رؤية عامة لفلسفة كانط النقدية وتقسيمه لللاهوت*

كان إيمانويل كانط هو أول من بيَّن محدودية العقل الإنساني ليحكم في كل شيء . وقد استطاع أن يتجاوز العقليين ، ليبنتز وفولف ، والإمبريقيين الذين يجعلون المدرك الحسي هو المرجع الأول والأخير للمعرفة (لوك ، هيوم) ، وقد طرح كانط فلسفته النقدية حيث قام بنقد الإتجاه العقلي والذي يمكن أن نميز فيه بين عدة مدارس ؛ كالمثالية الأفلاطونية ، وعقلانية أرسطو ، ومثالية ديكارت وبركلي ، ودوجماطيقية ليبينتز وفولف ، كما انتقد الإتجاه التجريبي ، من خلال تجريبية لوك وهيوم.*
أولاً: نقد الإتجاه العقلي : وهو الإتجاه الذي يحاول إقامة النسق الفلسفي على مجموعة من المبادئ العقلية الأولية الواضحة بذاتها ، وبحيثيستطيع بموجب هذه المبادئ أو هذه المفاهيم العقلية أن يقدم تفسيراً للوجود وللمعرفة الإنسانية ، ويعتقد أنصار هذا الإتجاه أن هذه المبادئ سابقة على التجربة. بل أن التجربة تنتظم وفقاً لها.
وجاء انتقاد كانط لرؤية أفلاطون التي تفصل الفكرة أو المثال (كمبدأ عقلي) عن الأشياء بحيث يكون لها وجود مستقل. بل يرى كانط أنها تترابط مع الإداراكات لكي يكون لها واقعية ، فكانط لم ينكر الفلسفة لمتعالية بل تبناها ؛ ويلاحظ ذلك في مؤلفه نقد العقل المحض ، فكانط يتفق جزئياً مع أفلاطون بأن النبات والحيوان يظهران بوضوح النظام المتسق لبنية العالم وربما أن كل نظام الطبيعة يظهر ذلك ، ومن ثم فإنَّ هذا النظام ممكناً وفقاً للمثل ؛ أي وفقاً للأفكار العقلية ، وأن تلك الأفكار غير متغيرة وكلية في الفهم الأسمى ، وهي العلل الأصلية للأشياء ، ومثال ذلك أن أفلاطون يقول بأن الخير (كمبدأ أو فكرة عامة) هو علة المعرفة والحقيقة .
نقد كانط لعقلانية أرسطو :
كانت عقلانية أرسطو تنصب حول رؤيته بأن الحس هو الذي يمد العقل بالمدركات الحسية ؛ فهو يمثل الشرط الأول وليس الوحيد للمعرفة الصحيحة . ومن ثم فقد رفض المثل الأفلاطونية باعتبار أن القول بها فيه تناقض ، فالقول بأن هناك أشياء مؤكدة خالدة في حين أن الأشياء الحسية فانية ليس سوى فرض عقلي لا ضرورة ولا جدوى منه. ثم طرح أرسطو رؤيته الأخلاقية من خلال مبدأ الوسطية وهو أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ، وقد انتقد كانط هذا المبدأ باعتبار أن الأفعال الأخلاقية يجب أن تكون صادرة بالإتفاق مع القانون العام للأخلاق. ورفض اعتبار السعادة مبدأً محدِّداً للفعل الأخلاقي ، إذ أن القضية التي مفادها أن السعي إلى السعادة هو الأساس الذي ينتج عنه الخلق الفاضل هي قضية كاذبة كذباً مطلقاً ؛ ولكن القضية الثانية التي مؤداها أن الخلق الفاضل تنتج عنه بالضرورة السعادة ليست قضية كاذبة كذباً مطلقاً ، بل فقط بقدر ما تكون صورة العلة (متحققة) في عالم الحس.
فالسعادة مسألة ذاتية بحتة لا تصلح قانوناً عاماً للأخلاق التي يجب أن تؤسس على مبادئ عقلية أولية. كما انتقد كانط مقولات (محمولات أرسطو) كالتقدم ، الحركة ، الأضداد ، …الخ. واعتبرها عديمة الفائدة في إنشاء مفهوم عن الموضوع نفسه.
نقد مثالية ديكارت:*
تمثلت مثالية ديكارت في إثارة الشك في كل ما حوله ، وليس ذلك ? كما قال- عن طيش ورعونة ؛ وإنما عن طول روية. وشك ديكارت حتى وصل إلى ذاته فرأى أن الشيء الذي لم يرد إليه شك هو تفكيره العقلي لذلك قال: “أنا أفكر إذاً أنا موجود” . ومن ثمَّ أخذها كمبدأ أول للفلسفة مؤكداً أن الفكر يجب أن يبدأ من نفسه .
