مقالات متنوعة

دار في منطقة الذكري

تداعيات

*هل بالإمكان استعادة دار اتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن الخرطوم؟

وجدت نفسي بالقرب من ذلك المكان الحميم ، دار اتحاد الكتاب السودانيين
، انتابني ذلك الشجن المرتبط بالذكري ، تذكرت ما قاله صديق الغفلة و الغيبوبة
، الشاعر عمر الدوش و هو يحاول ان ينتفض باحثا عن صحوته العميقة
(لولا الذكري ما في وصول
لولا الذكري ما في اصول
لولا الذكري ما في شجن)
دار اتحاد الكتاب السودانيين ، حيث كان بالمقرن ، خلف قاعة الصداقة ، كان
مكانا للحوار و التثاقف ، في هذا المكان التقي جمهور الادب و الفن بمحمود درويش، احمد عبد المعطي حجازي ، اودنيس ، مظفر النواب ، في هذا المكان كان الطيب صالح يسخر من اولئك الذين ينصبون من انفسهم حماة للاخلاق و
يرتجفون لمجرد ان مصطفي سعيد بالنسبة لهم كان فحلا ليس الا ، هنا ترنم
مصطفي سيد احمد و نوقشت العديد من الاعمال المسرحية والادبية و كان نادي السينما يتيح لنا الفرصة كي نشاهد افلاما متميزة في زمن ضاعت فيه السينما الراقية بسبب انتشار تلك الافلام الرخيصة ، هنا في هذا المكان، اقيمت العديد من معارض الفن التشكيلي ، في هذا المكان التقي الصادق الرضي بالفيتوري ، لقاء اجيال مختلفة و متنوعة الافكار ، لكنها تعلمت من هذا المكان الحميم كيف ان الاجيال الشعرية ليست كالحوائط المصمتة و لكنها تحمل من الشفافية و العمق ما يجعلها تتداخل و تمارس خصوبتها الفنية بتلقائية و انسياب ، يبدو انني لا اتحدث عن مكان ، مكان فقط ، و لكنني اتحدث عن حيوية ، عن حركة نشطة ، عن ممارسة تحفر في عمق الذاكرة ، لا بأس ، ان تكون شاهدا علي كل ذلك الخراب ، علي كل ذلك الموات المقصود .
لكن من بقدر علي نسف الذكريات ؟
من يستطيع ان يعتقل الشجن ؟
لا احد ،
لا احد ، ان فنجان القهوة الذي كان يسخر منه صديق عابر اكاد افتقد طعمه الان ، لم يعد بالنسبة لي مجرد فنجان قهوة ، اصبح عندي رمز لتلك الامكانية ، امكانية ان تسخر من كل شئ ، امكانية ان تسخر هي امكانية تستند في عمقها علي مبدا الحرية ، حرية ان تفكر ، حرية ان تمد لسانك و انت واثق كل الثقة ان هذا اللسان يمتلك حرية ان يتحرك داخل فمك ، تري هل تشتهي يا الرشيد احمد عيسي تلك القهوة الان؟، كنا نرشفها بتمهل متأمل للدخول بعدها في بروفة مسرحية الزنزانة للكاتب هارولدكميل و اخراج عادل السعيد
هل كان بامكان عبد الله بولا ان يلتقي بشلة التشكليين و الكتاب الجدد لو لا هذا المكان الذكري ، دار اتحاد الكتاب السودانيين ؟ ، هل كان بالامكان ان يكون الاختلاف مشروعا بين الاجيال لولا لقاءات متعددة بين الاولاد ابان خرتايات و عبد الله بولا ؟
، هكذا اذن ، دار اتحاد الكتاب السودانيين هو مبني حميم و معني عميق للتواصل ، للتعارف ، للاتفاق ، للاختلاف سعيا وراء خلق حيوية و امكانية عالية في الممارسة والتذوق .
وقفت طويلا امام ذلك المكان ، لاحظت ان المدخل تم تحويله ، اللافتة تغيرت تماما ، طبعا ، اتحاد الطلاب السودانيين ، اقصد ، الاتحاد العام للطلاب السودانيين ، و باسلوب تجاري متمرس تم بناء دكان ناصية يطل علي الشارع — ( مركز الشهيد ابو دجانه التجاري ) — ، قلت لنفسي التي راودتني علي فكرة الدخول الي هذا المكان، تري هل بالامكان ان التقي بشبح علي المك في الداخل ؟، وقفت بباب الدخول ، تحركت الي الداخل ، اوقفوني ، سألوني عن بطاقتي
التي لا احملها عادة ، سئلت عن ماذا اريد ، سجل اسمي في دفتر ، قلت للسائلين
و قد تعمدت ان اكون سرياليا بما فيه الكفاية حتي اتوازن مع فكرة هذه
التسأؤلات التي تدل تماما علي للاختلاف بين منطقة الذكري و الشجن التي انا فيها وبين منطقة الواقع الذي انا بصدده
-(انا ما جاي لي زول ، لكن عندي في المكان ده ذكريات)-
-(ذكريات ؟؟؟؟) –
-( ايوه ، ذكريات) –
-(لو سمحت الغرض من الزيارة شنو ؟ –
-(ممارسة تكثيف الذكري) –
-(يا اخي انا اكتب شنو في الدفتر ده ؟) – (ياتو دفتر ؟ )-
