عزف منفرد

*( لا تخف من الضباب الذي حولك،
بل من الضباب الذي هو فيك ..).
-شيلر-
.. تناهى إلى سمعي وأنا أهمّ بطرق الباب لحن دافئ ساحر ينساب من خلف نافذته المغلقة. أرخيت جسدي على جدار يفصلني عنه، تحملني نسائم أوتار تداعبها أنامله إلى سماء من آلام وانكسارات أحلام..‏
بينما كان القمر ينشر رداءه الفضي على المنازل الغافية.. نغم مسافر يلملم شظايا روحي، يوقد ذاكرتي، يبعث ناراً من رمادي… بوح رقيق يوقظ دمعي… آه كم أنت متألم يا صديقي… كم أنت مبدع…. ألا يبدعنا الألم أكثر؟!‏
وفجأة، سكن النسيم وجمدت السنابل عن تمايلها.‏
حل صمت كئيب، كشاعر باغته الموت على منبره… مسحت الدمع عن عيني وانتظرت ثوانٍ لتستردا بعضاً من صفائهما ورسمت ابتسامة جاهدة ألا تبدو كزغرودة أم الشهيد، ووقفت أنتظرُ رداً على طرقتي الاثنتين…‏
فُتِحَ الستار الخشبي على وجه كئيب خالط البياض سواد شعرات ذقنه المهملة، محمول على عكازين، تبعت طرقاتهما التي اخترقت قلبي كخناجر حادة.‏
قادنا ممر ضيق إلى باحة البيت المطلة على سماء لامعة، تتوسطها بركة تسبح على مائها وريقات صفراء وحمراء لكأنها دمع تساقط من ورود غافية في أصصها البلاستيكية على سوار البركة الأبيض… ودلفنا عبر باب مفتوح إلى غرفة بدا كل مافيها ينبض أسى وحزنا.. ارتمى على مقعده وأسند عكازيه على الجدار وإلى جواره عود غاف على أوتاره وخلفه نافذة مسدلة الأجفان… جلست على كرسي بقربه وعيناي تتأملان أشياء الغرفة لكأنها نسوة ينتحبن في مجلس عزاء.. ابتسامة والده من خلف غبار غلف زجاج اللوحة المعلقة أمامي، بدت حزينة، عيناه الهادئتان غيمتان تحبسان دمعاً مكابراً… والعود الراقد قربه بدا كطفل يبكي غياب أمه..‏
آه…‏
كم يغير الألم نظرتنا إلى الأشياء والحياة…‏
بالأمس كانت ابتسامة والده دافئة مشرقة، وعيناه ضاحكتين تقاسمنا نشوتنا وفرحنا.. واستراحة العود كطفل يغفو على أحلام جميلة.. نزعت عباءة الصمت الثقيل التي كانت تغلفنا، بسؤال هامس:‏
* كيف هي أحوال فناننا المبدع؟‏
* الحمد لله… لا زالت الشمس تشرق والليل يسامر وحدته… يحمله الخشب كل مساء ويرميه وسط باحة البيت… لا شيء غير ماء ساكن وورد ناعس وقمر يغمر المكان نوراً وظلالاً… تعريه أوتاره ولا صدى لأنينها…‏
كانت حروفه تتدحرج من شفتيه كئيبة مالحة وعيناه تحدقان بسقف الغرفة بينما اختفت ذقنه خلف أنامل كفه المرتجفة… ثم مال بنظره نحوي وأردف مبتسماً:‏
* لا زال القلب يضخ دماً وربما أعضائي سعيدة بوفرته بعد أن حظيت بما كانت تناله بقية هذه… وانهمرت كفه على فخده الأيسر.‏
كم كنت مهيئاً لحظتها لإطلاق العنان لدمع يطرق أبواب عيني، ولكني ما جئت لأقفل باب القفص علينا… نهضت من مكاني وسحبت العود من غفوته مداعباً أوتاره بأنامل جاهلة، ثم مددت له يدي:‏
* قم يا صديقي. الحديقة وأزهارها وأطيارها اشتاقت لك.‏
* الحديقة… بحَّ وأصابعه تضغط على بقية يسراه وأردف بحزن وتهكم:‏
* أخاف أن ينفر الناس من شكلي هذا..!!!..‏
* ألم تنسىَ كلام الأغبياء. الجهلة بعد يا صديقي؟‏
* وكيف لي أن أنسى…‏
لقد سرق القدر ساقي، أما هم فقد اغتالوا حلمي، حياتي… رموني كورقة صفراء ذابلة.‏
امتلأ بيتي بوردهم، وكلماتهم المواسية. أغرقوني بالدمع والحسرات بوجوه كأوراق النعوات…‏
ولما شفيت وصرت قادراً على حمل نفسي على عكازي اللعينين، اعتذروا عن متابعتي العمل معهم…‏
جسد بساق واحدة شكل غير ملائم يخدش العيون مهما طربت لأنغامه الأرواح!!!‏
كيف لي أن أنسى وجهاً مال عني بقرف وثرثرته الجارحة:‏
(لابد للمضمون من شكل يلائمه…).‏
ما عادت تلك الأجساد العارية والتلال المكشوفة والنباح والنشاز والصراخ يخدشنا!!!…‏
فقط عود تحضنه ساق واحدة صار منظراً منفراً شاذاً ينبغي إزالته!!!‏
أغلقت الباب خلفي وصدى كلماته لا زالت تضج في رأسي، تزلزل روحي… وأرخيت جسدي على جدار يفصلني عن جرح نازف أسى وحزناً وغضباً، بينما لا تزال الجدران غافية ببلادة تحت ضوء القمر…
[email][email protected][/email] ‏

