أسوأ ثمانية أيام في تاريخ السودان: – (22 إلى 29 يوليو1971م)

بكري الصائغ
١-
في غمرة الاحداث الكثيرة الهامة والبالغة الخطورة التي حفلت بها البلاد خلال الايام القليلة الماضية في هذا الشهر يوليو ٢٠١٩، والتي بلغت ذروتها بخبرنشر في صحيفة “الراكوبة” اليوم الاربعاء ٢٤/ يوليو، وجاء تحت عنوان (حملة اعتقالات وسط ضباط القوات المسحلة وأنباء عن محاولة انقلابية)، مرت الذكري الثامنة والاربعين علي الاعدامات التي تمت في معسكر “الشجرة ” وبسجن كوبر عام ١٩٧١، مرت الذكري بهدوء تام بلا اجترار ذكريات قديمة عن الحدث الجلل، او مقالات من الصحفيين، بل ولا حتي كلمات من أهل الضحايا!!
٢-
هذا المقال اليوم مقصود به احياء ذكري الضباط والمدنيين الذين اعدموا بعد فشل محاولة الانقلاب في شهر يوليو، وايضآ تعريف ابناء وبنات الجيل الجديد -(الذي لم يعاصر هذة الاحداث، ولم يدرسها في المدارس والجامعات) بهذه الاحداث التي وقعت في الفترة من يوم الاثنين١٩/يوليو، وانتهت باخر الاعدامات في سجن كوبر يوم الاربعاء ٢٨ منه.
٣-
بداية الاحداث:
(أ)-
وقعت محاولة انقلاب الرائد/ هاشم العطا، في تمام الساعة الثانية ظهرا يوم الاثنين الموافق ١٩ / يوليو عام ١٩٧١، وكان واضحاً منذ البداية أن الانقلاب استهدف بصورة واضحة الرئيس جعفر النميري ، ففي بيان الانقلاب قال الرائد هاشم العطا أن الانقلاب يمثل العودة إلى مبادئ ثورة مايو ١٩٦٩ التي أوصلت نميري إلى السلطة، وأن نميري قد تخلى عن تلك المبادئ وقام بتأسيس جمهوريةٍ رئاسيةٍ دكتاتوريةٍ، وذكر أن مجلس قيادة الثورة الجديد سيكون ممثلاً للإرادة الشعبية وأنه سيتم إعطاء الحكم الذاتي للجنوب، تم اعتقال البكباشي/ جعفر النميري في بيت الضيافة الملحق بقصر الجمهوري.
(ب)-
وحسبما ورد في الوثائق البريطانية فقد تم استخدام وصف ودي للإشارة إلى “الاتحاد السوفييتي العظيم”، وبعد البيان تم علي الفور تشكيل (مجلس قيادة الثورة )على النحو التالي:
المقدم/ بابكر النور رئيساً، والرائد/ هاشم العطا نائباً للرئيس، وعضوية المقدم/ محمد احمد الشيخ الريّح، والرائد/ فاروق عثمان حمدالله، والرائد/ محمد محجوب عثمان، والرائد/ محمد أحمد الزين، والنقيب معاوية عبدالحي.
٣-
علي الفورأصدر المجلس العسكري الجديد أوامر بإلغاء الآتي:
أولا: الأوامر العسكرية الجمهورية.
ثانيا: جهاز الامن القومي.
ثالثا: الاتحاد الاشتراكي السوداني.
رابعا: الحرس الوطني.
وأسس الآتي:
أولا: الجبهة الديمقراطية الوطنية (مكان الاتحاد الاشتراكي).
ثانيا: منظمات التحالف الديمقراطي (فيها نقابات العمال الموالية للشيوعيين).
٤-
جاء يوم الخميس ٢٢/ يوليو والحياة تسير سيرها الطبيعي، وانهمرت البرقيات من كل مكان تؤيد وتبارك وتدعم النظام الجديد, وكانت الاذاعة منذ الصباح الباكر تطلب من الجماهير الخروج في موكب العاشرة لمساندة الوضع الجديد.
