المحارب.. رواية – 17.

صاح عباس حوض الرملة فى ضيق، وقد لعبت الخمر براسه، وهو من اساسيى الانداية التى يرتادها لفيف من المبتلين طالبى المتعة، والمستاءون الذين يتوهمون ان همومهم وما يحسونه من تعاسة وبؤس ستذوب وتتلاشى بمجرد ملامسة شفاههم لكاس من الخمر؛ الحكومة ضيقت على الخلق معاشهم، وصادرت افراحهم، حتى لتكاد تصادر عنهم ارواحهم، سكت هنيهة قبل ان يستطرد وهو يرفع بالكأس الى فيه وموجها كلامه لمحمود ود الزبير الذى جلس على حصيرة من السعف فرشت بصورة مهملة فى ركن قصى من اركان القطية الواسعة وهو يدندن بلحن قديم لم يحفظ كلماته جيدا، فاضاف اليه بعض الكلمات الغير مفهومة الهمه اياها عقله الذى غيبه السكر، كان يدندن بلسان الثغ وبصوت اشبه بنقيق الضفادع معتقدا حسب ما املاه عليه عقله الغائب عن الوجود انه قد اجاد تقليد الفنان الشعبى الشهير صاحب اللحن، استطرد عباس قائلا؛ هذه المسكينة ويعنى بذلك كلتوم الدلالية، قبل ثلاثة ايام داهم رجال الشرطة بيتها وصادروا كل ما لديها من بضاعة، واخذوها معهم الى القاضى الذى حكم عليها بالجلد والغرامة وهددها بالحبس المؤبد ان عادت مرة أخرى الى رجسها الخبيث الذى هو من عمل الشيطان على حسب زعمه، واضاف عباس بحزن غير حقيقى خدعته به مشاعره المتارجحة ما بين الحزن والفرح، ومؤشر عقله المضطرب الذى يروح ويغدو بين الوعى واللا وعى؛ الحكومة بعدما عجزت عن توفير سبل الحياة الكريمة للمساكين، وساهمت بشكل كبير فى البؤس الذى يعيشونه، ها هى تفاقم من ازماتهم بقطع ارزاقهم، قال عبارته الأخيرة وقد ظهرت على وجهه مسحة حزن حقيقية فى هذه المرة، وعيناه الشبه مغمضتين ساهمتين الى الارض.
توقف محمود عن الغناء، وصب لنفسه كأسا من زجاجة كانت امامه لم يتبق من محتواها الا القليل، وقال بمرح من لعبت الخمر براسه، وهو يمسك بالكاس ويدنى بها الى فمه؛ يا عِبْس يا أخى انت رجل صاحب عيال ? و محمود يعلم ان ليس لعباس ذرية- واسرتك فى امس الحوجة اليك، فاياك ان تتحدث فى السياسة، واضاف وهو يضع يده على صدره كانه يحاول اخماد النار التى اشتعلت فى جوفه بعد ان افرغ فيه محتوى الكاس دفعة واحدة؛ صديقك عبد الجبار لا يقبل فى الحكومة زلة ناقدٍ، ولو كان المنتقد ابوه ذات نفسه، ثم اردف وهو ينظر بريبة الى عبد الجبار الذى لا يغيب عقله وان شرب صهريجاً باكمله؛ صاحبك عبد الجبار مؤتمر وطنى يا عبس، يعنى ابن الحكومة، يعنى بامكانه ايداعك السجن دون ان يرف له جفن، ولا يهمه ابدا عمق الصداقة التى بينكما، ختم محمود حديثه وهو يضحك عاليا ضحكة جوفاء اهتزت لها ارجاء القطية الواسعة، وينادى على كلتوم الدلالية طالبا مزيدا من الخمر.