تعليق واحد

  1. عزف منفرد
    التاريخ: القراءات:(2752) قراءة التعليقات:(6) تعليقات إهداء لصديق طباعة التعليقات أضف للمفضلة

    قصة ، من : سامر عبد الكريم منصور
    تناهى إلى سمعي وأنا أهمّ بطرق الباب لحن دافئ ساحر ينساب من خلف نافذته المغلقة. أرخيت جسدي على جدار يفصلني عنه، تحملني نسائم أوتار تداعبها أنامله إلى سماء من آلام و انكسارات أحلام..‏
    بينما كان القمر ينشر رداءه الفضي على المنازل الغافية.. نغم مسافر يلملم شظايا روحي، يوقد ذاكرتي، يبعث ناراً من رمادي… بوح رقيق يوقظ دمعي… آه كم أنت متألم يا صديقي…… كم أنت مبدع…….. ألا يبدعنا الألم أكثر!؟‏
    وفجأة، سكن النسيم وجمدت السنابل عن تمايلها.‏
    حل صمت كئيب، كشاعر باغته الموت على منبره… مسحت الدمع عن عيني وانتظرت ثوانٍ لتستردا بعضاً من صفائهما ورسمت ابتسامة جاهدة ألا تبدو كزغرودة أم الشهيد، ووقفت أنتظرُ رداً على طرقتي الاثنتين…‏
    فُتِحَ الستار الخشبي على وجه كئيب خالط البياض سواد شعرات ذقنه المهملة، محمول على عكازين، تبعت طرقاتهما التي اخترقت قلبي كخناجر حادة.‏
    قادنا ممر ضيق إلى باحة البيت المطلة على سماء لامعة، تتوسطها بركة تسبح على مائها وريقات صفراء وحمراء كأنها دمع تساقط من ورود غافية في أصصها البلاستيكية على سوار البركة الأبيض… ودلفنا عبر باب مفتوح إلى غرفة بدا كل ما فيها ينبض أسى وحزنا.. ارتمى على مقعده وأسند عكازيه على الجدار وإلى جواره عود غاف على أوتاره وخلفه نافذة مسدلة الأجفان… جلست على كرسي بقربه وعيناي تتأملان أشياء الغرفة لكأنها نسوة ينتحبن في مجلس عزاء.. ابتسامة والده من خلف غبار غلف زجاج اللوحة المعلقة أمامي، بدت حزينة، عيناه الهادئتان غيمتان تحبسان دمعاً مكابراً… والعود الراقد قربه بدا كطفل يبكي غياب أمه..‏
    آه…‏كم يغير الألم نظرتنا إلى الأشياء والحياة…‏
    بالأمس كانت ابتسامة والده دافئة مشرقة، وعيناه ضاحكتين تقاسمنا نشوتنا وفرحنا.. واستراحة العود كطفل يغفو على أحلام جميلة.. نزعت عباءة الصمت الثقيل التي كانت تغلفنا، بسؤال هامس:‏
    *كيف هي أحوال فناننا المبدع؟‏