٥-
وفجأة.. تدافعت الاحداث بسرعة وتلاحقت بصورة لا يكاد يصدقها العقل.. ففي الوقت الذي كان يتهيأ فيه قادة الثورة لمقابلة المسيرة ومخاطبتها ومقابلة رئيس مجلس قيادة الثورة الجديد ورفيقه القادمين من لندن.. إذا بالانباء تحمل خبراً كان له وقع الصاعقة على اعضاء المجلس الجديد.. فقد قامت طائرات ليبية باعتراض الطائرة البريطانية (Vc10) في رحلتها رقم (45) المتجهة الى الخرطوم واجبرتها على الهبوط في مطار طرابلس واعتقال قائد الثورة الجديد ورفيقه….أمر الرئيس معمر القذافي اختطاف، طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي كانت تقل كل من المقدم بابكر النور سوار الدهب، والرائد فاروق عثمان حمدالله ، عند سفرهما من لندن في طريقهما إلى الخرطوم، كقيادات جديدة، للنظام الذي أطاح بحكومة النميري، في إنقلاب ١٩ يوليو عام ١٩٧١، ذلك الاختطاف ، الذي أدى إلى تسليم القذافي، كل من بابكر وفاروق إلى النميري، العائد إلى السلطة كالمسعور، بعد إجهاض الانقلاب، ليبعث بهما إلى دروة الاعدام!!
٦-
في يوم ٢٠ يوليو من نفس وقع الحدث الاتي:
(ارسلت القيادة العراقية برقية تأييد أيدت فيها رغبتها في دعم الحركة الإنقلابية في الخرطوم، وبناءاً على ذلك أقلعت طائرتان تحملان اسلحة واطقم دبابات بالإضافة إلى ان احدى الطائرات كانت تحمل عضو القيادة القومية لحزب البعث محمد سليمان عبدالله التعايشي وطلبت السلطات العراقية السماح للطائرات بالهبوط في مطار الخرطوم الذي كان مغلقاً أمام الملاحة الجوية .. ووافقت الخرطوم على هبوط الطائرتين .. أقلعت الطائرات من بغداد في طريقها إلى الخرطوم، غير أن احدى الطائرات قد سقطت بالقرب من مدينة جدة .. بالمملكة العربية السعودية مما أرغم الطائرة الثاينة إلى العودة إلى بغداد .. وعزا التقرير الذي أصدرته لجنة
التحقيق العراقية سقوط الطائرة إلى سوء تقدير من كابتن الطائرة وليس
لأسباب فنية!!.).
٧-
بداية الايام السوداء –
الخميس ٢٢/يوليو/ ١٩٧١:
(أ)-
نسبة لغموض الاحداث وقتها انطلقت الشائعات في كل مكان.. واصبح الموقف في الخرطوم غامضاً ويسوده خوف وقلق وارتباك.. وبدأت تتحرك بعض العناصر العسكرية الموالية لنميري المعتقل داخل الغرف الارضية للقصر الجمهوري.. وصلت بعض الدبابات ماركة (T55) من منطقة (الشجرة) حيث رئاسة سلاح المدرعات ، واحاطت بالقصر من ناحية الجنوب وناحية الغرب ، في هذا الاثناء حدثت مجزرة وهو ما عرف فيما بعد باسم (مجزرة بيت الضيافة) والتي راح ضحيتها عدد كبير من الضباط (اختلفت الروايات بين 25 و39) ضابطاً وضابط صف.. ذلك بان هناك بعض الاشخاص قتلوا في سلاح المدرعات وجئ بجثثهم للمشرحة فاختلطت بجثث بيت الضيافة.
(ب)-
بعد حصار المدرعات التابعة لنميري ومن بعدها مجزرة (بيت الضيافة) حدثت اشياء اقرب الى الخيال.. فقد استطاع نميري بمساعدة احد الضباط الموالين له ان يخرج من معتقله ويقفز حائط القصر ويخرج الى الشارع ويتحول الموقف ٣٦٠ درجة في الاتجاه المعاكس.. وخلال ساعات قليلة استطاع نميري ان يستعيد السلطة مرة اخرى وبصورة اقوى واشرس واعنف. وفي اليوم التالي الجمعة ٢٣ يوليو تم دفن شهداء (بيت الضيافة).
٨-
وفي ذات اليوم بعد فشل الانقلاب بدأت (محاكمات الشجرة)…وكان يشرف علىها العقيد/ احمد محمد الحسن بحضور نميري وابو القاسم وخالد حسن عباس (الذي توفي شقيقه ضمن ضباط بيت الضيافة).. كانت المحاكمات ايجازية وسريعة وتتسم بالانفعال الزائد.. وبسرعة شديدة تقرر اعدام القادة العسكريين الثلاثة (بابكر النور، وهاشم العطا، وفاروق حمد الله).
