الثورة تقتل ابناءها

حجرة خالية من الأثاث تفوح من جدرانها القذرة المتآكلة رائحة كريهة، أركانها معتمة بالظلام ومصباح يتيم يتدلى من السقف، تمركزت إضاءته على رجل خمسيني فى بزة عسكرية ، ذو بنية قوية وملامح قاسية وشارب هتلري، تحيط به مجموعة من الرجال بمعاطف سميكة وقبعات من الفرو , بدا مُنهكا ومُتهالكا لكثرة ما تعرّض إليه من ضرب وتعذيب على أيدي رجال كان يتزعمهم بالحرس الثوري لسنوات طويلة, إنه الرفيق (جيتريك ياغودا) رئيس شرطة ستالين السرّية الذي كان يتلذّذ بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه في أقبية السجون بأمر من ستالين !! ها هو اليوم يقف منكس الرأس متقطع الأنفاس وقد علت محياه نظرة يائسة مستعطفة , ينتظر المصير الذي طالما أرسل إليه الكثير .
– “جردوه من ثيابه” صوت أجش أتى من ركن العتمة , فأنقض عليه الرجال كالذئاب الجائعة, مزقوا ثيابه وتركوه على الأرض عاريا يجهش بالبكاء .
أتى الصوت مجددا “أضربوه” .. فانهالوا عليه بالضرب المبرح ولم يتركوه إلا وهو كتلة مشوهة من اللحم الدامي .
تحرك الرجل من العتمة نحو الضوء فبانت ملامحه تدريجيًا , إنه الرئيس الجديد للشرطة السرية , الرفيق نيكولاي يزوف الذي قام بمساعدة بعض عملاءه في الشرطة السرية بدس كمية من الزئبق في مكتب «ياغودا» زاعمًا بأن هذا الزئبق كان سيستعمل في مؤامرة من أجل تسميم الزعيم استالين .. وقف لبرهة وهو يتأمل جسد رئيسه الدامي متلذذًا بسماع تأوهاته وكأنه يهمس بمقولة أورليانوا لصديقه الحميم أثناء الثورة الكولومبية :لست أنا من يقتلك ،،، إنما هي الثورة ياصديقي ! ! .. ثم أومأ برأسه للجلاد فاسيلي بولخين, الذي أخرج مسدسه ووضع رصاصة النهاية في رأس ياغودا . ليعلن مجئ كلب جديد اكثر وفاء وتفانيا لسيده استالين. كلب لقب بـ«القزم الروسي الدموي»، فقد اعتقل 1.3 مليون على الأقل وقتل 681692 شخص، وتسبب في موت ما لا يقل عن 140.000 داخل السجون.
كان ستالين مُتعطشا للسلطة مُصابا بجنون العظمة، يرتاب في كل ما يحيط به، وتعمق لديه هذا الشعور بعد عجزه عن إدارة البلاد، فشرع في تصفية جميع خصومه السياسيين داخل الحزب والجيش وكل من يشك في ولائه، حتى شمل ذلك معظم الرفاق القدامي من أعضاء اللجنة المركزية للحزب ولم يتبق من الحزب البلشفي غير ستالين ووزير خارجيته “مولوتوف” . إذ جرى تجريدهم من مناصبهم ثم طردوا من الحزب وأدينوا في محاكمات صورية ، وأعدموا جميعا رميا بالرصاص حتى عائلاتهم لم تسلم من التنكيل بعد أن قام بإعدام أبنائهم، في حين أرسلت زوجاتهم إلى معتقلات الجولاك الرهيبة، مثلية جنسية بين الرجال ونساء يغتصبن بشكل جماعي حتى الموت وملاجئ لاطفال مجهولى الهوية .. الخ .. قام بمايسمي بـ ” التطهير الأعظم” مدن وبلدات كاملة أجبر سكانها الى التهجير القسري .. الملايين من القوميات والفئات وصمها بأنها معادية للحكم .. أغلب تلك الفئات لا علاقة لهم بالنشاط السياسي , فمصطلح معتقل سياسي كان فضفاضا.
.
تلك الإعدامات التي طالت آلاف الضباط أضعفت الجيش الأحمر وأوهنت عزيمته وكانت سببا في الهزائم المنكرة التي تلقاها في الاجتياح الألماني للاتحاد السوفيتي عام 1941 .
