أوقفوا تزييف الوعي يا سادة

عندما يصاب الانسان بانسداد في قنوات وعيه، تشيخ أفكاره وتتكلس في لحظة زمنية معينة، ومن ثم تبدأ أدوات تحكمه في مسارات الحياة من حوله تتفلت من بين يديه، فيرى أمام ناظريه عملية انسحابه واغترابه القسري والحزين من معترك الحياة تُنفَّذ رغم أنفه، لذا فإنه يبدأ بلا وعي وعلى نحو هستيري يسابق فيه الزمن، في خلق وايجاد مقومات زائفة لتعديل مسار الحياة.

فيبدأ في التعامل مع ما هو (تاريخي) أو (افتراضي) على أنه طبيعي، ومن ثم يتَّسم بالدوام والقابلية على التحقق، دون الأخذ بالشروط والأدوات التي انتجت الواقع الجديد الذي يغلب عليه وصف السيولة وعدم الثبات.

اعتبر أرسطو قديماً أن النظام العبودى نظام فرضته الطبيعة على الإنسان بصرف النظر عن مكانه وثقافته، وعلى المنوال نفسه اعتبر آدم سميث النظام الرأسمالى هو التعبير الوحيد عن العقلانية فى الاقتصاد، وما يخالفه من نُظُم هي بالضرورة غير عقلانية، وعلى ذات الشاكلة سارت الماركسية حيث اعتبرت أن الوعي الطبقي هو الوعي الحقيقي، وما عداه محضُ زيف.

على الخلفيات الثلاث أعلاه (ربما) قامت أحزاب السودان الحزين:
? النظام العبودي.. أنتج الأحزاب الطائفية والحق الإلهي.
? النظام الرأسمالي.. لا نجد له تحقق في الواقع السياسي.
? الوعي الطبقي.. أنتج الأحزاب اليسارية.

فكل حزب بدأ في تشكيل واقع جديد (حقيقي أو افتراضي) ليخدم الرؤية التي توفر له الشرعية اللازمة لممارسة (حقوقه)، وهذه الشرعية نسبة لعدم توفرها في الواقع وربما استحالة ذلك، فكان لا بد من الحصول عليها عن طريق (تزييف الوعي)، والحل السحري لتزييف الوعي يتم من خلال (الايديولوجيا)، لا سيما في شعوب مازالت تعيش طور البداوة وتغلب عليها العاطفة، تلك العاطفة التي سيتم استثمارها لاحقاً لتنفيذ كافة الأدوار القذرة.

فالايديولوجيا بطبيعة الحال، لا تعكس الواقع كما هو، ولكنها تحاول أن تضع نسق فكري متكامل للتعامل مع كافة قضايا واشكالات الواقع على نحو متسق ويخدم هدف محدد. كما أن صاحب الأيديولوجيا نفسه قد يكون متاجراً بأحلام الآخرين، بل وربما يكون هو نفسه ضحية لهذا الخداع. ولا أدل على ذلك من الاعداد الهائلة ممن ماتوا بالاحزمة الناسفة والتفجيرات الجبانة من أتباع الفكر المتطرف، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بل أنظر لمرتادي المعتقلات في كافة الدول.

إذن ما يعيشه السودان اليوم من تمزق وترهل وتفكك وانسداد في الوعي، لا يمكن التعامل معه بنفس العقليات التي أنتجت هذه الأزمات المتتالية والمتلاحقة، فكل الأحزاب التقليدية شاركت بصورة أو بأخرى في انتاج الحالة البائسة التي نعيشها اليوم، والفارق بينها في الدرجة وليس النوع (أمة، اتحادي وما يسمى زوراً وبهاتناً وافكاً حركات اسلامية) حيث أنها كلها تمتح من معين واحد، وكلها شاركت من قبل في صياغة وهم (الدستور الاسلامي) من لدن الأزهري والترابي ثم الترابي وأبو قرون ثم الترابي ومن يحكمون، في محاولات بائسة لاضفاء الشرعية الزائفة على كيفيات سرقة أحلام الشعوب.

فلا يمكن التعامل مع قضايا الواقع إلا اذا فهمنا كيف تشكلت، ولكي نفهم كيف تشكلت لا بد من وقف كافة عمليات التزييف والتدمير الممنهج للوعي، وعلينا أن نفهم أن الحاضر هو نتاج أخطاء الأمس، وأن الاسلام يا سادة جاء بالدرجة الأولى لبناء الفرد القوي الذي من شأنه أن يبني الدولة بفكره المنسجم مع العدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا المفهوم تتفق عليه كافة دساتير العالم السوية، وعليه لا بد من وضع الأمس على طاولة التشريح وممارسة قاعدة التجريح والتعديل على الكل بدون وصاية فكرية على أحد.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..