الانقاذ قوقعة فكرية لا تعرف نُظم الاقتصاد و الانتاج و النمو..!!

أحمد يوسف حمد النيل

منذ أن جاءت حكومة الانقاذ لحكم السودان , أخذ عرّابيها و على رأسهم حسن الترابي , يتجذابون أطراف الحديث في سياسة الدولة , بمنظورها العقدي. فكثرت أسماؤها , فمرة يطلقون عليها “حكومة الانقاذ الوطني” و مرة “دولة الاسلام” و أخرى “دولة الجهاد”. فتارة يتحدث الترابي حديثا ً مرسلا عن الدين و دولة الخلافة , و تارة تجذبه حضارة الغرب بأنوارها فيتحدث عن القانون الوضعي في أوروبا , من باب المباهاة الثقافية. فلم تجنى دولة المشروع الحضاري إلا اتباعا منبهرين بالثقافة و التثاقف على شاكلة الترابي و تلامذته.

24 سَنَة عكفت هذه الجماعة , و هي تنغلق في قوقعة ً درجت على نحتها منذ فجر الانعتاق من براثن الحكم الاستعماري , فكانت العلامة الفارقة ما بين المعرفة الدينية و المعرفة العلمية , فأخذت تسوس المجتمع السوداني و تقوده الى هوة سحيقة , مرجعيتها في ذلك شدة التشبث النظري و التجريدي العقلي. و ترتكز على أيديولوجيا دينية , لتكسبها بريقا ً دينيا في وسط مجتمع أغلبه متدين فطرياً , من أجل المكاسب السياسية , و الدعم الاجتماعي. فقد ساعدت كل هذه النظريات في تكريس مفهوم السلطة الإقطاعية من ناحية عملية , فضمرت بالمقابل السلطة الصناعية في أروقة الحكم. و لكن سرعان ما تقاربت الخطى و تسارعت آليا ً لتفتيت كيانات المجتمع السوداني انثوغرافيا ً (حسب الجنس) , لتسهيل عملية الدعوة الى الدين , فقد انحرفت مفاهيمهم عندما ضاقوا بتكوينات المجتمع السوداني و تعقيداته الاثنية و الدينية. و من هنا جاءت محورية القبيلة و التدين بدلا ً عن الولاء الوطني الذي يجمع في داخلة كل الألوان و الأديان.

انشغلت هذه الجماعة , طيلة فترة حكمها في السودان , بالتنظير و الفكر و أهملت نظم الاقتصاد و الانتاج و النمو المعرفي و الصناعي. فكانت هي العدو الأول لنفسها , لا ينافسها في ذلك حتى المعارضة السياسية في السودان , و من فرط إخلالها بالنظم الاجتماعية و الثوابت السودانية , أدخلت نفسها في قوقعة ظلماء , فضاقت ببنيها قبل افراد المجتمع السوداني. أخذت الخلافات تدب في جسد متأسلم جدلا ً , ينظر الى المخالفين له من منظور ديني ظاهري من جهة , و يتعامل معهم بمقتضيات المصلحة التي يكتنفها الغموض , بما يجعل أصابع اتهام المنسلخين عنهم تشير الى تهمة الارتماء في حضن الغرب الكافر. و لكن ازدواجية الفكر لدى هذه الجماعة , جعلت منها تنظيم ينقسم الى أعضاء متصارعة , جزء يتعامل كلية بالفكر الغربي و يخفيه من أجل البقاء و جزء ٌ آخر ما زال يتشبث بأدبيات الحركة التنظيرية الميتافيزيقية. (مرحلة الصبا و المراهقة الفكرية)

و في وسط هذه الفوضى العقلية , قد تضاءلت فرص التنمية البشرية و الصناعية و العلمية. مما أدى الى قصور الحكومة بالقيام بدورها تجاه المجتمع. و هذا بدوره أدى الى تململ اجتماعي و ثورات اجتماعية في مناطق مختلفة من السودان , بسبب التهميش و الاهمال من ناحية الموارد و توزيعها توزيعا ً غير عادل. مع العلم ان الحكومة قد وجهت كل موارد البلاد الى حماية نفسها بالتعزيزات الأمنية و الدفاع و الشرطة التي أخذت النصيب الأعلى من ميزانية الدولة (77%). أما التعليم و الصحة و الخدمات لم تأخذ الا جزءا يسيرا ً من باقي الميزانية , و قد أدى ترهل النظام الحاكم الى انهاك الميزانية بتخصيص رواتب عالية لوزراء و مؤسسات الدولة و شراء الذمم و العقول. فكل ذلك يجعل الحكومة تحكم التقوقع على نفسها , و تنأى بأتباعها القدامى و الجدد عن جدلية الوطن و الوطنية , و الغرض الاساسي من وراء ذلك هو القضاء على أيقونات الحياة الفكرية و السياسية السودانية. تمهيدا ً للتمكين الأبدي في المجتمع و نظام الحكم.