– الحكومة عز عليها ان ترى الناس سعداء، لم تترك لنا شيئا جميلا الا وقامت بمصادرته، واخيرا عمدت الى هذا الذى ينسينا انها جاثمة على صدورنا.. انها تريد حرماننا منه، وانا لا اتخيل نفسى من غير كاس، وعبد الجبار نفسه لا تستقيم له الحياة الا بصحبة الكاس، قال عباس كلامه هذا بنبرة هازئة، وختمه بضحكة جوفاء وهو ينظر الى مصطفى الثعلب الذى ارتفعت عقيرته بزئيره الشهير الذى يشبه مواء القطط والذى اعتاد على سماعه كل من ارتاد انداية كلتوم الدلالية.
رفع عبد الجبار بصره الى مصطفى الثعلب الذى كلما لعبت الخمر براسه تخيل انه اصبح اسدا، فيزأر ويزأر، حتى يثير ضجر وحفيظة كل الموجودين بالانداية، وحينما يشرع فى عبطه هذا لا يستطيع احدا ايقافه سوى عبد الجبار الذى انتهره قائلا؛ اختشى يا رجل، واردف بغضب وهو يشير الى اشرف الذى انضم هو وصديقاه الى مجلسه؛ احترم هؤلاء الضيوف الذين يشرفون مجلسنا لاول مره.
توقف مصطفى عن الزئير، ورفع بصره ناحيتهم بعينين شبه مغمضتين فوقعتا على اشرف، زم شفتيه وقطب جبينه وهو يتفرس فى وجه اشرف الذى جلس منكمشا على نفسه، فصاح بنبرة شامتة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وهو لا يزال يتفرسه باستغراب كانه غير مصدق ما تراه عيناه؛ يا جماعة ود حامد الذى عرف بالاستقامة سينحرف، ود حامد سيصبح زبونا لانداية كلتوم الدلالية، سكت قليلا قبل ان يستطرد وهو يصفق وقد تغيرت لهجته واصبحت اكثر جدية: يا صحاب، ود حامد اليوم فى ضيافتنا داخل انداية كلتوم الدلالية!!، قال ذلك وقد ارتفع حاجب الدهشة لديه وهو ينظر الى اشرف باستغراب كانه ادرك للتو ان الذى امامه هو اشرف ود حامد، ختم الثعلب حديثه بان اقسم الا يدفع اليوم احدا مليما واحدا، واكد ان شراب القوم وعشاءهم سيكون الليلة على نفقته احتفاء بالوافد الجديد.
كان هؤلاء الاربع، عباس المشهور بحوض الرملة، ولعل الكنية جاءت من كونه لا يرتوى ابدا من الخمر مهما عبّ من دنانها، ومحمود ود الزبير، وعبد الجبار ود المحينة، ومصطفى الثعلب مع آخرين سيأتى ذكرهم فى حينه، من الاساسيين الذين لا يغيبون عن الانداية مهما كانت الاسباب، فعباس حوض الرملة فى الثانية او الثالثة والاربعين من عمره، ربع القامة، يميل الى النحافة قليلا، يعمل ترزيا فى محله الكائن داخل منزله، توفت عنه زوجته التى تزوجها عن حب، ذهبت وتركت فى حياته فراغا لم يستطع ملؤه الا بتعاطى الخمور.. ومحمود ود الزبير فى العقد السادس من عمره، يميل الى القصر قليلا مع بسطة فى الجسم، وعلى الرغم من انه فى السابعة والخمسين من عمره الا انه لما يزل يحتفظ بملامح شبابية، يعزز ذلك خلو شعر راسه من الشيب، وجبين خال من التجاعيد تماما، كان محمود ود الزبير دائم الصمت ولا يتحدث كثيرا الا ان يكون به سكر، يعمل فى طاحونة التعاون الكائنة بالقرب من البيارة القديمة، تزوج من رُمان عمة الهميم ود الضو، غير ان زواجهما لم يصمد لاكثر من عامين فانفصلا بعدها وذهب كل منهما الى حال سبيله، تزوج بعد ذلك مرتين الا ان