مقالات سياسية

دليل عافية الشعوب

أهم شيء يسهم في تقدم أي بلد وتطورها واستقرارها، هو تعاون الحكومة مع المواطنين وكسبها لودهم وثقتهم وتبادل الاحترام، وهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال سلوك الحكومة والتزامها بمسؤولياتها وأدائها الذي يخضع للتقييم الشعبي باستمرار، والحكومة التي لا تستطيع أن تبادل مواطنيها الاحترام من خلال أدائها يجب أن لا تستمر في الحكم، فالسقوط الحقيقي ليس هزيمتها في انتخابات أو سحب الثقة منها أو حتى الانقلاب عليها، بل حين تقل مكانتها في نظر المواطنين ويرفضون التواصل معها ويعلنون كراهيتم، وهنا لا بد لها أن تترجل عن السلطة بهدوء ولا تكابر حرصاً على الدولة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى ما حدث لحكومة الرئيس الفرنسي ماكرون، فرغم إنها لم تكمل العامين إلا أن  عدم وفائها بما يطلبه الجمهور حسب تقييمهم أفقدهم  الثقة فيها، وأصبحوا لا يريدون لها أن تكمل فترتها  حتى، ويبدو أن الأمر سيتكرر مع حكومة رئيسة بريطانيا تريزا ماي أيضاً، وحدث الأمر مع حكومات أخرى ولكنها لم تغضب لأنها تعلم أن الاحتجاجات دليل عافية للشعوب والحكومات.

هكذا هي الشعوب لا تصبر على من فقدت فيه الثقة ولو حكم ليوم واحد، فما بال الشعب السوداني وهو يعاني 30 سنة من ألم فقدان الثقة، مع ملاحظة أن الحكومة فرضت عليه نفسها فرضاً وليست ديمقراطية، وهنا تكمن المصيبة.

حكومة الإنقاذ منذ أن وصلت إلى السلطة، لم تؤسس  لعلاقة طيبة مع المواطنين، بل سعت لإرساء علاقة مبنية على العداء والاستعلاء والتمييز وعدم التقدير، هذه العلاقة وصلت إلى آخر حدودها اليوم من خلال الظروف التي تعيشها البلاد هذه الآن، وهي نتيجة طبيعية لغياب حكم الشعب، ومعلوم إن أية حكومة لا تضع حساباً للشعب لا يمكنها بناء دولة طبيعية أو تحقق استقراراً أو تظفر باحترام يجعلها تحكم بهدوء، وتبقى المصيبة الأكبر إذا ما تمادت حتى غضب الشعب.

الشعب السوداني ظل يتحمل قسوة حكومة الإنقاذ بصبر وجلد، وقد حرمته من كامل حقوقه الشرعية والدستورية، أغلقت كل سبل التواصل بينها وبينه منذ أول يوم لها في الحكم، وحين يحتج يخرج إليه مسؤولوها يمطرونه بوابل من القنابل الكلامية المسمومة في أحسن الحالات، ولا أعتقد إنني في حاجة لأن أذكركم بما قال مسؤولوها خلال ثلاثة عقود، فلديهم قاموس في إساءة الشعب.

الاحتجاجات والمظاهرات الحالية لم تخرج صدفة كما أقرت الحكومة وبررتها بالغلاء وأزمة الخبز والوقود والسيولة وهي سبب من سباب كثيرة تضافرت أولها الإرث الطويل من الآلام والجراح المعنوية والمادية والجفوة والازدراء والقهر الذي صبر عليه شعب السودان، وبدلاً من تواجهها باللين والاعتذار والتنازل، كررت نفس السلوك وعمقت الجراح وعمقت الشرخ وزادت المسافة البعيدة بعداً لدرجة إنها لم تعد قابلة للتناقص وتعتبر هذه الاحتجاجات القشة التي قصمت الظهر، وقد انتهت كل العلاجات ولم يبقَ إلا آخر العلاج حتى يتعافى الوطن.

ميزة كل الشعوب لا تصبر على من فقدت فيه الثقة أو فشل وتمل من الوجوه والجمود والجفوة لذلك تثور  وهذا دليل عافية، والشعب السوداني ليس استثناء ليصبر أكثر من 30 سنة على حكومة واحدة.

التيار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..