لا مساواة حتى في الموت؟ على هامش اعتداءات برلين الإرهابية؟

واسيني الأعرج
القدس العربي

الحياة عزيزة وغالية. وكل من سرقها هو بالضرورة مجرم، مهما كانت الأسباب الظالمة والمتخفية. الإرهاب واحد من أمراض العصر التي أصابت الجسد العربي والعالمي في الصميم، ودمرت ليس فقط النسيج الإنساني بين الأمم، ولكن أيضا داخل البشرية بعنف بحيث أصبح الحذر والشك هما عملة التواصل الوحيدة. وأصبحت حياة الإنسان لا تساوي الشيء الكثير في العمليات الإرهابية المتكرّرة. وكلما نسينا أو تناسينا الحالة، أعادتنا الأوضاع العالمية إلى نقطة البدء. تركيا. فرنسا.
وأخيرا ألمانيا التي كانت تبدو نسبيا بعيدة ومستقلة في رؤيتها، ولا تملك نفس التصورات الأوروبية في محاربة الإرهاب، أو استقبال المهجّرين السوريين وغيرهم. لكن المشكلة المعقدة ليست هنا، على الرغم من أولويتها في المعالجة، لأن ما حدث ويحدث للشعب السوري ليس حدثا طارئا، بل جريمة بكل المواصفات. والجريمة أينما كانت فهي ضد الإنسان، ويجب أن تدان بلا تردد ولا قفازات الحذر، لأن الإرهاب الذي استهين به كثيرا، وتم توطينه في أراضي الحروب والبؤس، ما دام يحدث هناك، في الزوايا المنسية ويسمح للدكتاتوريات بأن تستمر أكثر بحجة محاربة الإرهاب. أصبح اليوم يدق على ألأبواب الأوروبية للتذكير فقط بأنه مخترق للحدود، ولا قوة، كيفما كانت، يمكنها أن تقف في مسالكه المعقدة بالطرق التقليدية. فقد طور من وسائل القتل بسبب تدمير إمكاناته الحربية الكبرى، حتى أصبح من الصعب متابعته إلا بتغيير جوهري في استراتيجات الحرب ضد الإرهاب. ولو أن هذه الوضعيات المرتبكة تعني في الجوهر أن الإرهاب بأشكاله التقليدية في النزع الأخير من عمره، بعد أن حوصر من كل الجهات محليا وعالميا، وجففت منابعه المالية واللوجيستية.
جريمة نيس الإرهابية بينت بما لا يدع مجالا للشك، أن الإرهاب بصدد تطوير استراتيجة اليائس والمهزوم. أي تحويل الوسائل السلمية المعهودة، أو وسائل الاستعمال العادية، إلى قنابل قاتلة ووسائل تدميرية، ولا يهم في العملية إلاّ الصدى الإعلامي بغض النظر عن المقتول الذي لا يمثل شيئا في الحسابات الإرهابية إلا لحم المدافع والحروب. لم يكن نوبل يدري يوم سيطر على البارود والمتفجرات واستعملها كوسائل لسعادة الإنسان، وشق طرقات القطارت والسيارات في الجبال المستعصية، واختصر جهدا كبيرا على البشرية، أنه سيأتي من يحرف جهوده عن مساراتها الإنسانية ويحولها إلى وسائل للإبادة الجماعية للبشرية. فمنها اشتق الإنسان القنابل التقليدية والعنقودية وحتى النووية. استعمال الشاحنات لأغراض الجريمة لا يبتعد عن هذا التصور. عين الإرهاب تتوجه في زمننا الصعب، إلى تحويل العادي واليومي إلى مادة شديدة الخطورة وقاتلة. هناك تطوير للحيل، كما يتبدى في الدراسات الاستباقية التي تجعل من المادة المتفجرة الخطيرة، صعبة الاكتشاف، والحزام الناسف أقل سمكاً بحيث يتماهى مع القميص أو اللباس العادي.
حرب تكنولوجية حقيقية لها سدنتها وحراسها ومستفيدوها. تتخفى من رواء ذلك، مؤسسات ربحية كبيرة تجب محاربتها بقوة. واضح أن الإرهاب انتقل اليوم إلى الخيارات الفردية. ماذا لو كانت الشاحنة التي داست الناس، محملة بالبارود والسوائل الحارقة والمسامير القاتلة؟ الأكيد أن الفجيعة ستكون أكبر في نيس وبرلين. هذا كله ضروري فهمه لخلق منظومة دفاعية إنسانية لمحاربة إرهاب عابر للقارات. لكن الأمر القاسي هو عندما لا تتساوى أرواح الضحايا. أقرأ في الصحافة الغربية وأرى في مختلف القنوات الأوروبية، فلا ذكر الا للجرائم التي ارتكبت في برلين أو فرنسا أو لندن أوإسبانيا أو غيرها من الدول الأوروبية، ولا ذكر لأي بلد من العالم العربي الذي عانى الأمرين من آلة الإرهاب، هل لأن الأرواح البشرية في النهاية لا تتساوى؟ يبدو أن هناك العزيز منها، وهناك الأرواح الزائدة التي لا أحد يقيمها. نعرف اليوم جيدا المعاناة اليومية في العراق الذي فُكك وأنهك بالأعمال الإرهابية الأشد قسوة في الأسواق والأماكن العامة، حتى المنطقة الخضراء لم تنج من هذا التدمير المنظم.