٩-
يقول العميد (م) عبد الرحمن حسن عبد الحفيظ في احدى افاداته:
(ان المحاكمات التي تمت في يوليو 1971م كانت تتصف بالتسرع الذي ما كان له ان يحدث.. فكثير من الاتهامات لم تكن ترتقي للاعدام كالمغفور له المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله.. فقد ارتبطت اسماؤهما بقيادة الانقلاب وهما خارج الوطن.. ولا يمكن ان تحاكمهما مثل من دبّر الانقلاب ونفذه.).
١٠-
الاعدامات
اولآ/ اعدام الرائد/ هاشم العطا:
(أ)-
في غرفة قرقول سلاح المدرعات قضى هاشم العطا الساعات الاولى من اعتقاله موثوق اليدين ، مستلقيا على ظهره ، كان رغم الارهاق هادئآ في كل تصرفاته، ثابت الاعصاب، باسم كعادته، وعندما حنت منه التفاته الى بعض الضباط المعتقلين ، بعد لحظات دخل الي الغرفة الملازم كمال سعيد صبرة، الذي بدأ يستفز هاشم العطا بصورة وقحة غير لائقة، نظر اليه هاشم في سخرية واستخفا، اغتاظ الملازم كمال من تجاهل هاشم له فبادر بسحق نظارة هاشم التي كانت ملقاة على الارض الي جانبه وحطمها بحذاءه.
(ب)-
– حاول النميري في مكتبه بمعسكر “الشجرة” ان يبدأ التحقيق مع هاشم العطا وجهآ لوجه، رفض هاشم رفضآ باتآ اجراء اي لقاء مع النميري، واعلن في اصرار شديد انه لن يدلي باي اقوال الا في محاكمة علنية، قال هاشم العطا بكل وضوح انه يرفض مقابلة مع اي مسؤول في المعسكر (لانكم ستشوهون اقوالي وتحرفوها) . واضاف:( انا اتحمل كل المسؤولية وليست لديكم حجة في محاكمة الضباط والجنود والصف).
(ج)-
اقتيد هاشم قسرآ وهو مقيد الي مكتب النميري الذي كان في حالة هياج أثناء اللقاء بينهما وكان يتكلم بصوت عالي اشبه بالصراخ، قال احد كبار الضباط الذي حضر اللقاء، أن النميري ما ترك كلمة بذيئة في قاموس الشتائم الا وجهها الي هاشم العطا، كانت مفاجأة شديدة لم يتوقعها النميري عندما قاطعه هاشم العطا بحدة وقال له: (لست نادما على ما قمت به، وان كان لي ان اندم فلانني اعتقلتك ثلاثة ايام وعاملتك معاملة كريمة).. هنا بلغت حالة الهياج حدآ جعلت النميري يقفز من مقعده في محاولة للاعتداء بالضرب، لكن في عجالة سريعة تم سحب هاشم العطا من المكتب الي غرفة اخري.
(د)-
كان هاشم خلال الساعات الطويلة التي قضاها قبل اعدمه يردد مقطعا من نشيد صلاح بشرى ويضيف الى المقطع: (جاءكم هاشم فاعدوا المقصلة)، الضباط والجنود المعتقليين معه رددوا المقطع من خلفه، زجر هاشم بصوت عالي كل الضباط والجنود الذين حاولوا الاعتداء عليه، وكان مهاباً شجاعاً وهو في قبضتهم.
(هـ)-
– بدرت من هاشم العطا ضحكة تلقائية وهو في طريقه الى ساحة الاعدام، اغتاظ احد الجنود من الضحكة وعلق: (وتضحك كمان؟!!)، فضحك هاشم ضحكة عالية وقال له :(يا ابني الميت مايبكي)، اتجهوا بهاشم نحو (دروة المورس) لتنفيذ حكم الاعدام رميآ بالرصاص، كانوا الجنود في حالة من الفزع والاضطراب، لم ينتظروا وصوله للدروة ، بل عاجلوه من الخلف باطلاق 800 طلقة على ظهره حتى انفصل نصفه الاعلى قبل ان يسقط على الارض، وظلوا يطلقون الرصاص علي جثمانه حتى بعد استشهاده ، واصلوا اطلاق الرصاص على جثته حتى افرغوا الاربعة صناديق من (الجبخانة).
