شارع الرشيد في بغداد وحكاية الرقم 4

تشتهر العاصمة العراقية بغداد بشارع أقدم من دولة وهو شارع الرشيد ويطلق عليه اسم الشاهد، ويعود سبب هذه التسمية لكونه كان شاهدا كل المتغيرات السياسية التي مرّت على بلاده؛ من تظاهرات إلى انقلابات إلى محاولات اغتيال إلى سرف دبابات إلى انتفاضات إلى استعراضات عسكرية.. واحتفالات بفوز المنتخب الوطني.

وكان طوله أربعة كيلومترات؛ وفيه أربعة جوامع؛ وأربع سينمات؛ وأربعة مقاه؛ وأربعة جسور؛ والمفارقة الأكبر أن خط (الباص الحكومي) الذي يسير فيه يحمل رقم 4!!

ومن جلالة قدره؛ يوم اراد ان يعدّل الوالي العثماني بعض مساراته (وهو من هو في زمن الامبراطورية العثمانية) احتاج الى أخذ موافقة العلماء ورجال الدين في المدينة؛ ويذكر من يؤرخون لسيرته (الشارع وليس الوالي) ان تلك التعديلات قد اجريت بصورة مستعجلة خوفا من الغضب الشعبي العام لانتهاك أحد ثوابت المدينة الجمالية.

وحتى حين نسبه الوالي الى اسمه؛ لم يلتزم الاهالي بهذه التسمية وظلوا ينادونه : (الجادة العمومية) و(الشارع العام).

حتى اذا رحلت ظلال الامبراطورية العجوز عنه؛ وانتهى انتداب من اعقبها.. الانتداب البريطاني؛ اطلق الاهالي عليه اسم: أهم خليفة من خلفاء عصور الامبراطورية الاسلامية: هارون الرشيد؛ وكان يستحق التسمية؛ فإلى اليوم حين تذكر(العاصمة) يقفز اسم (شارع الرشيد) قبلها على الالسن.

في بدايات صباه؛ ويوم يمتلئ بالمطر ومنتجات الشتاء؛ كان شبابه يهبّون الى حمل العابرين من المارة.. من والى جوانبه؛ فطينه الحرّي(كانت بعض مناطقه آنذاك مرصوفة بالطابوق) اقول: فطينه الحرّي يلصق بالملابس مثل ذكرى مؤجلة لا يطالها النسيان.

ومن طرائفه؛ حين استبدلت عربات الخيول والحمير بأولى السيارات؛ احتاج قائد شرطة المدينة الاجنبي (كان الشارع قيد الاحتلال ايامها) الى تدريب بعض افراد الشرطة المحلية على آلية تنظيم السير؛ فوضع على اذرعهم (اكياسا بيض مخططة بالأسود) يتمندلون بها؛ فهم سادة الشارع؛ وبإشارة من يدهم تقف حتى سيارات القائد المحتل؛ وكان ذلك مبعث فتنة وفخرا.

مع بداية النهضة؛ اختار له المعماريون الوطنيون اجمل.. وارق.. واعذب خرائطهم؛ فتعالت أفاريزه الشناشيل؛ وتغنّجت الشرفات الخشبية؛ والشرفات الحديدية؛ حيث النقوش؛ والأقواس؛ والزخارف؛ تعكس دقة الفن المعماري وجمال تشكلاته.
ما بقي من هذا التاريخ المهيب
شارع الرشيد عام 1954
شارع الرشيد عام 1954

سؤال موجع؛ فكما بدأ موسم الاغتيالات الوطنية، والسطو على الذاكرة وعلى التاريخ؛ هوجمت (العاصمة) في قلبها النابض؛ ووجّه الخراب إليها أصابعه السود الملوّثة؛ فأنكفأ الشارع على شناشيله، وحاول ان يتمسّك بعمارته الاصيلة، بالأعمدة؛ وهيهات؛ فقد غلّفه? وغلّفها- الجشع بحجة التجديد؛ ولم يسمع أحد نداء امانة عاصمته: جددوا نعم.. ولكن حافظوا على أصالته ولا تمسوا كبرياءه ؛ فلطالما كان عصيا على العثمانيين وعلى الانكليز وعلى الامريكان!!

البهرجة.. والالوان البراقة.. وصفائح الالمنيوم والبلاستك والزجاج الغائم والعاكس؛ اضافات ديكورية موجودة في كل مدن العالم الحديثة.

ولكن ولا مدينة من هذه المدن تملك شارعا بفخامة عمرانه.. وعبقا كعبقه التاريخي الذي من المفروض ان يحافظ عليه باعتباره: ذاكرة لا تشيخ.

البعض يقول: إن مَن لم يدخل شارع الرشيد فكأنه لم يزر بغداد! لكنهم الان يغتالون شارع الرشيد بالعمارة الهجينة؛ وما يؤسف له ان لا احد يسعى لنجدته.. على الرغم من مناشدات الكثير من المعماريين العراقيين وبيانات الفنانين التشكيليين بهذا الصدد.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..