    *الحمد لله… لا زالت الشمس تشرق والليل يسامر وحدته… يحمله الخشب كل مساء ويرميه وسط باحة البيت… لا شيء غير ماء ساكن وورد ناعس وقمر يغمر المكان نوراً وظلالاً… تعريه أوتاره ولا صدى لأنينها…‏
    كانت حروفه تتدحرج من شفتيه كئيبة مالحة وعيناه تحدقان بسقف الغرفة بينما اختفت ذقنه خلف أنامل كفه المرتجفة… ثم مال بنظره نحوي وأردف مبتسماً:‏
    *لا زال القلب يضخ دماً وربما أعضائي سعيدة بوفرته بعد أن حظيت بما كانت تناله بقية هذه… وانهمرت كفه على فخده الأيسر.‏
    كم كنت مهيئاً لحظتها لإطلاق العنان لدمع يطرق أبواب عيني، ولكني ما جئت لأقفل باب القفص علينا… نهضت من مكاني وسحبت العود من غفوته مداعباً أوتاره بأنامل جاهلة، ثم مددت له يدي:‏
    *قم يا صديقي. أزهار الحديقة وأطيارها اشتاقت لك.‏
    *الحديقة… بحَّ وأصابعه تضغط على بقية يسراه وأردف بحزن وتهكم:‏
    *أخاف أن ينفر الناس من شكلي هذا….!!!..‏
    *ألم تنسىَ كلام الأغبياء. الجهلة بعد يا صديقي؟‏
    *وكيف لي أن أنسى…‏
    لقد سرق القدر ساقي، أما هم فقد اغتالوا حلمي، حياتي… رموني كورقة صفراء ذابلة.‏
    امتلأ بيتي بوردهم، وكلماتهم المواسية. أغرقوني بالدمع والحسرات بوجوه كأوراق النعوات…‏
    ولما شفيت وصرت قادراً على حمل نفسي على عكازي اللعينين، اعتذروا عن متابعتي العمل معهم…‏
    جسد بساق واحدة شكل غير ملائم يخدش العيون مهما طربت لأنغامه الأرواح!!!‏
    كيف لي أن أنسى وجهاً مال عني بقرف وثرثرته الجارحة:‏
    (لابد للمضمون من شكل يلائمه…..).‏
    ما عادت تلك الأجساد العارية والتلال المكشوفة والنباح والنشاز والصراخ يخدشنا!!!…‏
    فقط عود تحضنه ساق واحدة صار منظراً منفراً شاذاً ينبغي إزالته!!!‏
    أغلقت الباب خلفي وصدى كلماته لا زالت تضج في رأسي، تزلزل روحي… وأرخيت جسدي على جدار يفصلني عن جرح نازف أسى وحزناً وغضباً، بينما لا تزال الجدران غافية ببلادة تحت ضوء القمر…..‏
    http://www.shurofat.blogspot.com

    w w w . A r a b i c S t o r y . n e t

    جميع الحقوق محفوظة لشبكة القصة العربية 2001-200

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..