و من خطورة معتقدات النظام , انه يؤمن بأفكار مطلقة عمل على تجسيدها , غايتها فلسفية لا يمكن تصورها أو الوصول اليها عمليا.ً فبات من الصعب تدارك محتوى الحكم , حيث أصبح يعتمد على المحتوى العقدي للحكم , و تجسيد مفاهيم الكفر و الايمان و الإله و الوثن و الشيطان و الانسان و الايمان و الكفر. حيث تركّز الضرر على المفهوم العلمي و العملي للدولة من حيث التشريعات و القوانين التي تأسس لمبدأ الحريات العامة و مبدأ حرية الانتاج و الصناعة. فكان لزاما على الدولة أن تذوب في التفسير المجرد و المعاني المتخيلة و المجسدة وفقا ً لما ذكرناه من محتويات للدولة الدينية المجردة من العلم و العمل التنموي. فأصبحت شعارات الدولة عبارة عن سلسلة طويلة من الكذب و الحربائية , كنتيجة حتمية لتصادم تلك الأفكار التخيلية مع الواقع المعاش للمجتمع.

و لما كانت هذه الدولة تعمل على تدوير شخصيات ثابتة في مناصب مختلفة , فقد اتسمت بالانهيار في أطروحاتها السياسية و الاقتصادية و التنموية , لأن الولاء هو سبب تدوير هذه الشخصيات , فكان ان غابت المنهجية و العلمية و التخصصية. و من جهة أخرى لابد من القوانين التي تحمي و تطور المجتمع , فقد وضعت الحكومة دستورا ً تزعم انه اسلاميا , توهم به العامة من جماهير الشعب , و تجعله خطا ً فاصلا بينها و بين المعارضة التقليدية , و تجعل منه أداة تضرب بها أعناق أعدائها بلا هوادة , و تجعله مرجعا مقدسا تقتل به و تنسف من وقف في طريقها , و قد أطلقت على هذه المنظومة اسم (المشروع الحضاري للدولة) تماهيا مع القوانين الوضعية. لذا جاءت سياساتها واهية ضعيفة تجاه التنمية و التطور العلمي.

دائما ما تتسم هذه الدولة بالانفعالية , فقد تخرج القرارات من مركزية فكرية أمنية مقدسة لا يجوز مناقشتها , تزعم ان طرح الديمقراطية بين مفكريها و أفرادها يؤدي الى موتها , لأنها دولة تقوم على أشخاص ينصبون انفسهم حرّاس لفكر هذه الدولة. فهذا هو جوهر انقسامات هذه الحركة التي تحتمي بالدولة الأمنية ذات القبضة الحديدية , بعيداً عن المؤسسية في بناء منظماتها. فهي لا تتفاعل مع المجتمع لأنها لا يربطها بالمجتمع ثقة متبادلة , و كذلك تزعم انها اتت من أجل اعادة صياغة هذا المجتمع الذي تنظر له انه مجتمع يساري أو معارض لسياساتها , لذا مارست صنوف التعذيب و التشريد من الخدمة العامة و التخويف و الارهاب , و استدرجت كل فئات المجتمع ترهيبا و ترغيبا و بذلت أموال الوطن من أجل هذا الهدف المحوري للحكومة.

و لكن أين مفاهيم المجتمع الناهضة و المتطورة في أطروحات هذه الحكومة؟ و أين مفاهيم العلوم و الصدقية في تنمية هذه المجتمعات؟ و هل تحارب المعتقدات الدينية تنمية المجتمعات؟ و لكن من خلال السياسات و الممارسات الاقتصادية و التنموية يبدو أن مشروعهم الحضاري لا يهتم بالإجابة على هذه الأسئلة الملحة , بقدر اهتمامه بصياغة العقل و تشكيله. و هذه هي اسباب مكوثهم في الحكم طوال هذه السنوات , و في كل سنة يسوفون فشلهم و يحملون الناس على الصبر. فمن الواضح انهم يريدون صياغة العقل السوداني , و لا تهمهم مشكلات المجتمع و همومه , فقد حملوا المجتمع على افكار عالية غير ذات صلة بتطوير واقعهم.

و لكي يتطور هذا المجتمع يجب احترام عقول الشعب , و اعطائها الحق الاجتماعي الذي يمهد لعملية البناء المؤسسي و العلمي. وتوفير الحريات الكاملة من أجل مزاولة الانشطة الاجتماعية في المجتمع بداية من الفرد و الاسرة. يجب التركيز على نوعية التعليم و فصله عن السياسة. تحرير القضاء من التسلط السياسي و جعله الاداة الفاعلة في المجتمع في بناء و تطبيق القوانين بصورة نزيهة. احترام سيادة الدولة و المواطن و المجتمع و ثقافاته. يجب اعطاء الفرصة الكافية للعلماء و المختصين و تحريرهم من قبضة السلطة السياسية. يجب ان تعود العقول المهاجرة لبناء سودان واعد متفتح و مزدهر.

