بحث في أرشيف السي آي أيه.. نميري.. تشابه مصارع الطغاة

تحقيق- محمد عبد العزيز
يضم أرشيف وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) نحو 400 وثيقة عن الرئيس الأسبق جعفر نميري تزاوج بين المعلومات والتحليلات. في الأول من فبراير 1985 أعد عملاء الـ(CIA) تقريراً خاصاً عن تطورات الأوضاع في السودان تم تصنيفه بأنه عالي الأهمية بعنوان (السودان: آفاق على المدى القصير لنظام نميري)، تم وضعه بمشاركة وكالات الاستخبارات الأمريكية المختلفة، وأشار لإمكانية التضحية بنميري مقابل الحفاظ على مصالحهم في السودان وهو ما اعتمدته الإدارة الأمريكية لاحقاً، لينصب العمل بشكل أساسي على توفير نظام بديل يحافظ على المصالح الأمريكية، فكانت هناك العديد من الخيارات على رأسها تولي قيادات في النظام الحاكم السلطة، ليرد اسم عمر محمد الطيب كخيار أول.
حالة سخط
ووفقاً للتقرير، تسببت إجراءات نميري المثيرة للجدل في زيادة حالة السخط في صفوف القوات المسلحة، خصوصاً مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتهالك الأسلحة والآليات التي يستخدمونها. وشكك التقرير في ولاء القوات المسلحة السودانية لنميري، كما تنبأ أن يحجم الجيش عن الدفاع عن النميري حال قامت ضده احتجاجات شعبية أو تعرض لانقلاب عسكري، خاصة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية.
(CIA) توقعت تدهور الأوضاع الأمنية في جنوب السودان وتزايد خسائر الجيش بفعل تزايد قوة متمردي الشعبية وتراوح عددهم بين 6-10 آلاف مقاتلين، وسط دعم عسكري كبير من ليبيا وإثيوبيا فيما تتناقص إمدادات الجيش السوداني التي يقاتل له في الجنوب نحو 7-9 آلاف، وسط حالة من التذمر بسبب عودة النزاع لأسباب سياسية.
وتوقعت واشنطن أنه وفي ظل الدعم الليبي والإثيوبي لمعارضي الخرطوم ومتمرديها، فإنَّ مصر بوصفها كأهم حليف إقليمي للخرطوم تبدو غير ملتزمة بحماية النظام خاصة بعد برنامج الأسلمة الذي تخشى من انتقال عدواه لأراضيها، لذلك فإنَّ التوقعات تشير إلى أنها ستلتزم الحياد تجاه أي مشروع تغيير من المحتمل أن يكون صديقاً للقاهرة. ويعتبر التقرير أن هذه النقطة مهمة باعتبار أن التصور العام في السودان، أن أحد مقومات نميري في السلطة قدرته على الاستعانة بحلفائه في مصر وأمريكا لحمايته.
القوات النظامية
أدى انهيار اتفاق السلام في جنوب السودان لعودة حركة التمرد وهو ما أفقد نميري ولاء قادة الجيش، فتزايدت انتقاداتهم لسياسته بشكل علني مما قاده لإعفاء نحو 20 من كبار قادة الجيش، فيما تم تعيين عبد الرحمن سوار الدهب وزيراً للدفاع قائداً أعلى للقوات المسلحة السودانية – تم تمديد فترة عمله بالجيش لمدة سنة حسب قرار رئيس الجمهورية، وذلك حتى لا يشغل المنصب من بعده أحد اللوائين (تاج الدين – أو عثمان عبد الله).
وبحسب الـ(CIA) فإن سوار الدهب زميل الدراسة السابق لنميري لا يمتلك طموحاً سياسياً لذلك فإنه أقل خطورة من الآخرين.
ونوه التقرير لتزايد مظاهر الأسلمة وسط ضباط الجيش، وبدا نميري أكثر حذراً وهو يختار بنفسه قادة الوحدات العسكرية في العاصمة، فيما تراقب أجهزة الأمن عن قرب الضباط الناقمين (الانقلابيين المحتملين).