ثانياً:
إعدام الرائد/ بابكر النور:
(أ)-
في البداية تمت محاكمة بابكر النور برئاسة العميد تاج السر المقبول، اصدرت المحكمة العسكرية قرارها بالسجن اثني عشر عاما، ورفض النميري قرار المحكمة العسكرية، ارجع الاوراق الي المحكمة العسكرية ، اعيدت مرة اخري المحاكمة وصدر قرار الحكم بالسجن 30 عاما، رفض النميري قبول قرار المحكمة للمرة الثانية، وعندما وجه النميري اعادة المحاكمة للمرة الثالثة، رفض العميد تاج السر ان يتراس المحكمة، – وكنوع من الاحتجاج ايضآ- رفضوا كل الضباط الكبار الذين كلفوا برئاسة المحكمة العسكريةالاستمرار في عملهم كقضاة على اعتبار ان نميري يريد قسرآ فرض حكم الاعدام، علق احد الضباط بغضب عن حالة بابكر النور:(دا كان عضو في مجلس “الضباط الاحرار” تحاكموه كدة؟!!)، اتصل النميري بالمقدم صلاح عبد العال تلفونيا وكلفه برئاسة المحكمة العسكرية، حضر صلاح وتسلم اوراق المحكمة، وفي نفس اليوم صدر قرار حكم الاعدام بابكر النور رميآ بالرصاص.
(ب)-
عندما اقتيد بابكر النور لتنفيذ حكم الاعدام ، كادت كلمات خطبته القوية في الجنود ان تعطل حكم الاعدام، حتى تدخل النميري وتوجه شخصيآ ومعه مجموعة من الضباط الي ساحة الاعدام كنوع من الارهاب الي الجنود المكلفين تنفيذ الحكم ، تراجع بابكر النور بخطواته قليلة الي الوراء كي لا يتم اطلاق الرصاص على ظهره، كان الشهيد قد ارسل قبل يوم واحد من اعدامه خطاب صغير في ورقة علبة سجائر الي اسرته يؤكد فيه ان نميري سيعدمه. كانت اخر كلماته انه هتف عاليآ باسم السودان.
ثالثاً:
اعدام الرائد/ فاروق حمد نا الله:
(أ)-
هناك رواية اخري موثقة في كثير من المواقع عن اعدام فاروق حمدنا الله:
( عندما نزل فاروق حمدنا الله من الطائرة وهو معتقل في مطار الخرطوم قادمآ من ليبيا بحراسة مدججة من الحرس الليبي،قال للضباط والجنود السودانيين الذين حضروا لاستلامه:(ازيكم يا شباب ، الغريبة انو الليبيين حاقدين علينا اكثر منكم)!!.. ثم ضحك، نقلوه الى معسكر “الشجرة” هناك خلال حديث نميري معه قال للنميري : (يا نميري انت في ٢٥ مايو دورك كان صفر ، ما كان عندك دور نحن النظمنا 25 مايو وجبناك عشان رتبتك وكان ممكن نجيب غيرك ، كنا حنجيب محمد الشريف الحبيب او مزمل غندور، لكن وزير دفاعك خالد حسن عباس الجالس جنبك دة قال يا جماعة مزمل غندور طموح وحيسيطر علينا افضل نجيب نميري لانه بليد ونقدر نمشيه زي ما عايزين)..
(ب)-
حاول النميري ان يساومه ليتبرأ من صلته بجماعة ١٩ يوليو فرفض ، وطلب منه النميري ان يدلي بما لديه من معلومات فرفض، وعندما اقتادوه الى منطقة الحزام الاخضر لاعدامه استفزه النقيب محمد ابراهيم وقال له ” يا(…) ،فرد عليه فاروق: (انت كمان تقول لي يا “…” ؟!!شوف الرجال يموتوا كيف الليلة ، لما يجيبوك محل الموت اثبت زيهم) ، ثم التفت الى الجنود وقال لهم : (الراجل ما بضربوه في ضهره وانا ما بديكم ضهري)..ظل يتراجع في خطوات ثابتة للخلف فاتحا ازرار القميص كاشفا صدره للرصاص وهو يهتف بحياة الشعب السوداني وسلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية.
