نَحو نَظرِيَة ثَورِيَة سُّودانِيَة: هَل تُوجَد نظَرِيَة ثَورِيَة جَيدة خَارِج الماركِسِيَة
د. مقبول التجاني

مِنْ المعلوم أنه لا تُوجَد حَركة ثورية بدون نظرية ثورية، و لكن السؤال المُلِح الآن هو: ما هو الإطار النظري الحالِي للثورة السُّودانية، و الذي تنطلِق مِنهُ جَميع مُمَارَسَاتنا السياسِيَة اليومية.
فقد إنتهت المُمَارَسَة العملِيَة لنظرية الهامِش و المركز السطحية، بعد سقوط نظام الإنقاذ الإستغلالي المتلون بالصبغة الإسلاموعروبية، إلي مُجرَد إصطفافات جهوية و قَبَلِيَة وَقِحَة بين أمراء حرب أثرياء، و تنادي بتحالُف جَمِيع أبناء دارفور، مِنْ أجل الوصول إلي حُكم السودان، و مُعاقَبَة جمِيع أبناء الجلابة عَلَى أساس جَهَوِي و عِرقَي.
أي أنهم يقوموا بإستخدام الفُقَراء البُسطَاء مِنْ أهل دارفور، فِي صِراعِهم النخبوي الشخصي مِنْ أجل الوصول إلى الثروة و السلطة، و ذلك عَنْ طَريق تَوظِيف و تَقديم خِطَابات عَاطِفِيَة عنصرية، لا تُثمِنْ و لا تُغنِي مِنْ جُوع.
رَغم أن الثورة السودانية قد رفعت شِعار كُل البلد دارفور، و رغم أن حقيقة الصراع فِي السودان، هو أنه صراع إجتماعي طَبقِي، و يَتحرك فِي أرضية مِنْ الإختلالات التنموية الموروثة مِن نِظام الحُكم الثُنائي الإنجليزي المصري.
جَاءت شِعارات ثورة ديسمبر الشتوِيَة الثلاثة، مِنْ حُرِيَة فردِيَة و سلام وَطنِي و عدالة إجتماعِيَة، كدواء نَاجِع و تِرياق مُضَاد لِكُل مَشاكِل السُّودان المَوروثَة و إفرازَاتِهَا، و مِنْ أجل بِنَاء مُؤسَسَات الدولة الديمقراطِية المَدنِيَة الحَدِيثَة، و التي تخدم جمِيع المواطنين السودانيين.
أي أن الثَّورة السودانِيَة جَاءت دَاخِل حدود أفق ليبرالي إجتماعي تَحَرُرِي، و إنتكست عَنهُ فيما بَعد نتيجة لمساومات النُّخَب السياسية و تَدخُل القِوَى الخارِجِيَة و الإصطفافات الجهويَة، و مِنْ ثم حَدثت مُحاولات تَثوِير بَلشفِي لاحِقَة للثورَة السودانية، لَمْ تُؤتِي أُكلها حَتى الآن، رغم إختراقِهَا للمشهد السياسي.
هل نحن نتقدم نحو الأمام ؟ أم نتدحرج إلي الخلف ؟
بالرجوع إلي أدوات التحليل الماركِسي، نجَد أن علاقات الإنتاج الرأسمالية الطفيلية، الداخلية و الإقليمية و الدولية، قد أدت إلي هندسة و إنتاج النظام السياسي السودانِي الجديد، كما نَراهُ شاخِصاً أمامنا الآن، لِيُعَبِر عَن مَصالِح طَبقية ضَيِقَة مُعينة.
و هو نِظام سياسي لا يختلف كثيراً عن نظام الحكم الثنائي القديم، الذي أورثنا الإختلالات التنموِيَة، إذ يتم فيه تَمثِيل و ضَمَان مَصالِح القِوَى الإقليمية العربية عن طريق جناح العسكريين و المليشيات و حلفائهم المدنيين، و ضَمان مَصالِح القِوَى الغربية عَن طريق جناح الحمدوكيين.