وبعد أن انتهى ستالين من عمليات التطهير داخل مؤسسات الحزب والجيش ونشر الرهبة والخوف في عموم الاتحاد السوفيتي , لم تعد هناك حاجة لقسوة رئيس الشرطة السرية يزوف, فقرر التخلص منه هو الآخر , حتي يرمي بجميع الجرائم التي اقترفها علي يزوف لأن “أب الشعب” لا يمكن ان يفعل تلك الأمور الفظيعة بشعبه .
شرع ستالين بتجريد يزوف من قوته , فسلمه مفوضية الشعب للنقل المائي , بهدف ابعاده عن الشرطة السرية ليسهل القضاء عليه .
لكن يزوف لم يكن غافلا عما يحاك ضده , فراح يقضي أغلب أوقاته بمعاقرة الخمر , حتي ان زوجته انتحرت ويقال بأنه هو من قتلها بعد أن ضاق ذرعا بعشاقها الذين كانوا يترددون عليها . وفي 1939 تم إعفاء يزوف من منصب اللجنة المركزية للحزب , ثم أصبح عاطلا عن العمل بعد إلغاء مفوضية الشعب للنقل المائي بأمر من ستالين .
وبعد شهر تم القبض عليه واخفي خبر اعتقاله عن ضباط الشرطة السرية. وتحت التعذيب اعترف يزوف بكل ما أرادوا أن يوقع عليه .. خيانة .. اختلاس .. تآمر .. مثلية جنسية ? جميع ما يكفل إعلانه كـ “عدوا للشعب “.
وقف يزوف أمام محكمة الشعب مترنما بمحبة ستالين , صرخ في قاعة المحكمة قائلا بأن أسم ستالين ” سيبقى على شفتي حتى أخر لحظة من حياتي ” .. لكن دون جدوى .. فالحكم عليه كان قد صدر قبل أن ينطق به قضاة المحكمة .. وهكذا حكموا عليه بالإعدام , وما أن سمع الحكم حتى خارت قواه وكاد يسقط أرضا لولا أن تلقفه الحراس وحملوه إلى زنزانته .
في يوم تنفيذ الحكم كان يزوف مرعوبًا وخائر القوى، أخذه ضباط الشرطة السرية إلى نفس تلك الحجرة الكريهة التي أشرف فيها على إعدام ياغودا قبل عامين، وراح يصرخ ويتوسل، وجاء صوت من عتمة الحجرة، (أنزعوا عنه ثيابه) ثم جاء الصوت ثانية (أضربوه) فانهالوا عليه بالضرب حتى صار بين الحياة والموت يبصق الدم ويبكي كالنساء، ثم اقترب الرجل الواقف في ركن الحجرة المعتم وبانت ملامحه، أنه بيريا، الرئيس الجديد للشرطة السرية، أومأ بيريا الى الجلاد فاسيلي بولخين برأسه فأخرج فاسيلي مسدسه وأجهز على القزم الدموي برصاصة في رأسه .
عرف عن «ستالين» أنه كان يلغي كل أثر لمن لم يعد بحاجة إليهم, فيزوف كـ ياغودا سيخلفه كلب اكثر تفان ووفاء ..جميعهم مجرد أدوات أستعملها في إنشاء إمبراطورية الرعب التي تربّع على عرشهاعقود من الزمان، مجرد كلاب لا يحكمهم أي ضمير أو وازع أخلاقي اتقنوا التعذيب والإعدامات والاغتيالات وإدارة المعتقلات، تنافسوا فيما بينهم في القسوة والنذالة ..
في 1 مارس 1953 رحل ستالين .. كما رحل سواه فقد عثر عليه مُمددّا في غرفته فاقدا للوعي وغارقا في بوله نتيجة إصابته بسكتة قلبية .. تقول ابنته: “كان النزيف قد اجتاح دماغه. بدأ وجهه يزداد اصفرارا وفي لحظة، قبل النهاية، فتح فجأة عينيه ليضم بنظره كل من كان حوله.كنت انظر إلى عينية وكانت نظرتةالاخيرة وبداء فيها وكأنة يحس بحزن عميق ، وفجأة، – حصل ما لم أفهمه وما لا أفهمه حتى اليوم من دون قدرتي على نسيانه ? في اللحظة الاخيرة رفع ستالين يده اليسرى، وكأنه يملي علينا أمرًا ما من فوق، وكانة يريد الاشارة إلى احدنا لكن سقطت يده ومات” رحل ذلك الطاغية الذي أرسلته أمه فى طفولته إلى المدرسة المسيحية الأرثوذكسية ليسلك مسار الدين والكهنوت لكنه اختار مسار الدكتاتورية والإلحاد ومات عليها ..