وقد أسرفت المثالية الديكارتية في الإيمان بقدرة الفكر وحده على المعرفة وتقليص دور الحواس . ومن ثمَّ ألغى بعض الديكارتيين وجود الأشياء الخارجي ، وجعلوه رهناً للفكر وحده انطلاقاً من تقليص دور الحواس.
وقد قال باركلي ?نصير المثالية- : ” أن العقل الإلهي هو وحده الذي يقوم فيه الوجود الحقيقي للأشياء ، إذ أننا نجهل ليس فقط الطبيعة الحقيقية للأشياء ، بل أننا لا نعلم إذا كانت الأشياء موجودة أم لا ، فنحن ندرك حقاً ما يبدو لنا من الأشياء أو صورها ، لكن هذا لا يدل على أن هذه الأشياء موجودة حقاً وجوداً واقعياً.
فمن الوضوح أن هذه الأشياء لها وجود خارج عقلي ما دمت أجدها في التجربة الحسية مستقلة عني تماماًن فلابد أن يكون هناك عقل آخر تكون موجودة فيه في الفترات التي انقطع خلالها عن إداركها . ومادام هذا الأمر ينطبق على جميع العقول ، فلابد من وجود عقل آخر ، أزلي ، حاضر حضوراً دائماً ، ومحيطاً بكل شيء ، وهذا العقل هو الذي يعرف ويدرك جميع الأشياء .*
غير أن كانط أنكر أن تكون مثاليته كمثالية ديكارت وباركلي ، لأنها لا تمس وجود الأشياء وإنما تعترف به. وانتقد كانط ، باركلي ، فهذا الأخير لم يجانبه الصواب حينما أحال الأجسام إلى مجرد ظاهر . كما انتقد متطلب ديكارت من وجود كائن أكثر كمالاً ما دامت هناك بعض الأشياء المستقلة عنه. ذلك أن مفهوم كائن ضروري ضرورة مطلقة مفهوم عقلي خالص، أي فكرة مجردة ولا تعينها الموضوعية ، بل هي أبعد من أن تبرهن عليها حاجة العقل إليها.
وبعد تناولنا لبعض من أوجه الأنطولوجيا الكانطية النقدية ، فإننا نشير إلى أن كانط كان أحد رواد الإصلاح الدين ؛ فهو صاحب مردسة الدين الأخلاقي إلى جانب الدين المدني لروسو ، وعقلنة المسيحية لجون لوك . ويحدد كانط علم اللاهوت بأنه علم “معرفة الوجود الأول أو الموجود الأسمى” . أو هو نسق معرفتنا بالوجود الأسمى ، وهو يشير إلى المعارف التي يصل إليها العقل فقط عن الله . ويصنف كانط اللاهوت إلى صنفين:*
1- اللاهوت العقلي: وذلك عندما تتأسس معرفتنا للموجود الأسمى على العقل وحده.
2- اللاهوت التاريخي : حيث تتأسس معرفتنا على الوحي ، وينقسم اللاهوت العقلي عند كانط إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : اللاهوت الاترنسندتالي (المتعالي) ؛ أو (التأملي ، النظري) ، ويسميه أحياناً باللاهوت الكوسومولجي ، واللاهوت الأنطولوجي ، حيث يعرف العقل موضوعه عن طريق المبادئ المتعالية المجردة وهو لا يؤدي إلى معرفة أو تحديد طبيعة الله.
النوع الثاني: اللاهوت الطبيعي ؛ (الفيزيقي) : حيث نصل فيه إلى معرفة الله من خلال تأليف وتنظيم العالم الحاضر أمامنا ونستدل منه على وجود مبدع العالم وصانعه(الله المبدع للعالم).
النوع الثالث: اللاهوت العقلي: هو اللاهوت الأخلاقي الذي يقوم على الحرية ، بينما يقوم اللاهوت الفيزيقي على علية الطبيعة . فيكون الله في اللاهوت العقلي هو المشرع الأخلاقي.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا استاذ فيصل
    هذا عصر دريدا فوكو شوميكي دولوز سوسير هايدجر …الخ عصر تلاحظ فيه أن الفلسفة أصبحت تلاعب لغوي وليست أفكار كليانية أفكار كبرى بل عصر التفكيك والمنمنمات .. والقادم سيكون أكثر دقة (نانو فلسفة )