(ج)-
– تنفيذ حكم الإعدام في فاروق حمد الله وبابكر النور رمياً بالرصاص كان في الساعة السادسة والنصف من مساء الاثنين ٢٦ يوليو لعام 1971م.
رابعآ-
اعدام الشفيع احمد الشيخ:
(أ)-
مساء الاحد ٢٥ يوليو ، خرج الشفيع احمد الشيخ من المكتبة في معسكر “الشجرة” حيث كانت تجري محاكمته ، فوجد جوزيف قرنق ودكتور مصطفى خوجلي جالسين على التربيزة المخصصة للتحقيق في البرندة، وقف بضع دقائق مع دكتور مصطفى وقال له: (تصور ان شاهد الاتهام ضدي هو معاوية ابراهيم سورج ، وسمعت انه سيحضر شاهد اتهام ضدك)!!!…كانت شهادة معاوية كما ارادها نميري وزمرته تنصب على اثبات ان الشفيع عضو سكرتارية الحزب الشيوعي وبالتالي فانه يعرف التنظيم العسكري للحزب ومكان اخفاء اسلحة الحزب .
(ب)-
بعد قليل تم استدعاء الشفيع مرة اخرى للمحكمة داخل المكتبة وحوالي الساعة العاشرة الا ربعا خرج من المحكمة وجلس على كرسي امام البرندة ، حضر ابو القاسم محمد ابراهيم وهو في حالة هياج وقف امام دكتور مصطفى وساله (اين مكان عبد الخالق، لاننا علمنا انه شوهد معك مساء الثلاثاء الماضي؟!!)… نفى الدكتور مصطفى علمه بمكان عبد الخالق، هدده ابوالقاسم بقوله: (امامك عشرة دقائق لتخبرنا بمكانه)… ثم اتجه نحو جوزيف قرنق وكرر عليه نفس السؤال ، نفى جوزيف علمه بمكان عبد الخالق ، هدده ابو القاسم بقوله امامك خمسة دقايق لتخبرنا بمكانه . ” تفاصيل ما حدث بعد ذلك بمقال الاستاذة فاطمة احمد ابراهيم ” طيلة احاديثه مع الضباط كان يكرر ، نحن لم نرتكب أي خيانة ضد الوطن وشعبه ، ووقفنا مع التقدم ومصالح الناس ، واذا رحنا فالمهم ان يحافظ الناس من بعدنا على التنظيمات الجماهيرية التي اشتركنا في بنائها مع الاف الناس.
(ج)-
انتهت محاكمة الشهيد يوم الاثنين ٢٦ يوليو، وساقوه الى سجن كوبر مساء ذلك اليوم وهناك اعدم شنقا، تلقت المناضلة فاطمة إبراهيم، رفيقة الشفيع أحمد الشيخ وزوجته، خبر إعدامه بشجاعة ورباطة جأش، وهي في الإقامة القسرية.
خامسآ-
اعدام المحامي/ جـوزيف قرنق المحامي:
(أ)-
كـان الـمحامي الشـيوعي جوزيف قـرنق معروف وقـتها بانـه الـمحامي الذي لا يـتقاضي اي مبالغ مالية جـزاء الاسـتشـارات القانونيـة او دفـاعـه امام المحاكم عـن الـمظلـومين . كان مـعروف عـنه انه لا يـخـفي انتماءه للـحـزب الشـيوعي وانه عـضـو عامل فعال فيـه . ولا يـخفـي ايضـآ عـداءه الشـديد لكـل صـور الـقهـر والظلـم اللتين كانتا طـابع حـكم الاحـزاب الـدينيـة، عـنـد اعتقاله بعـد فشـل انقلاب هاشـم العـطا كـان كل النـاس عـلي يـقيـن تام ان جوزيف سـيخـرج من زنـزانات معـسكر ” الـشجرة ” بـريئـآ معـافـي لانـه لـم يكـن وقـت الانـقلاب مشـارك كما صورتها عنــه وسائل اعــلام النـميري، وان جـوزيـف-حـسـب تصريحات النـميري عنــه – سـفاح اسـتغل امـوال الـحـزب الشـيوعـي تـجنيـد مجموعة من الجنـوبييـن بهدف اثارة الاضـطرابات والقلاقل فـي الخرطوم حـال فـشـل انقـلاب هـاشـم الـعطا.
