الشعر و الترويح عن النفس

الشعر هو ديوان الشعوب الذي يختزن جانباً هاماً من التجربة الإنسانية بكل آمالها و أمانيها و أحلامها و تطلعاتها و أفراحها فضلاً عن آلامها و عذاباتها و خيباتها و إخفاقاتها و أتراحها و غيرها مما يختلج في النفس و تمور به، و هي تتفاعل مع محيطها و بيئتها. و هو بجانب ذلك يعد ضرباً من ضروب الأدب التي تلامس دواخل الإنسان و تسكب فيها الراحة النفسية و النشوة التي ترتقي بذوقه كما يكون لها وقعها الخاص في نفسه.
و ينطبق ذلك على الأنماط الشعرية المختلفة، فصيحة كانت أو شعبية أو” حلمنتيشية” أو خلافه. و تتوقف براعة القصيدة على نظمها و مدى تعبيرها عن الموقف أو الموضوع المعين.
و فيما يتصل بنظمه فإن الشعر يمثل حالة شعورية غير عادية تعتري الشاعر و تهز دواخله ثم تمس أوتاراً حساسة فيه فيتفاعل مع موقف معين أو موضوع ما وينفعل به فتتولد عن ذلك حالة مخاض تنتج عملاً شعرياً يمثل إنعكاساً لدواخل الإنسان و يعبر عن الموضوع الذي هزه و دفعه لكتابة القصيدة أو العمل الشعري المعين.
وبالرغم من أن ثمة تعريفاً عاماً للشعر يتكيء على كونه جنس أو لون من ألوان الأدب المعروفة منذ القدم و التي إرتبطت بالطبيعة البشرية النزّاعة للتعبير عن التجليات الإنسانية في صورها المختلفة إلا أن تعدد الزوايا التي ينظر من خلالها الإنسان للشعر تؤدي إلى تباين تعريفاته. فمثلاً يعرف الشعر في الأدب الإنجليزي بأنه “Best words in their best order” أي كلمات منتقاة نظمت بصورة مثالية، غير أن هذا التعريف لم يتضمن في ثناياه الحالة الشعورية بحسبانها ركن ركين في البنية التعريفية للشعر. و بالقطع توجد تعريفات أخرى للشعر في اللغة الإنجليزية، تعتبر أشمل و أعمق و أكثر إحاطة بمفهوم الشعر.
أما في اللغة العربية، فبجانب تعريفه العام، تتعدد تعريفاته و ذلك بحسب الزاوية التي ينظر الشخص من خلالها للشعر. وقد عرّف أحدهم الشعر تعريفاً بليغاً و معبراً، بقوله أن (الشعر هو محاولة تحويل الدم إلى حبر)، أي أن الحالة الشعورية التي تؤذن بميلاد القصيدة تعتري الشاعر و تعربد به ثم تجري منه مجرى الدم فيقوم، لا شعورياً، أي تحت وطأة تأثيرها، بكتابة القصيدة، محاولاً تحويل الدم إلى حبر.
و ذكر آخر أن القصيدة هي التي تكتب الشاعر و ليس العكس. و هذا يقصد به، في رأيي، أن موضوع القصيدة هو الذي يدفع الشاعر، برغمه، و تحت عنفوان الموقف المستفز، إلى كتابة القصيدة، ما يعني أن القصيدة تكون سيدة الموقف، ممسكة بزمام الشاعر و آخذة بيده ليتجلى شعرياً. و بذا فهو يكون أسير حالة المخاض الشعري تلك، و التي تملأ أقطار نفسه و تعبر عن نفسها بتلقائية.
و يقال أن الشاعر جرير، على ما أذكر، كان يتمرغ، لحظة مداهمة المخاض الشعري الذي يؤذن بميلاد القصيدة له، يتمرغ في الرمل لبعض الوقت، بصورة لا شعورية، قبل إقباله على نظم القصيدة، و التي تتولد، عقبئذٍ، و هي في كامل عبقريتها الشعرية. كما كان الشاعر نزار قباني يقوم بتمزيق ما حوله من أوراق إلى قطع صغيرة عندما ينفعل بموضوع القصيدة و يصبح أسير إحساسه الغلاب ثم يتناول عقب ذلك ورقة و قلماً لينظم قصيدة تتجلى من خلالها عبقريته الشعرية.
و يعمل الشعر، بحكم تركيبته المختلفة عن النثر، على أسر القلوب و إستمالة الأفئدة كونه يعمل على ترطيب دواخل الإنسان و إنعاش روحه و التحليق به عالياً في فضاءات النشوة التي تنقله من الروتين القاتل الناشيء عن الحراك الحياتي الميكانيكي إلى فضاءات محتشدة بالإنشراح.
لقد إتجه الشعراء الرومانسيون في فرنسا في القرن التاسع عشر، عندما ضاقوا ذرعاً بالحياة المدنية التي رأوا أنها بدأت تنحو منحى مصطنع، إتجهوا للطبيعة رافعين شعار العودة للطبيعة back to nature?” بغية إستلهام مادتهم الشعرية منها، فألهمتهم أيما إلهام و وجدوا فيها أنفسهم كما تفاعلوا مع البيئة الطبيعية و أنغمسوا في مفرداتها البسيطة، العميقة في آن، ما أخرجهم من حالة السأم و الروتين الحياتي التي كانوا يعانون منها. و قد تبدى هذا التحول في أشعارهم بصورة جلية أفرزت أعمالاً شعرية خالدة.
[email][email protected][/email]