مقالات وآراء سياسية

حركات السلاح المتأرجح

خالد فضل

سأبدأ هنا باستعراض المعلومات المتاحة في (ويكيبديا) على شبكة أالانترنيت عن حركتي العدل والمساواة وحركة جيش تحرير السودان , فقد تأسست الأولى بقيادة الراحل د. خليل إبراهيم في عام 2000م , خلفيتها (الكتاب الأسود) الذي ألفه الراحل مع مؤلفين آخرين _ كاتب المقال اطلع على نسخة منه في حينها _ وهو يشمل احصاءات توضح هيمنة العناصر المنحدرة من الإقليم الشمالي على غالبية المواقع القيادية في جميع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية , وبمقارنة عدد سكان الإقليم مع بقية الأقاليم كشف الكتاب الظلم الذي تقوم عليه الدولة السودانية . بيد أنّ موسوعة (الجزيرة نت) تعزو تأسيس الحركة إلى إنقسام طال حركة تحرير السودان في 2001م , ومن ثم قامت مجموعة من أبناء الزغاوة بتأسيسها بتوجه (إسلامي) . المهم كان نشر ذلك الكتاب قبل ربع القرن تقريبا ولا أدري إن تم تحديث البيانات , وبالتالي إحصاءات مغايرة الآن حول نسب ونصيب الأقاليم في الوظائف القيادية في أجهزة الدولة ومؤسساتها أم لا . ولكن الأجندة السياسية التي انطلقت منها حركة العدل والمساواة كانت تنادي بالإصلاح الدستوري الجذري والشامل لمنح مناطق السودان نصيبا أكبر في حكم البلاد , واستبدال النظام الاجتماعي والاستبداد السياسي بالعدالة والمساواة , والحرص على تقديم الخدمات الضرورية والأساسية لكل سوداني , استبدال ديكتاتورية عمر البشير وحزب المؤتمر الوطني بدولة مدنية ديمقراطية . وفي سبيل تلك الأجندة خاضت الحركة في هجمات عسكرية منفردة أبرزها : حسكنيتة 2007م ضد بعثة الإتحاد الإفريقي لحفظ السلام , وحقول النفط في دفرة أكتوبر 2007م , وعندما ابتعثت الصين 135 مهندسا لمعاودة العمل في الحقل قال الراحل د. خليل (نعارض قدومهم لأن الصينين غير مهتمين بحقوق الإنسان , إنهم مهتمون فقط بموارد السودان , وعائدات النفط المباع للصين تعتبر بمثابة تمويل للحكومة السودانية ومليشيا الجنجويد). بعد ذلك وفي مايو 2008م قادت الحركة الهجوم على الخرطوم _ فيما أطلقت عليه عملية الذراع الطويل_ وضمن قوات الجبهة الثورية شاركت الحركة في الهجمات على أم روابة وأبوكرشولة (أبريل 2013م) . في عهد قيادة د. جبريل إبراهيم الذي خلف شقيقه الراحل خليل منذ ينائر2012م . أما إتفاقية السلام فقد وقعتها الحركة مع حكومة الفترة الإنتقالية في 31أغسطس 2020م ؛ على وعد مشاركة الحركة في الانتقال إلى الديمقراطية من خلال الوسائل السلمية . حركة جيش تحرير السودان , فإنها هي الأخرى قد قامت لما تراه رفضا للظلم الواقع على دارفور والمناطق المهمشة الأخرى في السودان , شرارتها الأولى كانت في التمرد الذي قاده الراحل داؤود يحي بولاد المنشق عن الجبهة الإسلامية القومية وسلطتها (الإنقاذ) في 1992م , وإلتحاقه بالحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د.جون قرنق , وقد عزى سبب تمرده بقوله (وجدت العرق أقوى من الدين) . وفي عام 2001م خرج حوالي17شخصا من أبناء الزغاوة لبدء تدريباتهم في جبل مرّة لمواجهة ما وصفوه بإعتداءات القبائل العربية المدعومة من حكومة الإنقاذ حينها , ويعتبر هؤلاء المؤسسين الأوائل بقيادة عبدالله أبكر بشر الملقب (جوري مي) , وقد ترأس الحركة المحامي عبدالواحد محمد نور , والأمين العام مني أركو مناوي حتى 2004م عندما انقسمت إلى حركتين بنفس الإسم , بقيادتي (الرئيس لواحدة , والأمين العام للأخرى) , ثم توالت الإنقسامات في الحركات المسلحة بدارفور ووصلت إلى عدد يصعب حصره بدقة الآن .
الملاحظ أنّ معظم الإنقسامات تتم على أسس قبلية , أو عشائرية في القبيلة الواحدة , كما أنّ بعضها يتم في ظروف توقيع إتفاقات سلام أو عند التهيؤ لتوقيعها وفي هذا الشق من الإنقسامات تبدو ملامح الإختلاف حول المغانم ظاهرة , فعند كل إتفاقية سلام من زمن الإنقاذ يكون بند المشاركة في السلطة حاضرا , وما يعزز التنافس على المناصب قول شعبي سائد (سلطة للساق ولا مال للخناق) يستبطن هذا المثل أنّ السلطة تجلب المال , ولكن ليس بالضرورة أن يجلب المال السلطة ؛ وهذا يجعل المرء يفكر في مفهوم الوظيفة الرسمية لدى قطاع واسع من السودانيين , وما إذا كانت لأداء مهام محددة في خدمة المجموع ووفق أجر  معلوم ونظم ولوائح محاسبية منضبطة أم هي مكسب شخصي يحقق فيه الموظف تطلعاته في الثراء وجلب المال , وإلى أي مدى تساهم الثقافة السائدة التي تعبر عنها مقولات وأمثال سودانية في تفشي ظاهرة الفساد والإفساد المالي والإداري , بل وإنعكاس ذلك في (مظلمة) توزيع الفرص حسبما ورد في الكتاب الأسود , وأدبيات الحركات السياسية المسلحة في دارفور , وأقاليم جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان . بمعنى آخر هل تبحث حركات الإحتجاج المسلح تلك عن نصيب في السلطة لتحقق ذات الامتيازات التي يحوزها من هم في السلطة ؟ أم هناك وعي مغاير لدور الوظيفة والسلطة ؟ وهل الشواهد لنتائج اتفاقات السلام العديدة حدوث تغيير يذكر في مضمار عدالة توزيع الخدمات الأساسية للمواطنين السودانيين في المناطق المهمشة , أم الذي حدث ويحدث دائما هو نيل القيادات ومن كان قريبا منهم للوظائف المدرّة للثروة , ونسيان المظالم القديمة إلا في حالات الإبتزاز السياسي , فقد نعى القائد مني أركو إتفاقية أبوجا (2006م) , وحاز فيها على لقب (كبير مساعدي الرئيس البشير) , وقال إنها دفنت في مقابر طيبة الخواض مع مجذوب الخليفة , وفي مرة قال : إنّ وظيفته (مساعد حلّة) بفتح الفاء وتضعيف اللام , وعندما انتهى الأمد المرسوم لاستنفاد أغراضه , أضطر لمغادرة الخرطوم والإعتصام بقواته مرّة ثانية في دارفور حتى طاردته قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي فذهب إلى ليبيا , وهناك عمل عناصر قواته (كخبراء أجانب) لضرورات كسب العيش !!! بينما انسلخ عنه وهو يغادر , بعض كبار أعوانه ؛ الذين استمرأوا (سلطة للساق) على قول المثل . مثلما غادر مبارك الفاضل من قبل وظيفة المساعد للبشير مخلفا وراءه نفر من كادر حزب الأمة الإصلاح والتجديد على رأسهم حسن إسماعيل . د. جبريل ظل وحركته يناور في منبر الدوحة , حتى تم تجاوزه بصناعة بديل عدييل (قبل الذكاء الإصطناعي !!) , ضم بعضا من المنسلخين عن العدل والمساواة ومن حركتي جيش تحرير السودان وجيئ بالدكتور التجاني السيسي من وظيفته في الأمم المتحدة لينال (سلطة للساق) , وهو الذي غادر موقع حاكم إقليم دارفور في آخر فترة حكم ديمقراطي(86_1989م) إسوة بزملائه في كل الحكم المدني الديمقراطي المنتخب . ومن يومها استعصم د. جبريل بخط المعارضة السياسية المسلحة , وانضم لتحالف الجبهة الثورية , وخلالها لتحالف (نداء السودان) الذي ضمه إلى أحزاب سياسية مدنية كحزب الأمة القومي والمؤتمر السوداني , في أثناء ذلك قضت قوات الدعم السريع على قوته (الصلبة) بمصطلح هذه الأيام , في كمين قوزبرنقا , وانحسر نشاطه العسكري وكاد يتلاشى , بيد أنّ الثورة اندلعت سلمية ضد الحرامية , وتسقط بس ؛ معني بها البشير ونظامه , وعبر نداء السودان إلتحق جبريل بتحالف (قوى إعلان الحرية والتغيير) , وتبنى شعار الثورة حرية سلام وعدالة , وتم تقدير دور الحركات المسلحة كلها وإطلاق مسمى (حركات الكفاح المسلّح) ووقعت معها اتفاقية سلام في 2020م , وعادت قياداتها لتتولى (سلطة للساق) , إذ ظلت تلابيب السلطة تحت القبضة الحديدية للقوى العسكرية المضادة للثورة ظاهرا وباطنا . ولأن السلطة للساق هي الحكمة الرائجة , تقلب جبريل ومناوي تحديدا مع العسكريين في الجيش /الدعم السريع حيثما مالوا , ثم انتهى بهم الخيار أخيرا للإنحياز إلى معسكر الجيش عندما بلغ صراع السلطة والنفوذ بين العسكريين مداه , وما يزال همّ السلطة هو الدافع والحافز لهذا الاصطفاف وإن تغلّف برداء (الإثنية) أو الذود عن حياض الوطن. فهل هي حركات كفاح مسلح أم (حركات سلاح متأرجح؟)
***كنت قد كتبت هذه الكلمة قبل إسبوع تقريبا , ولم أرسلها للنشر لبعض الشواغل , ظهر اليوم 19 أكتوبر 2024م قرأت كلمة على موقع التسامح نيوز للصحفية رشان أوشي _المحسوبة ضمن الطاقم الإعلامي التابع لمعسكر قيادة الجيش (تقرأ قيادة علي كرتي) في الحرب الراهنة , وهو الموقف الذي يتبنى فرضية حسم الحرب وبناء السلام عن طريق الحرب والدمار المعنوي والمادي , غصبا عن كل التجارب السابقة لهذه الفرضية والتي من نتائجها المفجعة (ولادة) الدعم السريع نفسه , ومن قبله (الجنجويد) على يدي القيادة التي يؤيدها زملاء/ات لنا وأصدقاء/ات خلاصة كلمة رشان _ إن صحّ ما أوردته إذ الشك المعقول مطلوب _ (تأرجح سلاح الحركات تبعا لمن يدفع أكثر مالا ومناصب) . متى يفيق من الغيبوبة من يزعم (كرامة) متى !!! .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..