(ب)-
عـندما تـم اعـتقـاله قـال لافراد أســرته واصـدقاءه انه لن يـبقي طـويـلآ فـي الحـبس، هناك في المـعتقل الذي كان به هــاله ما شاهده من صـنوف الـتعذيـب والضـرب الـمبـرح عـلي الـمعتقلـيـن الـذيـن شاركوا في الانقلاب، ابــدي قـرنق وجـهة نظـره القـانونيـة فـي الـممارسـات الخـاليـة من آبسـط انـواع الـمعاملات الانســانية، وتجـاوزات الضـباط علانية فـي خـرق القوانيـن، فنال هو الاخر صنوف من الضرب المبرح ب(قاشات) الجنود.
(ج)-
مـاهـي الا ايـآم قليـلة من إعـتقـالــه الـتي وجد فيـها العذاب المؤلم،حـتي وجـد نفســـه فجأة في قاعة محكـمة عـسـكرية، اعـتقد جـوزيـف فـي بداية الامــر انهـا حـجرة لـراحة الضـباط ، فـلم يـكن فيـها ما يـوحـي علي الاطـلاق وانـها محـكمة ، فقـد خلـت الـقاعة من الـمقاعـد الا اربــعة فقط لاعـضـاء رئاسة الـمحكـمة العسكرية، ما كانت في القاعة حتي مقــعد صـغـيـر يجلس عليها المتهـم !!…اكـثـر ماضـايـق القـضـاة العـسكرييـن، ان قــرنق راح يـقـارعهـم الـحجـــه بالحجـج القـانونيـة.. يفـند بالأدلـة القاطعة عـدم قـانونيـة الـمحكمـة وبـطلان الادعـاءات ضـده.
(د)-
***- اسـتمـرت محاكـمة جـوزيـف نحو (٤٥) دقـيقـة صـدر بعـدها الـحكـم بالاعــدام شـنقآ في سـجن كــوبر، تم ارسال قرار المحكمة الي النميري فصادق عليها سريعآ بالموافقة ، وعندما علم جوزيف بالخبر، علا صوته متسائلآ في استغراب:( نميري ده جن ولا شنو؟!!)…
(هـ)-
تـم ارسـال جــوزيـف قـرنق بعـدهاالـي سجن كـوبـر، فـي فـجـر يـوم الاربـعـاء ٢٨ يـوليـو، تـم إيـقـاظـه بـواسـطة ضـابط كـبيـر واخبره ان تنفيذ الحكم سيكون بعد لحظات، بـكل بـراءه قـال جوزيف لـزمـلاءه في الـزنـزانة انه سـيعـود الـيهم قـريـبآ فقد كان واثقآ ان الحكم سيلغي ، لـكنه عـلـم انـها الـنهايـة عـندما اقـتادوه الـي غـرفة الـمشنقة. كـتب لاسـرتـه رســالة صـغـيـرة قـال فـيها: (ارجــو ان تعــتـبروني احـد الـركاب فـي طـائـرة تـحطمت) ، تــم دفــنـه في مكـان مجـهـول وقتـها، واكتشـف فيـما بعـد بـمقابـر بالخــرطوم بحـري.
سادسآ-
اعدام عبدالخالق محجوب:
(أ)-
انتهت حياة عبد الخالق محجوب على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء ٢٨ يوليو ١٩٧١ م، رثاه عدد كبير من الشعراء العرب والسودانيين كما شكل اعدامه صدمة كبيرة للحركة الماركسية العربية والسودانية لم يعد الحزب الشيوعي السوداني لسابق نفوذه أبدا بعد إعدامه مع أغلب قيادات الحزب. وبموتة انتهي فصل من الفكر في الحياة السياسية والاجتماعية السودانية، ورثاه الشاعر المنفي، مظفر النواب، في قصيدة، يقول في مقطع منها: «ولله جنود من عسل.. وعلى رأسك يا محجوب.. رأينا سلة خبز تأكل منه الطير.. وفي ساعات الصبح سيمثل اسمك فيك.. وضج الكون دما وعصافير خرساء.. مفقأة الأعين.. وارتفعت أدخنة الكيف الدولي».
