أخبار السودان

كرومة: هو السادس من أبريل

صلاح شعيب

ما نزال نحن أبناء، وبنات، عبد الكريم عبدالله مختار الذي دخل مفاصلنا، وسكن فيها، وتوجد ذهننا بوقع نغمه الآسر. ولا أبوة وطنية رمزية لنا خلافه. داخل كل سوداني – إلا من أبى – يقيم في وجدانه، ويجلس القرفصاء كرومة. فالفتى الوسيم، والأنيق، يصغر في ذوقنا النغمي ثم يكبر بمقدار قربنا من حسه الفني. لم يمت صانع وجداننا السوداني، وباني نهضة توحدنا، وحليفنا في الترويح الثوري، والعاطفي. ولكنه – في الحقيقة – يذهب كل مرة معنا إلى القبر لا محالة ثم يعود – بناء على أسطورة بعض التدين الآسيوي – فينتثر لدى أرواح سودانية جديدة.
فهو إذن ثورتنا الأولى، وإباونا الذي صنع قوة شكيمتنا عند حدود منازلة الفرد الصمدي. بل هو مهادنا الوطني. وأراه الآن يقظا بيننا بإيقاعاته الثورة، وبانغامه الرفض، وبجلال كاريزماه التي شغلت العشرينيات، والثلاثينات، من القرن الماضي. “أرح مارقة” هي روح كرومة ونفسه، وأشغال عاطف أنيس هي المآب إليه، وحتى أنغام بت قمر الدين الرمزية تقمصته. ولن تخرج روح عبد الكريم عنا إلا لتحل من جديد بمقدار شغفها بالأرض البكر. والذين حاولوا الخروج بأنصاف، وأرباع التون، عادوا إلى أبوة كرومة بجلبابه العاطفي الحنون. ولن يستطيعوا قتل المؤلف، وإنما يتناصون معه، ويعيدون إنتاجه. وعز أن يبرحوا سجادة وهجه المبدع. أما الذين لا يعرفون كرومة، ولا يحسون روحه التي نثرها في مغنانا العاطفي، والثوري، هم الذين ضلوا سبيلا، وذلك بعد أن تكبدوا مشاق الانتحار النفسي.
فكرومة لاعب الهلال، أيضا، كان رجل مروءة، ورجولة، وشموخ، وهندام، وثورة، ويهابه المشاغبون حول “السباته”، وضربات الروسية التي يجيدها كانت تمنع كل من تجاوز التأدب بالسمع الملي لصوته الغرويد ساعتئذ. والآن..التي لا تعرف كرومة بهذه الشخصية السودانوية القحة لا تعرف ملاكا من عيون عسل نغم السوادنة، هؤلاء الذين كشروا عن أنيابهم الآن، وفتحوا صدورهم لزخات رصاص الذين ما تأدبوا بحس كرومة، ولذلك جف فؤادهم، وتخشبت روحهم بأيديولوجيا الضد.
-٢-
إن لم يعرفوا عليهم أن يعرفوا أن كل وجدان هذا السودان الحديث ليس إلا كرومة. فالنغم الذي وحد الهم القومي كان من أعمال مخياله النطاق بالموتيفا الموحية. وهو واسطة العقد الذي تمثله الفنانون، والتزموا بإطاره النغمي. وغناونا الذي وضع لبنته الأولى كرومة، واستمر طوال القرن الذي مر، رهف سمع السودانيين، وآلفهم على جودي من حب معاني الوطنية، وكره الاوليغاركية بأشكالها كافة. لا شئ غير غناء كرومة وحد أفئدة السودانيين. وما تزال هناك مساحات وريفة ليبذرها فنانو الأطراف لإثبات قدرتهم لمنافسة نهج كرومة الخماسي. قد يتميزون بالإيقاع، والسداسي، والسباعي، ولكنهم لن يبرحوا بنائية نصه اللحني.
يقول الباحث محمد حسن الجقر: “حكى لى عمنا الشاعر عمر البنا فقال إن كرومة كان يغنى فى إحدى الحفلات بود نوباوى، وكان المنزل الذي يقيم فيه الحفل بالقرب من مسجد الشيخ قريب الله الذى أرسل طالباً وقال «نادو لى الشخص البغنى دا لو تكرمتو» وأرسل فى طلبه..خاف كرومة، وعمر البنا، عندما علما أن الشيخ أرسل فى طلبهما، وقال له عمر البنا: أهل الله لا يخاف منهم، وذهبنا لمقابلته. وقيل للشيخ لقد أتى المنشدون وفضلنا وأكرمنا. وقال الشيخ قريب الله لكرومة: هلا أسمعتنا ما كنت تنشده من كلمات طيبة عن الليل. وبدأ يقول:
ياليل أبقى لي شاهد على نار شوقى وجنونى
يا ليل صار ليك معاهد طرفي اللي منامي زاهد
دن لي سهر وأشاهد فوق لي نجمك ظنوني
يا جميل لي سهري واجد وأراك نايم وهاجد
مين لي عيني ناجد بي دموعي الفرقوني
لا تكون بالنظرة جاحد حلمك في المية واحد
منك لي ربي شاهد بين ايدك يا حنوني
ثم نهض معه عمر البنا ليقوم بمهمة الشيال «الكورس» وعندما ارتفع صوت كرومة راح الشيخ يهتز ويرتفع صوته فى صيحة من تملكه نشوة الليل، ليل الصوفى العابد صاح الله، ويسمع كل من فى الحجرة صيحة الشيخ «الله» وقد انكفأ على «التبروقة» مغشياً عليه..”
-٣-
الشاذون منا يستنكفون الاسترقاق للغناء. ولكن سرادق الصوفيين أمثال قريب الله يسافرون مع نغم كرومة وصولا إلى الله. إذن هم الذين لم يسمعوا كرومة، أو يروا روحه منثورة في عثمان حسين، وبرعي، وبن البادية، وعركي، إلى آخر صوت حديث، ولذلك تشتر حسهم، ولم ينضبط وقع خطاهم في مسار الوطنية. وفي أبريل السادس تتم منازلتهم بصمود، وجسارة، لينتصروا في هذا اليوم: أبناء، وبنات، كرومة الذين يغنون بألحان ثورية هي من نفث وجده، وهيامه، ويرزمون بإيقاعات أقرب إلى شدوه، وبأداء يكتسب خصوصيته بيد أن به شيئا من أداء كرومة.
ولكن كيف ترون كرومة الختمي المذهب يا أيها الثوار؟ سترونه في نغمكم الخماسي، وهتافاتكم المموسقة، وأهازيجكم التي تروحون بها حين لا تداهمكم “عربة الكجر التي جفلت الحمار”. فهو كان قد صاغ قالب أغنيتنا بهذا الإطار النغمي، وما من شخص قبله فعل ذلك، وأنى له، ثم اقتفى المغنون أثره. هو البايونير الذي بفعله التبديعي كان محط المخيال لانطلاق عمل الفنانين لدعم السودان الحديث.
ما قبله كان غناونا شتاتا من أساليب متعددة. ولكن ما أتى به كرومة كان نغما سودانويا ذاع، وانتشر، وعبر تماما عن وجدان إنسان الشمال والوسط والغرب والجنوب والشرق. ولذلك وجدت أغنية كرومة بتنويعات أنغام الأجيال قبولا في كل مكان. وهذا الغناء الثوري كله منذ عازة الخليل، والملحمة، وفتاة الغد، وأعز مكان، وأمة الأمجاد، وما عشقتك لجمالك، وبلادي أنا، وأذن الأذان، ويا مطر..، وجددناكا يا إكتوبر في ألريل، مرورا بكل التجارب التي أعقبتها، لم تجد إطارا للتأليف إلا اعتمدت إطار كرومة.
الأكثر من ذلك أن أغنية كرومة، ولأنها أتت من نغم وإيقاع أفريقيين، لامست شغاف الجوار فانتشرت في الحزام السوداني، والقرن الأفريقي الذي فيه يجد غناؤنا الاحترام الذي نحن جديرون به.
هيا، تلصصوا السمع لهتافات الثوار في يوم السادس من أبريل المقبل لتتأكدوا من أن هتافاتهم منسوجة على إطار كرومة النغمي. سوف لن تجدونهم يستعيضون نهجا هتافيا آخر وقع ضرباته خارج رزيم كرومة. إن كرومة روح تتلبس الثوار من حيث يدري الفتى، أو لا تدري الفتاة. لن يجدوا نغمة سباعية تدفعهم للتضام، وسد الفرقة، وشحذ الثبات. ولكن سيجدون نغمة كرومة شجية، وآسرة، ولذيذة، وشاحذة للهمم. هكذا قادنا الإسكافي نحو مشيئته النغمية الأبدية. بيد أن الأهم في الأمر هو أن كرومة كان مهنيا بدرجة في كل ما أبدع.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..