أما أدوات الإنتاج السُّودانية فلا زالت فِي أغلبيتها بدائية، و المُحصلة النهائية لِذلك هُو بَيع الأراضي و تَصدير المواد الخام إلي الخارِج.
أين قَضِيَة التحَرُر الوطني مِنْ أجِندَة الثورة السودانية ؟ و أين قَضِيَة تَحدَيث القاعِدَة الإنتَاجِيَة ؟
الثورة البلشفية قَامَت بمعالجة الإشكالات السابِقَة التي واجهتها الثورة الفرنسية، و لكنها لَم تَنجَح فِي إقامة نموذج جيد و مستدام للعدالة الإجتماعية، و لَم تُولي إهتمام كبير بِقِيمة الحرية الفردية.
إن التخطي الحقيقي للنظرية الثورية الماركِسية لا يَتِم بإلغائها أو بمحاولة القفز فوقها، و لكِن يكون بتطويرها و إستصحاب المناهِج التحليلية اللاحقة معها، كما فعلت الفلسفة الإجتماعِيَة المُعَاصِرَة.
كانت ثورات أوربا الشرقية المُلونَة فِي مُنتَهى الإبتذال، و إستخدمتها لاحِقاً القِوَى العسكرية الغربية لتوسِعَة مناطِق نفوز حِلف الناتو.
تمت محاصرة ثورات أميركا الجنوبية، و إفشال تجاربها واحدة تلو الأخري، حتي إنهارت العديد مِن دولها، ليتم نِسبة الفشل بعد ذلك إلي الأحزاب اليسارية.
ثورات الربيع العربي لم تأتي مِن فراغ، و كانت الريادة الأولى فيها لِمُنظمات المجتمع المدني الغربية، و ركبت موجتها لاحِقاً، إعلامياً و سياسياً، جماعة الأخوان المسلمين الإرهابية.
التجربة التونسية ليست نموذج ناجح للثورة، فقد ركبتها أيضاَ جماعة الأخوان المسلمين، و إنتكست لاحِقاً لتسقط في يد نُخَب الدولة العميقة بقيادة السبسي قبل وفاته، و لم تنجح الثورة التونسية حتي الآن في تحقيق إنتقال ديمقراطي أو توفير العدالة الإجتماعية.
كيف يُمكِن التصدي لِنِظَام الحُكْم الثُنائي الجديد فِي السودان ؟
جَميع المُؤشِرَات تَقُول أن السودان الآن عِبَارة عَنْ دولَة مُحتَلَة، و لَيس لَديها قَرار وطَنِي داخِلي، و تُشابِه الوثيقة الدستورية المُعدَلَة كَثيراً إتفاقِيَة الحُكم الثُنائي المُوقَعَة عام ١٨٩٩ م.
هَل تملك أحزاب المؤتمر السوداني و البعث العربي و التجمع الإتحادي و الأمة القومي، نظريات ثورية مُتمَاسِكَة أو غير مُتمَاسِكَة؟
الإجابة النافِيَة لهذا السُؤال الهَام، تُفَسِر الآداء السياسي المُهتَز لهذه الأحزاب السياسِيَة الإنتهازية، و تُفَسِر عدائها الإعلامي الباكِر للحزب الشيوعي الذي طَرَحَ نظريتَهُ الثورِيَة بكُل قوة و وضوح، رَغم بعض التحفظات عَليهَا.
كما أن عَلَى هَذه الأحزاب الأربعة المُتحالِفَة مَع العسكَر، تَقدِيم نظرية ثورية مُتماسِكَة، فإنه ينبغي أيضاً على الحزب الشيوعي السوداني تطوير نظريته الثورية.
أين رُؤية السودان الجديد فِي إتفاقِيَة مُحاصصات جوبا ؟ و هل يُمكِن التأسِيس عَليهَا ثَورِيَاً ؟
المُفارَقَة العجيبة هي تَحالُف حركات دارفور المُتمرِدَة مع مَحاور الدول العربية ضِد جماهير الثورة السودانِيَة، أي أنها تتحالف مع الجلابي الأصلي فِي الخارَج ضِد الجلابي التقليدة فِي الداخِل.