أهم الأخبار والمقالات

مساعٍ لإنقاذ السودان

عمود: محور اللقيا

د. عمر بادي

لي مقالة كنت قد كتبتها بتاريخ 20/08/2012 بإسم ( الخروج لإنقاذ السودان من نظام الإنقاذ ) و نشرتها في الصحف و المواقع السودانية الإلكترونية و هي في مجملها تعكس الواقع السوداني المعاش حاليا و سوف تندهشون حين ترون ذلك التشابه البائن و لكن حتما مع إضافة بعض المستجدات الطفيفة التي سوف أوردها في نهاية المقالة ..
السودان يمر بمنعطف خطير جدا , و ليس هذا كلاما إنشائيا جزافا , بل هو حقيقة لا بد لنا من الوقوف عندها . الخطورة هذه المرة تتبدى في الوضع الإقتصادي المتردي الذي وصل سيله الزبى و أودى بصبر المواطن العادي إلى مشارف نقطة اللاتحمل بعد إجازة قرار رفع الدعم عن المحروقات و زيادة الضرائب المباشرة و غير المباشرة في ظل الأسعار التي ظلت في تزايد مستمر . إنه وضع يجسد مقولة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري : ( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه )!

حكومة الإنقاذ قد أخطأت خطأً جسيماً في حساباتها و في عدم مخافة الله في رعاياها , و عليها أن تتحمل نتيجة و تبعات أخطائها . لقد إتضحت جليا عمليات الخداع التي إنتهجتها حكومة الإنقاذ منذ ما قبل إنفصال الجنوب , في سبيل طمأنة المواطنين من أن الوضع الإقتصادي لن يتأثر بعملية الإنفصال , حتى تمتص بذلك الغضبة الشعبية المرتقبة من إنفصال جزءٍ عزيزٍ من أرض المليون ميل مربع . لكن منذ بداية العام الحالي تكشفت حقيقة العجز المالي الذي تعانيه الحكومة و الذي إزداد إستفحالا بعد حرب هجليج , و لم تعد الزيادات المتدرجة و غير المعلنة للأسعار تجدي بعد أن صار العجز ستة مليارات من الجنيهات و صار لا بد من مضاعفة الأسعار!

خوفا من ردة الفعل الجماهيرية من زيادة الأسعار سعت الحكومة إلى طرح برنامجها التقشفي الذي سوف يؤدي إلى تقليص وظائف الدستوريين الذين يعادل عددهم الخمسمائة و سبعين دستوريا إلى النصف تقريبا و تقليص مخصصاتهم البذخية و التي تشمل عددا من البدلات و الإمتيازات لكل دستوري , و هذا في نفسه إعتراف ضمني من أن عائد أموال البترول قد سيء إستعمالها و أن الفساد قد ضرب بأطنابه , و لذلك فقد تضمن خطاب السيد رئيس الجمهورية قرارا بإشراف ديوان المراجع العام على مراجعة كل الوزارات و المؤسسات الحكومية دون إستثناء , مع ذكر أن بعض الأموال المنهوبة قد تم إرجاعها . هل هذا إعتراف متأخر بوجود و تفشي ظاهرة الفساد بين مسؤولي الدولة ؟ هذا البرنامج التقشفي لن يعجب الدستوريين الذين شغلوا مناصبهم من أجل المخصصات الممنوحة لهم و قد بدأ هذا يتجلى في طرحهم إلى حلول أخرى لا تمس مخصصاتهم , مما يؤكد مزاعم المراقبين من أن أمر التقشف لن ينفذ كما قد قرر له و إنما هو إجراء لتهدئة الأوضاع حتى تنقشع الغمة الحالية.

الإقتصاد و السياسة وجهان لعملة واحدة و كل منهما يؤثر في الآخر تأثيرا مباشرا . لذلك و إن كانت المظاهرات الأخيرة تبدو إقتصادية الأسباب , فإن تراكمات سياسة حكومة الإنقاذ الإقصائية و العازلة و المضيقة على قطاعات كبيرة من الشعب تظل هي المحفز للمنتفضين كي يخرجوا إلى الشوارع معبرين عن سخطهم من تردي الأحوال إلى الدرك السحيق.