كلتا الزيجتين لم يكتب لها النجاح، كره محمود النساء واعرض عن الزواج بعد هذه الزيجات الثلاثة، فاقبل مكبا على الخمر متوهما انه وجد فى معاقرتها كل سلواه، فكان أن ادمن الشرب حتى اضحى لا يصحو الا ليسكر مرة اخرى، وهو من شجع الهميم ومتوكلوف على السير فى هذا الطريق المعوج، ليس لديه اصدقاء سوى شلة السكر هذه، وصداقته بهم تبدأ وتنتهى فى هذه الانداية فقط، اما خارج الانداية، فهو اما فى عمله، او بمنزله الذى لا يفصله عن منزل الهميم سوى زقاق صغير.. واما صديقنا عبد الجبار ود المحينة الوسيم القسيم فهو فى الخمسين من عمره، مديد القامة نحيفها، تزوج من ابتسام زميلته فى العمل، إذ يعملان فى قسم الحسابات فى فرع احد البنوك الاسلامية الشهيرة، كان عبد الجبار دائم التأنق سواء فى لبسه الافرنجى او فى زيه البلدى، وكان اكثر مرتادى الانداية ادبا وهدوءً، لا تؤثر الخمر فى عقله مهما افرط فى الشرب، يحترمه كل الرواد بسبب ادبه وكرمه وحسن معاملته للندامى، وربما خوفا منه لانه ابن الحكومة كما يحلو لمحمود ود الزبير ان يطلق عليه، ابتلى بالافراط فى معاقرة الخمر لا بسبب نسيان مشكلة يعانيها، او استخفافا بحرمتها، كلا، او هكذا كان يبدو لمن لا يعرفه، فكثير من الناس يعتقد ان انجرافه وراء الشرب انما بحثا عن متعة وهمية يسد بها فراغا روحيا يعانيه اغلب الذين طغت على حياتهم ادران المادية البغيضة، ولكن لربما كانت لدى عبد الجبار مشكلة يعاني ويلاتها، فلا احد يعلم ما تنطوى عليه سريرته، فبرغم ابتسامته الوضيئة التى لا تفارق شفتيه، الا ان مسحة حزن دفين تظهر بين الفينة والاخرى على وجهه الذى تكسوه نضرة النعيم.. واما مصطفى الثعلب، الناقم الثائر الذى لا يعجبه اى شيء مهما خلا من عيوب.. شاب فى الثلاثين من عمره، لم يخض تجربة الزواج رغم ثراء اسرته الفاحش، فابوه يقيم باحدى دول الخليج إذ يعمل مستشارا قانونيا لدى احدى شركات البترول، اكمل مصطفى الثعلب الثانوى بتلك الدولة فبعثته اسرته للدراسة الجامعية فى اواسط ثمانينيات القرن الماضى، كانت البلاد حينها مقبلة على حكم ديمقراطى بعد الانتفاضة الشعبية التى اطاحت بحكم شمولى ظل يتحكم فى البلاد ورقاب العباد لستة عشر عاما حسوما، وصل الثعلب الى البلاد وباشر دراسته فى كلية العلوم بجامعة الخرطوم، كانت الجامعات السودانية يومئذ تمور بالندوات السياسية، واركان النقاش التى كان يقيمها الطلبة فى الهواء الطلق، وكان الاستقطاب على اشده، فكل حزب يحاول ان يجمع حوله اكبر قدر من المؤيدين، وجميعهم بما لديهم فرحون، عصى على مصطفى فى بادئ الامر استيعاب ما حوله لا سيما وانه لم يعتد على مثل هذه الاجواء، فلأول مرة فى حياته يجد نفسه هدفا للمزايدات للانضواء تحت الوية ايدوليجات متباينة تطرحها جميع الاحزاب التى فى الساحة السياسية، يمينها ويسارها، فها هو حزب الامة بزعامة الصادق المهدى وصاحب اكبر قاعدة جماهيرية فى البلاد يطرح برنامجه السياسى الذى اطلق عليه نهج الصحوة الاسلامية، ربما بغير قناعات حقيقية، انما