نقطة حبر جديد … قصة قصيرة

جمال الدين علي

( ضم أصابعك يا أستاذ; لو  سمحت). طلبت منه الممرضة  بلطف وهي تلف ساعده بشريط مطاطي ضاغط; استجاب لطلبها بآلية; نكشت طبقات جلده بالابرة عدة مرات حتى وجدت وريدا طريا. رويدا رويدا نضحت قطرات روحه ممزوجة   بالسائل الثقيل اللزج. تابعها ببصره حتى انسرب المزيج داخل الكيس الملقى بجواره.
يشعر بالرضا من نفسه عندما يقارنها بمناظر   القتل والسحل والدماء التي تغطي شاشات  الواقع وعندما ينظر لأولئك الذين يبيعون أعضاءهم قطع غيار في سوق النخاسة الطبي.لم يكن ليصدق أن كل هذا القبح; هذا الدمار المتفشي في العالم ليس بسبب كائنات فضائية قادمة من كوكب الخيال. حياته عجينة  غامضة شكّلتها أصابع الزمن القاسية قبل أن تحرقها في آتون المعاناة. ثمة  أفعالا مشينة يقوم بها البعض; عندما يفكر فيها ويقارنها بما يفعل يشعر بالفخر. ; لم  يكن ليحفل بمطبات واقعه البائس; حتى  جاء ذلك اليوم الذي كان عليه الاختيار بين أن تحلب حياته قطرة قطرة أمام عينيه و بمحض ارادته أو ويعصر رحيق عمره نخبا لآلهة لا تحفل. عندما يفكر في كل ذلك الآن; لا يشعر بأي ندم; فقط ينتابه احساس بالقرف من  نفسه سرعان ما يتلاشى مع افراغ الشحنة الوردية الداكنة في الكيس واستلام  الأجر.
يذهب إلى المستشفى العالمي الخاص مرة واحدة في الأسبوع; مثل بقرة حلوب يتمدد على السرير الطبي بغرفة الطوارئ تتناول الممرضة يده; ويبدأ الجهاز البسيط و حسب قوانين الطبيعة في حلبه; ولا تنسى الممرضة وهي ترسم إبتسامة باهتة على وجهها أن توصيه وهو يهم بالمغادرة بشرب كأس كبير من  عصير الجريب فروت الطازج أو منقوع الزبيب.
تلك الابتسامة التي ألمته كثيرا حينما قرر تفكيكها حتى يسهّل الأمر علي نفسه وعليها.
اكتشف الأمر بالصدفة. ذات مساء ذهب إلى المستشفى الخاص لزيارة أحد معارفه; تفاجأ عند مدخل الطوارئ بشخص أملس; ناعم; و لزج يلتصق به; يسأله بلهفة عن فصيلة دمه. لم يفكر ساعتها  سوى في القيام بالواجب الإنساني وحسب; وكانت فصيلة دمه النادرة سببا في إنقاذ أم وجنينها من الموت; شكره الرجل على نبله ودس في جيبه رزمة من الأوراق النقدية; عندما عدها بعد ذلك; اكتشف الخسارة الفادحة. عملية النهب المنظم التي ظل يتعرض لها طيلة السنوات الفائتة. عندما قارن حجم السيولة النقدية التي تجري في عروقه; وتلك التي حرقها في العمل مع الفتات الذي يحصل عليه في آخر الشهر; شعر بذلك الألم الذي  يعتصرك في مكان مجهول  ولا يدعك تقبض عليه.. تتحسسه بيدك.  اكتشف أيضا أنه ضيع سنين عمره وأهدر دمه في وظيفة لا طائل منها; ولهذا فهو لا يشعر بأي نوع من تأنيب الضمير  بعد ممارسته لعمله الجديد وإكتسابه الخبرة. ثمة من يشكك في مشاعره و أن ما  يشعر به الآن; ليس سوى   نشوة فوز مختلس عابرة. حالها كحال رياح مجهولة المصدر هبت فجأة وسكنت. حالما يجلس مع همومه سرعان ما تتبدد قبل أن تصل موجاتها إلى تخوم الضمير.
فتح عينيه ونظر حوله. السائل اللزج لا يزال يقطر من عروقه بسلاسة; يتورد الكيس الملقي تحت قدميه; ينكمش جلده و يذبل; وبعد أن ينتهي كل شيء; يشعر  بالفراغ  والخواء.
فكر أن يسلي نفسه قليلا وهو مستسلم لقدره; شرع في توزيع الراتب على منصرفاته اليومية قياسا على كمية السائل المتجمع في الكيس  المدرج الذي يتحول بذهنه إلى محفظة نقود تحوى لتر واحد هو أقصى ما يستطيع جمعه في الأسبوع حسب النصيحة الطبية التي قالتها له الممرضة. 100 مل لمصاريف المدرسة; لا. لن تكفي لوجبة الفطور; أوقف بصره عند الخط 150. همهم (يجب أن تكون كافية). 500 مل  لحاجيات وجبة الغداء الفقيرة. تبقت 250 مل لن تكفي لشراء جريب فروت وأجرة المواصلات إلى البيت.  ضحى بأجرة الحافلة سوف يذهب إلى البيت راجلا. وبهذا يوفر قطرات للمفاجآت الغير متوقعة. يا إلهي تذكر أن طفلته الصغيرة طلبت منه علبة ألوان وكراسة رسم. وهذان يكلفان على الأقل ربع لتر إضافي. لن تقبل الممرضة حلب المزيد حتى لو دس في يدها بعض الفكة. فكر في الذهاب إلى المستوصف القريب برغم من أنهم يسرقونة ويدفعون سعر أقل ولكنه مضطر لفعل ذلك. استلم المبلغ وركض مسرعا.. لم ينتظر حتى تضع الممرضة اللاصق على يده.. يشعر بدوار وزغللة.. دفع باب المستوصف ودلف إلى غرفة الطوارئ; تهاوى على السرير. مد يده; تحسست الممرضة نبضه; اكتشفت أنه أنفق كل السيولة التي في عروقه في الطريق.

[email protected]

تعليق واحد

  1. لا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن واقع الحياة التى يعيشها إنسان اليوم يجد نفسه مضطر حتى لارتكاب جرم فى نفسه ولو كان بيع دمه او عضوه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..