في لقاء مع بعض الصحفيين في قناة البي بي سي العربية من عاصمة الضباب لندن سالت مقدمة البرنامج الصحفيين الضيوف عن مدى تغطية صحفهم التي تصدر من لندن لأخبار الإحتجاجات و التظاهرات التي تجتاح الخرطوم هذه الأيام , و كانت إجاباتهم تتفاوت بين أن بعض الصحف كالحياة و القبس قد كتبتا عن هذه الأحداث و أن صحفا أخرى لم تكتب لأن تلك التظاهرات لا زالت محدودة و متفرقة و أنها غير ملفتة للإعلام مقارنة بما يحدث في سوريا التي يعادل عدد ضحايا تظاهراتها في اليوم الواحد كل عدد المشاركين في تظاهرات السودان ! رغم شعوري بالضعة من هذا الكلام , إلا أنه يظل الحقيقة المرة , و التي لا بد لنا من دراسة مسبباتها و كيفية تجاوزها . إن التجمع في الإحتجاجات عندنا يحدث عفويا نتيجة للفوران الداخلي للناس بعد أن ضاق بهم الكيل من تردي الأحوال المعيشية و من سياسات التضييق , و لذلك تتحول تلك الإحتجاجات إلى مظاهرات محدودة العدد و موزعة في مناطق مختلفة من العاصمة المثلثة.

بحكم كوني كاتبا صحافيا غير محترف و لي مقالة أسبوعية راتبة أكتبها و أواظب عليها, فقد شغلت نفسي بقضايا السودان السياسية و إنعكاساتها الإقتصادية و الإجتماعية , و أمعنت النظر في كيفية العبور بالسودان من خلال عنق الزجاجة الذي وضعه فيه نظام الإنقاذ , و عند حلول ربيع الثورات العربية على الأنظمة الشمولية التي تشابه نظام الإنقاذ عندنا , كتبت مقالات عدة عن كيفية التعامل مع هذا الأمر , أورد منها ما يلي:

1 – كتبت عن الشباب الذي أعتبره كتيبة الصدام الأولى من أجل التغيير بعد أن ظلوا يخرجون في مظاهراتهم الإحتجاجية منذ يومي 30 يناير و 3 فبراير 2011 و لكنهم جوبهوا بأساليب للقمع و الإعتقال في غاية الشدة جعلتهم يشعرون باليتم في مجتمع لم يتجاوب مع دعواتهم لتكثيف التظاهرات , و دعوتهم في منظماتهم الشبابية ( قرفنا و كفاية و شباب من أجل التغيير و أحرار السودان ) أن ينظموا أنفسهم أكثر و يستفيدوا من أخطاء الماضي و يسعوا لتوحيد قوى الإنتفاضة عن طريق ما لديهم من وسائل للإتصال.

2 – كتبت عن النقابات الوطنية و إعتبرتها كتيبة الصدام المفقودة , و كيف كان دورها القديم عظيما في تحريك الفئات و القطاعات المهنية و الإدارية و لكنها فقدته بعد أن تم حلها و إستبدالها بمسخٍ موالٍ للسلطة الحاكمة.

3 – كتبت عن الضعف البائن في أحزاب المعارضة و عدم إجتماعها على قلب رجل واحد , و عند إتفاقها على الخروج للتظاهر يأتي بعض قادتها دون قواعدها و يكتبون ( حضرنا و لم نجدكم ).

4 – كتبت عن تقاعس و تراخي المواطنين عن التحرك و التصادم , رغم انهم كانوا المفجرين للثورات الوطنية في العقود الماضية , و تساءلت عن السبب و رددته إلى إصابتهم بالإحباط المركب بسبب القهر و الإفقار و الإذلال الذي مارسته عليهم سلطة الإنقاذ , و أن الإحباط المركب يقود إلى عدم الرغبة في عمل أي شيء , و عندما يصل الإنسان إلى مرحلة عدم التفاعل مع ما يحدث في مجتمعه يكون لامباليا , و هذه اللامبالاة تقوده إلى عدم الإكتراث لما يحدث لأسرته داخل بيته ناهيك لما يحدث داخل الوطن! عندما يصل الناس إلى هذه المرحلة من الإحباط فإنهم يحتاجون لمن يهزهم و يفيقهم و يعيدهم من تلك الحالة التي تشبه ( كتابة السحرة ).

5 – كتبت و أسديت النصح لحكومة الإنقاذ بأن تتصالح مع الشعب و أحزاب المعارضة و تعود إلى النهج الديموقراطي السليم حتى تجنب البلاد ويلات الإحتراب و التنازع, وحتى تنجو بنفسها من المصير الذي آلت إليه الأنظمة في تونس و مصر و ليبيا . إن الإصلاحات التي سوف تمهد لضم السودان إلى أقطار الربيع العربي تكون في إلغاء القوانين المقيدة للحريات و في إشاعة الحريات العامة كحرية الرأي و التعبير و حرية الصحافة و حرية الإعلام و حرية العقيدة و حرية التنظيم و حرية القضاء و الفرز بين السلطات الثلاث و محاربة الثراء الحرام و إنهاء الإحالات للصالح العام و إعادة المتضريين من ذلك و أنهاء سياسات التمكين و إعادة النظر في من قفزوا إلى إعلى السلم الوظيفي و الشروع في التحول الديموقراطي الحق عن طريق تداول السلطة بالإقتراع الحر و النزيه و الشفاف و بالعودة إلى دولة المواطنة و الحكم المدني.

