداني!!‏
ابتسم ابنه، وقال:‏
ـ هذه كذبة مكشوفة ومعروفة.‏
قال الشيخ محتدّاً:‏
ـ لا تزرع اليأس في نفسي، لن ألقي سلاح الكذب ما حييت، ولدتُ كاذباً وسأموت كاذباً، ولن أعجز عن اختلاق كذبة، توصلني إلى الوسام.‏
***‏
وفي بلد آخر، قال أستاذ الكذّابين لتلاميذه المتدرِّبين:‏
ـ ليتني أحظى بوسام الكذب، أزيِّنُ به صدري، وأختمُ به عمري!‏
ـ ستحظى به يا أستاذنا العظيم.‏
ـ أنا خائف، خائف!‏
حملق تلاميذه إليه، وقالوا مدهوشين:‏
ـ ماذا يخيفك يا أستاذ، والكذبُ يجري في عروقك؟!‏
ـ أخاف أن يشترك في المسابقة، أحد المسؤولين في الإعلام الأمريكي!‏
ـ أتخاف من ذلك، وأنت كذّاب ابن كذّاب؟!‏
هزَّ الأستاذ رأسه، وقال:‏
ـ لو تعلمون ما أعلم، لملأ الخوفُ قلوبكم.‏
ـ لا نعلمُ أحداً أكذبَ منك، قضيتَ عمرك كلَّه في الكذب، وزرعتَ أرض الوطن بأكاذيبك المشهورة، وأمامك مهلة سنة كاملة، فلا تغمطْ قدراتك، ولا تستهنْ بطاقاتك.‏
***‏
وفي بلد بعيد.. كان رجل أصلع، من رجال الإعلام المخضرمين، يستند إلى مكتبه بمرفقيه، ويضع رأسه بين كفّيه، وهو ساهمٌ واجم، يستعرض أمام ناظريه، شريط حياته المزدان بالكذب، ويضحك من كذباته الفجّة، في بداية طريقه الطويل، ثمّ وجد نفسه يرتقي شيئاً فشيئاً، فأصبحت أكاذيبه ناضجة، ولكنَّها لا تصلح لهذا العصر، الذي تطوَّر فيه الكذب تطوّراً مذهلاً، فسهر حتى ساعة متأخِّرة من الليل، وهو يدرس أصول الكذب الحديث، وأساليبه وفنونه، وكاد اليأس يثنيه عن الاشتراك في المسابقة، بيد أنَّه حينما سطع الفجر، سطعتْ في رأسه، كذبة كبيرة، طاش بها عقله، وتهلَّل لها وجهه، فقال محبوراً:‏
ـ الآن أشترك في المسابقة، والفوزُ نُصْبَ عيني.‏
وشرع يضحك بصوتٍ مرتفع..‏
وصل ضحكه إلى أذن زوجته، فبادرتْ إليه مسرعة، وقالت:‏
ـ بشِّرْني يا زوجي، هل وجدتَها؟‏
ـ وجدتها، وجدتها، يا لها من كذبة كبيرة، تبزُّ كلَّ الأكاذيب، كذبة ضخمة فخمة، أقوى من الزلزال، تميد لها الأرض، وتأبى حملها الجبال!‏
أشرق وجهُ الزوجة، وقالت مشوقة:‏
ـ اكشفها لي، نفدَ صبري!‏
نفخ الزوج صدره، وشمخ بأنفه، وقال:‏
ـ سأقول أمام اللجنة: إنَّ شعوب العالم تحبُّ أمريكا!!‏
همدتْ حماسة الزوجة، وخاب ما أمَّلتْه من زوجها، كأنَّما صبَّ عليها ماء بارداً!‏
نظر زوجها إليها، وقال مشفقاً:‏
ماذا أصابكِ يا حبيبتي، أليس ما قلته كذبة كبيرة؟!‏
قالت الزوجة محزونة:‏
ـ لا أنكرُ أنَّها كذبة كبيرة، ولكنَّ كثيرين غيرك سيكذبون هذه الكذبة!‏
نظر الزوج إلى زوجته نظرة إكبار، وقال:‏
ـ ما أعظمَ فطنتكِ ونباهتك، فهذه كذبة لا تخفى على أحد!‏
ـ وماذا ستعملُ الآن؟‏
ـ اطمئنِّي يا حبيبتي، سأغترفُ الكذبَ من منبعه ومصدره.‏
ـ أتعني أمريكا؟‏
ـ لا أعني غيرها، إنَّها موطن العمالقة، أخذوا لُبابَ الكذب، وتركوا لغيرهم القشور.‏
ـ وهل تأملُ الفوز؟‏