و لكي تُطبّق كل هذه الاشياء و غيرها , على حكومة الانقاذ ان تخرج عن قوقعتها , و ان اصبحت عصية فعلى الشعب ان يقرر , فعليه ان يخرج من سجن هؤلاء العُصاه و يكسر القيود الاجتماعية الجديدة التي ولدتها السياسة البائسة لهذه الدولة الضعيفة. على الشعب ان يستدعي مثقفيه و علمائه , و عليه أن يقفز على ظهر هذا النظام العدو اللدود له. فيفكك أسس النظرية المسمومة لهذا النظام , فنظام الاقطاع لم يعد يناسب هذا الشعب الجريح , و عصور الظلم قد طوتها الحقب , و ظهرت حقب الانوار و العلم و العمل و الانتاج. فالتحول من مجتمع (داجن) الى مجتمع ينعم بالحرية , يحتاج الى جهد عظيم و ثورات مضادة , تتسلح بالوقت و الصبر , لأن استعادة البناء و الترتيب و استعادة النظام العرفي و الوضعي القديم تحتاج الى ثورات اجتماعية. فعندما يُقبض على اساتذة الجامعات من قبل رجال الأمن , هنا تبدو المفارقة الواضحة و التي مفادها أن المجتمع يحتاج الى تجديد رئتيه , ليتنفس الحرية و يأكل الخبر في ظل شجرة و هو لا يلتفت خوفا من حرس النظام. ان مجتمع لا يُحترم اساتذته و معلميه , لهو مجتمع الجهل فيه هو (الصنم الأكبر) فينبغي تكسيره , فبتكسير الصنم العقدي المنحرف , يكون قد انكسر (التابو) أو الرمز التقليدي المقدس , و بنهايته تبدأ دورة الحياة كما كانت في السابق.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. كلما قرأت لك مقال اطمأن قلبى بان السودان مازال به رجال ..
    ولكن هل امثال المخنث ربيع سيغير من تعاليه ونفرزته وصلفه ؟ الله اعلم.
    لاسبيل لنا الا بالمظاهرات والعنف وترهيب اسرهم واهلهم ومعرفة سكنهم وتجمعاتهم.
    هؤلاء لا يستحقون العيش معنا ولا نحن من طينتهم ولا ننتمى لجيناتهم هؤلاء ليس بشرا.
    مجموعه مهووسه تحب المال والنساء لا علاقة لها بالوطن نهائى .
    هؤلاء قبحوا الوطن الجميل .
    هؤلاء مزقوا التآخى .
    هؤلاء فحشوا بعقيدة التدين .
    هؤلاء بصقوا على اسلامه النقى . والمؤسف والمخزى والبحرق المراره لا إعتراف نهائى بالحال المائل
    والخطر الذى نحن فيه .. شكرا احمد

  2. الشعب مغسول الدماغ بالدين لا يمكن ان يقارن بين السلطه الدينيه و السلطه المدنيه التي تحاول تلبي طلبا ت الفرد لا الجماعه. وهذه النتيجه توضح ذالك.

  3. نقد هؤلاء لا يفيد في شئ .. المهم دعنا نكتب عن ماذا نفعل لإنفاذ مشروع وطني سوداني خالص لا صلة له بالإسلاموية .. فالوطنية والإسلاموية نقيضان حيث لا يعترف منسوبية بالوطن ..

  4. ياأخي ان الذين يجعجعون وهم يحسبهم الناس جميعا ولكن قلوبهم شتي معارضه مسلحه وغير مسلحه ويتفقون في شئ واحد هو اسقاط حكومة المؤتمر الوطني .فشل المعارضين واضح طيلة حكم البشير اين التجمع الوطني اين اتفاق جوبا اين واين حتي الحركات المسلحه تشققت كثوب عجوز انهكها الفقر .من الذي استدي البشير لانقاذ السودان من خطر الاحزاب وهمجيتها واكذوبة الديمقراطيه الغربيه الكافره . الذي استدعي الجيش من قبل عبدالله خليل رئيس وزراء السودان وعضو البرلمان عن حزب الامه حين طرق باب القائد العام للقوات المسلحه الفريق ابراهيم عبود وقال له ان البلاد في خطر تعال واستلم السلطه ,وبعد ثورة اكتوبر عادت الهمجيه ثم فكر وقدر الحزب الشيوعي واختار العقيد/جعفرمحمدنميري لقيادة مجلس الثوره وتم الاستيلاء علي السلطه ودب الخلاف بين الحزب الشيوعي ونميري واراد الحزب ان يتعشي بالنميري ولكن تغدي النميري بالحزب كافه في وجبه واحده .نعود لموضوع من اتي بالبشير اتي به من جعل السودان تجول فيه سيارات المخابرات وحكم السفارات اتي بالبشير من نادا بالصوت العالي من داخل قبة البرلمان السيد/الشريف زين العابدين الهندي حين قال :( ديمقراطيتكم دي لو شالا كلب ما اقول ليه جر ) .ايها المعارضون كفي مرمطه لشعب السودان نحن غير مستعدون لننام امام المخابز نحن لن نرجع نأكل دقيق وزيوت واشياء تم التلاعب في جيناتها ثم يقدموها لنا في شكل اغاثات ,انتهي عهد تحكم رعاة البقر وجاء عهد النور وجيل الوطنيين الاسلاميين هلموا واركبوا في سفينة الانقاذ ان الركب مرتحل .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..