6 – كتبت و ضربت أمثلة عن رؤساء يقتدى بهم في نهج التحول بالحكم الإنقلابي العسكري إلى حكم ديموقراطي مدني , كونوا فيه أحزابهم و رشحوا أنفسهم و فازوا و عادوا ثانية رؤساء و لكن بدون أزياء عسكرية , كما حدث لشافيز في فنزويلا و أوباسانجو في نيجريا و أورتيقا في نيكاراغوا و محمد ولد عبد العزيز في موريتانيا , و تمنيت أن يتم هذا النهج عندنا.

7 – كتبت عن الدعايات التي يبثها إعلام الدولة الموجه , من أن كل الأحزاب قد تم تجريبها و لم تنجح في الحكم و بذلك لا يوجد من يصلح أن يكون بديلا . إن البديل المرتجى هو نظام للحكم و ليس فردا بعينه , و أن نظام الحكم المراد هو نظام تداول السلطة عن طريق الإنتخاب الديموقراطي الحر لفترة محددة من السنين , و من يأتي به الناخبون يكون هو البديل.

8 – كتبت عن السلطة الإنقاذية و أسميتها ( السلطنة الإنقاذية ) و ذلك لتشابه أسلوبها في الحكم منذ إستيلائها على السلطة عنوة بأساليب السلطنات في القرون الماضية التي كانت تدعي أنها تحكم بأمر الله و لكنها إستغلت الدين لصالحها و أهانت شعبها و نكلت به بموجب ( فرمانات ) سلاطينها القراقوشية.

9 – كتبت عن مقولة أن قيام الإنتفاضة سوف يقود إلى صوملة السودان و تفتيته إلى دويلات , و ذكرت أن الصوملة لم تحدث في كل الدول العربية التي زارها الربيع العربي , و أن السودان سوف تصيبه الصوملة مع هيمنة و تعنت نظام الإنقاذ القائم و ها هو الجنوب قد إنفصل و البقية تأتي , و أنني لم أسمع من حركات دارفور أو من الحركة الشعبية قطاع الشمال أنهم ينوون الإنفصال بأي إقليم في الوقت الراهن لكنهم أحيانا يضعونه إحتمالا في حالة لم تترك لهم حكومة الإنقاذ خيارا آخر.

10 – كتبت عن خطط نظام الإنقاذ لشق أحزاب المعارضة عن طريق الإغراءات المالية و المنصبية , في منحى منه لإضعاف تلك الأحزاب التي أنهكتها الإعتقالات و العزل السياسي و الإعلامي و العوز المالي , و أن الذين إنشقوا و ركبوا موجة التوالي من أحزاب المعارضة حتى لو بصفتهم الشخصية فسوف يكون مصيرهم كمصير إبن نوح عليه السلام!

هذا ما كان لي من مجاهدات لسبر غور إشكالية التغيير السياسي في السودان . الآن إتضح الأمر و ظهر جليا أن سبب خيبة الخروج الماضية تعود إلى محركات الشارع الرئيسية من قيادات أحزاب المعارضة التي ظل قلبها مع التغيير و سيفها مع حكومة الإنقاذ . هذه المرة أضحى الوضع مختلفا جدا . دعونا نستلهم نجاح الثورتين الشعبيتين في أكتوبر 1964 و ابريل 1985 و الذي كان في تضامن الطلاب و النقابيين و جماهير الأحزاب و تنظيمهم للعمل التظاهري و هذا ما تم أيضا في ثورات الربيع العربي , و أن لا يترك أمر التظاهرات للإرتجالية . المطلوب من تحالف قوى الإجماع الوطني بعد إلتقائه مع تجمع كاودا للقوى الثورية أن يتم التنسيق بين منظمات الشباب و إتحادات الطلاب و منظمات المجتمع المدني و نقابات الظل و عضوية الأحزاب و الحركات الثورية في إخراج المسيرات و تنظيم الشعارات و الواجهات . إنني أتمنى أن يتمخض جبل أحزاب المعارضة هذه المرة و يلد صقرا لا فأرا , حتى يكون صقر جديان لنا.

إلى هنا إنتهت مقالتي القديمة التي نقلتها لكم و التي تؤكد مساعي الحثيثة لإيجاد حلول للمشكل السوداني , فمقالتي القديمة تلك قد شارفت السبع سنوات منذ كتبتها و لكنها تبدو كبنت اليوم مع إضافة ما عرا الساحة من مستجدات كظهور تجمع المهنيين و قيادته للحراك الجماهيري بعد تحالفه مع قوى نداء السودان و قوى الإجماع الوطني و الإتحاديين و آخرين تحت مظلة إعلان الحرية و التغيير.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..