وفي سوريا تفتح المقابر يوميا مساحاتها لاستقبال ضحايا العمليات الإرهابية، حيث وقع الشعب في كمّاشة لا مخرج منها إلا الاتفاقات المستحيلة بين النظام والمعارضة المتشظية والمتصارعة. الشيء نفسه ينطبق على مصر وتونس وليبيا والمغرب والجزائر واليمن وغيرها، حيث تحول الضحايا إلى مجرد أرقام متضاربة وليست أرواحا أزهقت ظلما.
قبل أن يزيحها خبر طارىء لعمل إرهابي جديد، وأرقام ضحايا آخرين . وكأن الأمر لا يمس بشراً أصبحوا مجرد أعداد تتخفى تحتها حيوات محيت أو دمرت نهائياً. إحساسان متناقضان ينتابان من يتابع هذه الوقائع والأحداث عن قرب: الإحساس بأن البشرية أمام ماكنة إرهابية غير رحيمة وشديدة الخطورة، تجب إدانتها بلا تردد، وبلا بحث عن مخارج لتفادي التورط. فهي أولا وأخيرا جريمة ضد الإنسان. الأحساس الثاني الذي لا يمكن تفاديه، هو الشعور بظلم داخلي كبير. عندما يتعلق الأمر بالضحية العربية أو المسلم، يدخل الإعلام الغربي في التعداد الرقمي وكأن عشرات الضحايا هم مجرد أشكال هلامية بلا هوية ولا ملامح، وفائض عن حسابات بشرية. سقط المتاع. مع أن الجريمة واحدة، والمجرم واحد، والضحية أيضا واحدة، تمس الإنسان والإنسانية في الصميم. العربي والمسلم العادي مثله مثل بقية البشر، لا يطلب أكثر من الرغبة في العيش بسلام مثل جميع الأقوام. على أوروبا أن تخرج من مركزيتها المتعالية، وتنظر لجرائم الإرهاب بشكل متساو، وأن لا تضع رأسها تحت الرمال، وتعيد النظر بشجاعة، في استراتيجياتها، وفي سياساتها السابقة التي لم تضر فقط بشعوبها الآمنة، ولكن بكل ساكنة الأرض بحجة أن ذلك لا يحدث إلا هناك. فالإرهاب يضرب حيث تتوافر لديه دعاية إعلامية ولا يهمه المقتول أكثر من الضرر البشري الذي يحدثه، بعد أن مارس كل أشكال العنف والتقتيل المجاني ضد بني جلدته قبل غيرهم. الصرامة الأمنية الألمانية مهمة، ودقتها في متابعة جريمة برلين مهمة أيضا، وهي تختلف عن بقية دول أوروبا. أنجيلا ميركل لا تبحث عن مشجب انتخابي، ولكنها تبحث عن مكمن الحقيقة، ذهبت وراء قناعاتها الإنسانية وهي تعرف أنها اخذت المسلك الأصعب سياسيا مما حولها إلى هدف لليمين المتطرف وبعض الحركات النيو نازية، وحتى الليبيرالية.
ألقت الشرطة القبض على شخص باكستاني شكّكت في أنه هو مرتكب الجريمة، لكنها بعد يوم واحد أطلقت سراحه إذ لم تجد أي شيء يحيل إليه. وغيّرت مسارات البحث بسرعة وبدأت تتقصى في الوثائق التي وجدتها في الشاحنة، أداة الجريمة حتى حددت هوية المعتدي الذي قتل في ميلانو وهو يحاول أن يعتدي على شرطيين. مع أنه كان بإمكان المؤسسة الأمنية الألمانية، استرضاء للضحايا ولليمين المتطرف، أن تبقي التهمة على الباكستاني حتى ولو كان بريئا.
أكثر من ذلك، فقد أشركت كل الأديان بما في الإسلام، في القداس الجنائزي الذي أقيم للضحايا للتخفيف من حدة الاحتقان ووضع الأديان فوق الصراعات السياسية. رفضت إلمانيا أن تسقط في اللعبة الاتهامية الجاهزة للإسلام، بدل الإرهابيين الإسلاميين. ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي استقبلت الملايين من اللاجئين ولم تدخل في حسابات الكوتا التي اختارتها بقية الدول الأوروبية التي استيقظت فجأة ويتسع نحيبها بعد سقوط حلب مع أنه كان بإمكانها استباق النهايات المأسوية .في كل مرة تعطي ألمانيا درسا حقيقيا في مفهوم ثبات الدولة وخياراتها الإنسانية والاستراتيجية .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..