(ما انا مفروض أملا البيانات دي ، يعني لازم تكون محدد الغرض من الزيارة)
-(ما قلت ليك ، ممارسة تكثيف الذكري) -( ما فاهم حاجه )-
-(طيب ، افهمك ، نحن كنا هنا زمان –
-انتو منو ؟)-
-( نحن الكتاب السودانيين ، دي كانت دارنا) –
-(ايوه ، تقصد …….)-
-(ايوه اقصد ، فهمت حاجه ؟)-
– (ما ممكن )-
-(ما انا عارف ، لكن بس ، داير اقعد جنب الشجرة ديك ، ممكن ؟) –
-( ما ممكن) –
-(ليه بس ؟) –
-(يا اخينا ده مكان شغل ، بعدين يا اخي ما فاضين لي اي تهويمات )-
تهويمات ، فعلا لا مجال للتهويمات ،لا مجال للتامل ، لكني مصر علي ان الذكري هي وحدها تلك التي يجب ان نمتلكها ، ان نتشبث بها ، تري هل يمكن ان ندون التاريخ ، اي تاريخ بدون ذاكرة ؟ ، نظرت الي الدفتر ، نظراتي تسربت الي الداخل ، المكان ليس المكان ، و لكن ضجت في داخلي ضحكة علي المك العميقة و استطعت لن أري عبد الله عبد الوهاب في مكانه المعهود و دخان سيجارة عبد الواحد كمبال يملأ المكان و جلسة الفنان التشكيلي الامين محمد عثمان في الزاوية التي ادمنها و ادمنته ، المخرجة مريم محمد الطيب في جلسة عمل مع المخرج عوض محمد علي، بشري الفاضل يتجول بين الحضور مطلقا آخر افكاره الساخرة العميقة ، عادل القصاص قلق بشأن طقوس الليل الاخيرة ، نجاة عثمان تطرح مشكلتها مع الالوان و تطلب من مايكل كباية شاي بي لبن ، السر السيد يترنم علي طريقته ببيت شعر من محمود درويش ، محمد مدني يحتد بحميمية مع عبد المنعم رحمة الله ، البشير سهل مشغول جدا بالبرنامج القادم ، علي اللمين يضع اللمسات الاخيرة لتمثال محمد عبد الحي ، محمد محمد خير يطلق ضحكة فاقعة الالوان ، الياس فتح الرحمن منكمش داخل بدلته الانيقة ، كمال الجزولي يبدو جادا جدا ، حافظ محمد خير يداعب شعره المفلفل باصابع يده اليسري ، د علي عثمان يحكي نكتة ، عبد القادر محمد ابراهيم مستمتعا بالانس ولا تشغله المواصلات ، الصادق الرضي يدرب اصابعه علي فن الخط، عبد اللطيف علي الفكي و امامه علي المائدة خوذته وهي دلالة بنيوية جدا تشير الي امتلاكه موتر .
– (يا اخينا ، اي خدمة ؟ )-
-(لا ، شكرا جزيلا)-
تهويمات ، فعلا ، تهويمات ، ان تكون للكتاب السودانيين دار هي تهويمات
، هكذا اذن لايد ان تكون مهوم حين تفكر ان نزع دار الكتاب بتلك الطريقة المتعمدة و منحها للاتحاد العام للطلاب السودانيين هو احدي تجليات الواقع السياسي الراهن ، ان تفكر في ذلك ، لابد ان تكون مريضا بالوسواس القهري ، حين تتسأءل عن العلاقة بين نزع دار اتحاد الكتاب السودانيين و بين توقف المعهد العالي للموسيقي و المسرح و تشريد طلابه ما بقارب الثلاثة اعوام ، و ان تضيع فكرة معرض المليون كتاب الذي كانت تقيمه دار النشر جامعة الخرطوم بنجاح ، ان يضيع لاسباب مفتعلة تقول ان المعرض مكان تجمعات و التجمعات ممنوعة ، ان يتحول المسرح القومي الي مجرد خرابات ، ان تبحث عن هذه العلاقة فانت مهوم ، انت خيالي ، انت مصاب بالوسواس القهري ، انت علماني ، انت لا تؤمن بالاستراتجية القومية الشاملة ، انت ضد المشروع القومي للاحياء الثقافي ، لاحظ ، الاحياء الثقافي ، لان كل ما كان قبل ذلك كان عبارة عن موات ، لذا لابد ان تدرب نفسك علي الصمت ، الصمت حتي في الدواخل ، لان التوجه الحضاري للسودان ضد اولئك المهومين ، ضد المتأملين ، ضد مشروعية الاختلاف .
تحركت من مكاني امام بوابة ذلك المكان الحميم الذي كان و انا مصر علي ان ما قاله الشاعر محمود درويش حين كان في نفس تلك المنطقة ، منطقة التهويم،
منطقة تحس فيها بان السياسي دائما هو ذلك المعتدي علي الثقافي و الجمالي
( ما اكبر الفكرة
ما اصغر الدولة )
لكني كنت متأكدا تماما ان دار اتحاد الكتاب السودانيين اصبحت دارا
في منطقة الذكري ، دارا في الدواخل و ما زالت تمارس حيويتها في ممارسة الابداع وتذوقه طالما هناك كتابا يكتبون .

يحي فضل الله

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..