  2. اندثرت الفلسفه واصبحت تاريخا ولم تتجدد ولم يظهر فلاسفه جدد يفلسفون الحياة من الواقع المعاش وهذا امر مؤسف ادى الى السطحية فى التفكير بفعل النمط الاستهلاكى الذى تبناه الناس فتضاءلت المعرفه واهملت علوم الاجتماع والفلسفه ووضعت على الرف يلجأ اليها عند الطلب عند البعض وعند بعض آخر اعتبرت ترف وهى ام العلوم

  3. (إن مؤشر أهمية الموضوع المكتوب على موقع اسفيري هو عدد المعلقين عليه).
    ” من الأقوال المأثورة للمرحوم مكشكش ( رضي الله عنه )، وهو مفكر اسلامي ، خبير وطني ، محلل استراتيجي ، سياسي ، ( خلاسي ) ناقد ، حاقد ، وهم ، بهم ، لحسة كوع ، وقوف في الممنوع ،الخ ، الخ ،،،، والزارعنا غير الله ال يجي يقلعنا”

  4. الفكر الفلسفي القديم
    لا زال يفرض هيمنته على عالمنا الحالي
    أرسطو ، كانط ، دي كارت و غيرهم من
    رواد الفلسفة في عصر النهضة
    هل ديكارت كان أكثر ميثالية من كانط ؟…
    و قد تمثلت مثالية ديكارت في الشك في
    كل ما حوله بينما ظل كانط يقول بإن
    الحس هو الذي يمد العقل بالمدركات !!!….
    و في نهاية المطاف يا كردفاني أين الفكر
    الفلسفي الجديد الذي يؤطر محدثات العصر
    أم أن عصر الفكر الفلسفي قد أفل !؟!؟ ……

  5. (إن مؤشر أهمية الموضوع المكتوب على موقع اسفيري هو عدد المعلقين عليه).
    ” من الأقوال المأثورة للمرحوم مكشكش ( رضي الله عنه )، وهو مفكر اسلامي ، خبير وطني ، محلل استراتيجي ، سياسي ، ( خلاسي ) ناقد ، حاقد ، وهم ، بهم ، لحسة كوع ، وقوف في الممنوع ،الخ ، الخ ،،،، والزارعنا غير الله ال يجي يقلعنا”

  6. الفكر الفلسفي القديم
    لا زال يفرض هيمنته على عالمنا الحالي
    أرسطو ، كانط ، دي كارت و غيرهم من
    رواد الفلسفة في عصر النهضة
    هل ديكارت كان أكثر ميثالية من كانط ؟…
    و قد تمثلت مثالية ديكارت في الشك في
    كل ما حوله بينما ظل كانط يقول بإن
    الحس هو الذي يمد العقل بالمدركات !!!….
    و في نهاية المطاف يا كردفاني أين الفكر
    الفلسفي الجديد الذي يؤطر محدثات العصر
    أم أن عصر الفكر الفلسفي قد أفل !؟!؟ ……

  7. شيء جميل ان نجد في الصحف الالكترونية مقال تنويري فكري و هذا مؤشر جميل سوف يعمل على تحسين ذوق السودانيين في القراءة ..
    شكراا دكتور على المقال هذا و لابد ان نشوف الكثير على صحفنا الورقية او الاخرى عن رموز الاستنارة و العقلنة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..