(ب)-
تم تنفيذ حكم الإعدام فجر الأربعاء ٢٨ يوليو بسجن كوبر اي بعد يوم واحد من اعتقاله، ذهب عبد الخالق إلى المشنقة مرفوع الرأس شامخا يهتف بحياة السودان وحياة الحزب الشيوعي ، أهدى ساعة يده إلى أحد العساكر كهدية منه وطلب من مدير السجن الذي اشرف علي عملية تنفيذ الحكم تسليم دبلته الفضية إلى أسرته ومعها وصية مكتوبة بخط يده ، ولكن لم يتم توصل (الدبلة) أو الوصية المكتوبة !! ، فقد صادرها احد ضباط جهاز الأمن -حسب شهادة إدارة سجن كوبر بعد ذلك- وقد أفاد مأمور السجن وقتها عثمان عوض الله بأن عبد الخالق ذهب إلى المشنقة بخطى ثابتة وكان أنيق الثياب، لامع الحذاء ، متعطرا ، باسما كعريس – هكذا علق الضابط عثمان عوض الله مأمور سجن كوبر حينها-. حيا عبدالخالق محجوب الشناق الخير مرسال وهو يعتلي سلم المشنقة باسما.
(ج)-
انتهت حياة عبد الخالق محجوب على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء (٢٨ يوليو ١٩٧١) ، وقالت نعمات ارملة الراحل عبدالخالق وقتها : لم يسلمونا جثمانه، ولم يبلغونا حتى، ولو أن نميري يتحدث عن الدين فهذا ليس بدين، ولو أنه يتحدث عن الأخلاق فهذه بعيدة جداً عن الأخلاق ، ولو أنه يتحدث عن السياسة ، فإن ما حدث لا يمت للسياسة بصلة ، الموضوع برمته خطأ فليس هناك مدني يحاكم محكمة عسكرية ، فضلاً عن أن الشخص المحاكم يعطى فرصة للدفاع عن نفسه ويحق له مقابلة أسرته، لكننا لم نعلم وسمعنا الحكم من خلال الراديو، وما حدث تم بين يوم وليلة.
(د)-
ومضت في حديثها قائلة: صمدت ولم أنزل دمعة من عيني لدى سماعي الخبر خرجت الشارع أهتف، ثم بعد ذلك تفرغت لتربية أبنائي، فهذه هي المسؤولية التي تركها عبدالخالق وقبلتها، اجتهدت في تربيتهم في ظل الاعتقالات المنزلية التي تعرضت لها ورفدي من عملي، رغم ذلك اجتهدت في أن أنشئ أبناءً خالين من العقد ولا يتذوقون طعم المرارة بعد رحيل أبيهم، يختاروا طريقهم بأنفسهم وأن يتحملوا نتيجة اختياراتهم مهما كانت، والحمد لله أظن أنني نجحت في ذلك. وفعلاً هكذا كان رحمه الله.
(هـ)
في تحقيق صحفي قيم اجراه الصحفي عادل سيداحمد بجريدة (الوطن) مع السيدة نعمات مالك زوجة الراحل عبدالخالق مجوب، دار الحوار بينهما حول: (من قتل عبدالخالق محجوب, وكيف اعتقل ?) … قالت السيدة نعمات بالحرف الواحد:(نحتفظ بإسم الشخص الذي بلغ عليه للتاريخ !)..
(و)-
انتهت اخر الاعدامات باعدام عبدالخالق، تفرغ نميري بعدها ملاحقة الشيوعيين والمعارضين لحكمه، طالت الاعتقالات في كل انحاء البلاد- في الفترة من يوم ٢٩ يوليو وحتي ٣ سبتمبر ١٩٧١- نحو (٣٠) الف شخص، اغلب هذة الاعتقالات كانت كيدية وطالت ابرياء لا دخل لهم بالسياسة، وقعت احداث دامية اثناء الاعتقالات نتجت عنها وفيات بسبب الضرب والتعذيب.
١١-
لا يختلف اثنان، ان واحدة من اسؤأ احداث دخلت تاريخ السودان قد وقعت في الفترة من يوم الخميس 22 وحتي يوم 30 يوليو1971م، وجاءت بعدها محاولة انقلاب الريل – رمضان ١٩٩٠، وما بعدها من مجازر اخري كثيرة طالت (٣٥٠) الف شخص حسب احصائية قديمة صدرت من منظمة الامم المتحدة عام ٢٠٠٥، ولا يدخل في هذا الرقم اعداد الضحايا الذين قتلوا بعد عام ٢٠٠٥ ويقدر عددهم باكثر من (١٠٠) الف شخص….علمآ بان الاغتيالات من طرف المؤسسات العسكرية مازالت مستمرة حتي اليوم.