أما فيما يتعلق بولاء جهاز الأمن فقد أورد التقرير أنه نسبياً أفضل من الجيش، إلا أنه رهين بقدرة النظام على الصمود أمام أية محاولة انقلابية أو ثورة شعبية. ونوه التقرير الاستخباري إلى أن هناك تنازعاً بين جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية وحالة تربص من الجانبين.
وفي ذات السياق تمت الإشارة إلى أن ولاء الشرطة رهين بحالة الرضا عن المرتبات والمصالح والمعدات، وتوقعت المخابرات الأمريكية بالنظر للروح المعنوية للشرطة ومعداتها غير الكافية، بعدم قدرتها على التصدي لاحتجاجات واسعة في العاصمة.
مضى تقرير الاستخبارات الأمريكية في رسم الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد الإطاحة بنميري، وأشار صراحة إلى أن أبرز المرشحين لتولي السلطة نائب الرئيس ومدير جهاز الأمن الفريق عمر محمد الطيب، والذي وفقاً للدستور فإنه يخلف الرئيس في حالة الوفاة أو المرض المقعد عن العمل لحين قيام انتخابات بعد 60 يوماً، إلا أن مشكلة الطيب بحسب الاستخبارات الأمريكية تكمن في عدم تقبله من قيادات الجيش، التي قد تقوم بالإطاحة به في حال انتخابه.
أما قادة الجيش فإنهم مرشحون في المرتبة الثانية لتفضيلهم الإسراع بتنفيذ الانقلاب عوضاً عن الضباط الأصغر رتبة، الناقمين على تدهور الأوضاع الاقتصادية وتزايد خسائر الجيش في الجنوب. وبجانب الطيب فإنَّ الاستخبارات الأمريكية رصدت قائمة بأسماء الضباط المرشحين للقيام بالانقلاب هم…-تم حجب الأسماء مع الإشارة إلى أنهم من الرتب الوسيطة-.
وقالت الوثيقة إنه في حال لم يتحرك كبار ضباط الجيش أولاً، فإن ضباط الصف المتوسط سيقودون انقلاباً ناجحاً، مشيرة إلى أن هذه الفئة قد يكون لديها صعوبات في تعزيز قوتها، إلا أنه في حال سيطرتها ستُطيح بكبار قيادات نميري العسكرية التي تعتبرها فاسدة وتفتقر للكفاءة، معتبرة أن الاستيلاء على السلطة من قبل صغار الضباط غير مرجح، إلا أنه قد يكون محتملاً مع مرور الوقت.
ومن بين السيناريوهات التي وضعتها الوثيقة، تحالف مدني عسكري، في حال تعاطف صغار الضباط في الجيش مع مثيري الشغب، قد يلجأ كبار ضباط الجيش إلى مجموعات المعارضة المدنية، لتشكيل حكومة تحالف وطني، وقد يكون نظام الحكم يسيطر عليه الجيش، إلا أنه يحتوي على مدنيين بما في ذلك الأنصار والإخوان المسلمون.
أطراف المعارضة
صنف التقرير الاستخباراتي الأنصار بأنهم أقوى مجموعة معارضة بمساندة 5-6 ملايين مؤيد، إلا أنه أشار إلى أن زعيم الأنصار الصادق المهدي قد بدأ في استعادة مصداقيته كزعيم مُعارِض بعد فشل المصالحة وسجنه وإطلاق سراحه المشروط، منبهاً في ذات الوقت إلى أن رغبة ضباط الأنصار بالجيش تضاءلت في القيام بانقلاب عسكري مقارنة بفترة السبعينيات.
الختمية مجموعة كبيرة كالأنصار إلا أنه من المتوقع أن يواصلوا دعمهم لنميري، إلا أن ثمة تياراً يعمل بشكل فردي ما يزال في صفوف المعارضة، إلا أنه بات ضعيفاً ومنقسماً بعد وفاة الشريف الهندي.