ـ لا تخافي عليَّ، أنا رجلٌ مُجرَّب، لم أصدق قطّ.‏
***‏
وفي إحدى العواصم المتطوِّرة، كان أحدُ الساسةِ الكبار، يروزُ ما وصل إليه، من أكاذيب العالم المتحضِّر، ويرتّبُ تلك الأكاذيب، بحَسْبِ ضخامتها وجسامتها، وبعد أن فرغ من عمله، انتقى أعظم كذبة، وضع تحتها خطّاً أحمر، وعلَّق بها عينيه، ينظر إليها بإكبار، وإلى ما عداها باستصغار، وما لبث أن فقدَ زمامَ نفسه، فأخذ يتكلّم جهاراً، ويقول:‏
ـ لن يغلبني كاذبٌ على وجه الأرض، كذبتي الحبيبة ستجلب لي الثروة والشهرة!‏
هرعتْ إليه أمّه، وقالت:‏
ـ ما هذه الكذبة التي طاش لها صوابك؟‏
ـ إنَّها كذبة صاعقة يا أمّي، لا يحتملها عقل إنسان!‏
ـ أخبرني بها.‏
ـ لن أبوح بها لأحد، ولن أفجّرها إلاّ أمام اللجنة.‏
ـ ألا تثق بأمّك؟!‏
ـ السياسي لا يثق بأحد.‏
***‏
مضى عامٌ كامل، وحان موعد المسابقة..‏
توجَّه الكذّابون في الأرض، إلى مدينة نيويورك، مقر الجمعيّة الكونيّة للكذب، وقد ملأ كلٌّ منهم جعبته بأكاذيب عجيبة غريبة، لا تخطر على بال إنسان.‏
وأخذ المتسابقون يمثلون أمام اللجنة، واحداً إثرَ آخر، وأعضاء اللجنة المحلَّفين، يدوِّنون الدرجات التي ينالها كلّ كذّاب..‏
كان كلُّ كذوبٍ، يطمع في الجائزة، ويتطلَّع إلى الوسام، وبغتة مثلَ أمامَ اللجنة، أحدُ رجال الإعلام الأمريكي، فانتاب اليأس معظم الكاذبين..‏
وشرع ذلك الأمريكي، يتحدَّث أمام اللجنة، ويثبتُ أقوالَهُ بوثائق رسميّة، وأشرطة مصوَّرة، و..‏
قال كذّابٌ من دول العالم الثالث:‏
ـ ما أحمق هذا الرجل، المسابقة للكذبِ، وهو يقول الحقيقة!‏
قال له كذّابٌ من دول العالم الأوَّل:‏
ـ الحقيقة في واد، وهو في وادٍ آخر، وكلُّ ما قاله كذبٌ بكذب.‏
ـ ما أراهُ إلاّ صادقاً.‏
ـ ما تراهُ يدلُّ على نجاحه، فقد استطاع أن يخدع الكذبَ، ويظهره بمظهر الصدق!‏
ـ لا تظلمه يا أخي، ألا ترى ما عنده من وثائق وصور؟!‏
ـ آه يا صاحبي الطيِّب، هذا كذّابٌ ألمعيٌّ لوذعيّ، ألبس كذبه رداءً زائفاً، فأخفاه عن العيون!‏
ـ أنا أخالفك في هذا الأمر.‏
هزَّ الرجل رأسه، ولاذَ بالصمت..‏
انتهى امتحان المتسابقين، وانتصبتِ الآذانُ، ترتقبُ نتيجة الامتحان..‏
أعلنتِ اللجنة اسمَ الفائز، وطلبتْ إليه المثول أمامها، لاستلام الجائزة..‏
التفتَ الكذّابون جميعاً، فأبصروا ذلك الأمريكي، يصعد إلى المنصَّة، وهو يبتسم ابتسامة كاذبة..‏
وبعد قليل، كان الوسام الذهبيُّ، يلمع على صدره، ويضحك ضحكة صفراء، تهزأ بكلِّ الكاذبين!‏
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مُسابَقَة عالميَّة للكذب أعتقد هو عنوان المقال، ولا أثر لوالي الخرطوم بذلك ا لكرة القدم أرجو معلجة عنوان المقال والشكر لأستاذنا الدكتور نايل على التحف الجميلة من المقالات. والمزيد من التقدم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..