فقط تملقا لجماهيره، وها هم الاتحاديون تحت قيادة زعيم طائفة الختمية محمد عثمان الميرغنى يقدمون رؤاهم حول امكانية قيام دولة اسلامية بطرحهم لبرنامج الجمهورية الاسلامية، فقد يكون فى ذلك ترياقا يوازى المد الاخوانى الذى يحاول به الاسلاميون الذين التفوا حول برنامج الشريعة تحت مسمى الجبهة الاسلامية القومية بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابى ابتلاع جماهير تلك الاحزاب التقليدية، وقد رأى الثعلب فى هذه البرامج مجرد مزايدات تحاول بها الاحزاب اليمينية خطب ود الجماهير للوصول الى الحكم، فكان ان اولى ظهره لاحزاب اليمين، واقبل على قبيلة اليسار يلتمس فى احزابها ما يوافق رؤاه وافكاره وتطلعاته كشاب منفتح العقل، بيد انه لم يجد الا مزيدا من المزايدات والمكايدات، وكان يمثل تلك الاحزاب؛ التيار الناصرى، والبعثيون، والشيوعيون، وبعض الاحزاب الصغيرة التى تبحث لها عن موطئ قدم لتقدم نفسها، وقد راى الثعلب ان احزاب اليسار بمختلف مشاربها تلتقى جميعها فى ايمانها بالاشتراكية، وفصل الدين عن الحياة السياسية.. إذاً وباختصار غير مخل هكذا كانت الاجواء التى سادت الساحة السياسية عند وصول الثعلب الى البلاد، وكذا اوجه بعض الاحزاب وبرامجها التى شغلت الجماهير باختلاف اتجاهاتها، وقد كان قدامى الطلاب من جميع الاحزاب يعملون بشتى السبل لاستقطاب الطلبة الجدد وكسبهم للانضمام الى صفوفهم، وكان من البديهى ان يحاولوا مع مصطفى الثعلب، وقد فعلوا ذلك فعلا، ولم تستطع اى جماعة حزبية استمالته الى صفوفها فى بادئ الامر، إذ انه نأى بنفسه عن اركان النقاش وحضور الندوات السياسية، وظل على هذا الحال فترة من الزمن الى ان قام احد اشهر طلاب الجبهة الديمقراطية باقناعه بالانضمام الى الحزب الشيوعى، وكان حدثا غريبا ان ينضم الثعلب الشاب البرجوازى الى حزب ينادى بحياة الطبقة الكادحة ويؤمن بالاشتراكية فكرا ونهجا وهو الارستقراطى الذى ولد وفى فمه ملعقة من ذهب.. تخرج مصطفى الثعلب فى بداية حكم الانقاذ وقد تخصص فى علوم الاحياء الدقيقة، وصنفه منسوبوا النظام الجديد من معارضى الحكومة على خلفية مواقفه السياسية المعادية للجبهة الاسلامية ايام دراسته الجامعية، فكان ان عوقب بعدم استيعابه فى اى من مستشفيات الدولة، فافتتح فى قريتهم مختبرا طبيا صغيرا بجانب المركز الصحى العتيق، نال تصديقه بمساعدة صديقه عبد الجبار، فظل يعمل فيه منذ تخرجه وحتى لحظة زئيره هذه، مفضلا الدخل المحدود الذى يوفره مختبره على الهجرة، فقد اعجبته الحياة هنا فرفض السفر خارج البلاد رغم الحاح والديه المستمر باللحاق بهما فى مقر هجرتهما.. لا نستطيع ان نختم حديثنا عن مصطفى الثعلب قبل ان نذكّر بانه هو من كان وراء انضمام متوكل عثمان الى الحزب الشيوعى، وهو ايضا من اطلق عليه لقب متوكلوف، ذلك اللقب الذى اضحى ملازما لمتوكل كظله حتى اصبح لا يعرف بغيره، وظل يناديه به جميع من كان يعرفه من اهل القرية.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..