الإسلاميون بات دعمهم للنظام مشكوكاً فيه خاصة في الستة أشهر الماضية، ولقد ساءت علاقتهم بنميري الذي بات يصفهم بـ(إخوان الشيطان) ويلومهم على انخفاض شعبيته بعد سياسة الأسلمة، ويتهمهم في ذات الوقت بتخزين الأسلحة ملمحاً إلى تجهيزهم لعمل تخريبي.
وأضاف التقرير أن شعبية الإسلاميين بدأت في الانخفاض مما انعكس على خسارتهم لمقاعد الانتخابات في الجامعات بعد سنوات من السيطرة، بينما تلفت (CIA) إلى أن النظام سيواجه معضلة حقيقية في حال تحالف زعيم الإسلاميين الترابي مع صهره المهدي –تحقق لاحقاً-.
أما اليساريون (شيوعي وبعثي) وبحسب المحللين الأمريكان فإن الطرف الأول يعمل تحت الأرض بأكثر من 10 آلاف كادر، ينشطون في تحريك التظاهرات والإضرابات العمالية، بينما يبدو البعثيون أقل فاعلية خاصة أنهم منقسمون لعدة تيارات أبرزها مدعوم عراقياً، ويلفت التقرير إلى أن قدرة المعارضة زادت في تحريك الشارع بعد إعدام زعيم الجمهوريين محمود محمد طه في منتصف يناير الماضي (يعني العام 1985).
بعد السقوط
في بعض الأحيان تُثير دقة توقعات المخابرات الأمريكية الإعجاب، فلك أن تتصور أن التقرير في ختامه وضع توقعات لمآلات الأوضاع بعد الإطاحة بنميري –ما بعد الانتفاضة-، حيث أشارت الوثيقة إلى أن دول أمريكا ومصر والسعودية، قد تكون قادرة على خلق نفوذ كبير، على الحكومة البديلة، من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية، بينما ستعلق ليبيا والاتحاد السوفييتي المساعدات العسكرية للمتمردين، في ذات الوقت ستستفيد الولايات المتحدة والسعودية ومصر من المفهوم السائد لدى القيادات السودانية العسكرية والمدنية، بأن المساعدات الاقتصادية أمر حيوي، وأن الحلول العسكرية للتمرد في جنوب السودان غير مجدية، وبذلك لن تُرسل ليبيا والسوفييت مساعدات اقتصادية ومالية.
ولفتت الـ(CIA) إلى أن أية حكومة بديلة لن تنعم بانتقال سلس، ولكن الاستقرار الداخلي قد يدعم من قبل ضباط كبار أو من الصف المتوسط غير مقربين لنميري، وسترث هذه الحكومة الجديدة جميع مشكلات نظام نميري الاقتصادية والأمنية –التمرد في جنوب السودان- وهذا النظام قد يكون أكثر صداقة للولايات المتحدة ومصر مقارنة بالبدائل الأخرى، على الرغم من أن الحكومة التي سيقودها كبار الضباط قد تحاول في البدء تعزيز موقفها الداخلي، من خلال إظهار أنها أكثر استقلالاً من التدخل الأجنبي مقارنة بنميري.
ختاماً تطابقت الكثير من التوقعات الاستخباراتية مع مجريات الأحداث، صحيح أن بعض العوامل قد تكون أدت لخروج الأحداث عن مسارها المخطط، ولكن التفاعلات البشرية لا يمكن إدارتها بشكل مطلق، ما حدث في انتفاضة مارس-أبريل 1985 أمر جدير بالدراسة والتدبر مثل الكثير من الأحداث، بشكل قد يعيد رسم ذاكرة الأحداث مع المعلومات التي باتت تظهر يوماً بعد يوم، ومن كنا نظن أنهم أبطال قد يكونون مجرد عملاء، ومن نحسب أنهم (خونة) قد يكونون أبطالاً. فقط، أعيدوا النظر في كل ما كنتم تعرفونه.
الديمقراطي