مقالات سياسية

دور البناء الأسري في التحول الديمقراطي في السودان

طاهر عمر

هذا العنوان تربطه خيوط متينة بفشل النخب السودانية المزمن فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي وقطعا يفتح الباب واسع على فشل ثورة اكتوبر 1964م وتلحقها ابريل 1985م وفشل تأسيس نظام ديمقراطي وقبل فشل ثورة اكتوبر وابريل فشل نخب الاستقلال في تأسيس يفضي لقيم الجمهورية وتأطير لملامح الدولة الحديثة التي لم تستطع النخب السودانية إبراز ملامحمها وقد رأينا كيف فشل حمدوك وحاضنته رغم الكتابات المتكررة له بأن حكومته وحاضنته تعمل في فضوى لا نهاية تحجب ملامح الدولة.
وقد قلنا لحمدوك مطالب الشعب السوداني وشعار ثورة ديسمبر المجيدة يوضح إرادة الشعب السوداني لتحقيق هيكل متين تظهر ملامحه في ملامح دولة حديثة. ومسألة غياب ملامح الدولة الحديثة من أفق حمدوك وحاضنته السياسية مسألة موروثة عند النخب السودانية.
سببه جهل بمفهوم الدولة كمفهوم حديث وكذلك مفهوم السلطة ومفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد وهي نتاج العلاقة المباشرة بين الفرد والدولة وعبرها يمكننا تأسيس نواة الضمان الاجتماعي وأقل درجاته إمكانية المحافظة على كرامة الفرد وحفظها بتخصيص حد أدنى للدخل حتى للذين لم توفر لهم الدولة فرص عمل.
ما زيّن لهم أي حمدوك وحاضنته أن ما تركته الانقاذ من ركام كانوا قد ظنّوه أنه دولة وفي ظل مثل ظروف عمل حمدوك وحاضنته وجهلها بقيم الجمهورية حيث تصبح الديمقراطية صيرورة وعندما نقول صيرورة الديمقراطية نعني أن ثورة الديمقراطية وفكرها قد أصبح بديلا للفكر الديني الذي يرزح تحت نيره أغلب النخب السودانية التي لا تجيد التفكير خارج وحل الفكر الديني وهذا نجده متجسد في فكر أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب ونعني أتباع أحزاب الطائفية والحركة الاسلامية والسلفيين.
لهذا نجد أن حقبة حمدوك وغياب ملامح الدولة فيها ما هي إلا تكرار لشعار نخب حقبة الاستقلال وشعارهم تحرير لا تعمير وهو شعار يوضح لك جهل نخب حقب الاستعمار والذين قادوا ما بعد الاستقلال. في هذا الشعار تتضح لك غياب مفاهيم أهمها علاقة الفرد بالدولة وما يرتب على الدولة من مسؤولية اجتماعية نحو الفرد.
هذا الغياب لمفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد إنعكس في نشاط وفكر أحزاب سودانية لم نسمع في برامجهم عن فلسفة لخلق الثروة وكذلك فلسفة أعادة توزيع الثروة وأقل مستوياتها في مجانية التعليم حتى عمر ستة عشر عام للأطفال ومجانية العلاج وبعده تطوير فكرة الضمان الاجتماعي للقادرين على العمل ولم تستطع الدولة توفير فرص عمل لهم.
وغياب فلسفة في برامج الأحزاب السودانية تساعد على مكافحة الفقر بخلق إزدهار مادي هو ما جعل وزراء حكومة حمدوك لا ينتبهون الى وجوب ضم ديوان الزكاة كعش دبابير كيزاني الى وزارة المالية. لأن أحزاب حاضنة حمدوك مثلهم والكيزان يظنون أن ديوان الزكاة مسؤول من محاربة الفقر وهذا خطاء غير مغتفر.
فلسفة مكافحة الفقر تقوم بها وزارة المالية والاقتصاد بتقديم فلسفة معاصرة لا تترك مساحة لآكلي مال الزكاة للكيزان لأنهم بفهمهم الديني المتخلف يوسعون دائرة الفقر وليس العكس كما يتوهمون.
غياب فكر قيم الجمهورية وغياب مفهوم ثورة الديمقراطية كصيرورة يحبط تطور تنمية الفكر السياسي في السودان ويقف حائط صد أمام تطور الفكر ويجعل النخب عقيمة في مسألة تقديم أقلية خلاقة تستطيع إلتقاط ما يوحيه الشعب السوداني للنخب فيما يتعلق بتأسيس دولة حديثة.
لهذا نجد التشابه في تكالب نخب حقبة الاستقلال على الوظائف وسودنة الوظائف أي ما سمي بالسودنة يشبه تكالب حاضنة حمدوك على المحاصصة وتكالبهم على الوظائف وكأن الزمن لم يمر من شدة تشابههم أي جيل السودنة وجيل حاضنة حمدوك.
وهذا سببه غياب مراكز بحوث تنطق بفكر المؤرخ غير التقليدي وعالم الاجتماع والاقتصادي الذي يستطيع معرفة تعاقب الديناميكيات الاقتصادية وتفسيرها للظواهر الاجتماعية حيث يصبح الفرد عقلاني وأخلاقي وبديلا للطبقة.
غياب مراكز البحوث التي يسيطر عليها الاقتصادي والمؤرخ غير التقليدي وعالم الاجتماع أتاح الفرصة لظهور مراكز الطرق الصوفية للظهور بدلا عن عالم الاجتماع نجد مبادرة ود بدر الجد وبدلا عن الاقتصادي نجد شيخ كدباس ونترك الفرصة لك أيها القارئ المحترم لتضع بديلا للمؤرخ غير التقليدي أي ما يعادله من شيوخ الطرق الصوفية.
هذا هو سر فشل النخب السودانية وعدم مقدرتها على تأسيس مفهوم الشرط الانساني أي السياسة لهذا نجدها منظومة فشل إبتدأت مع جيل الاستقلال وشعارهم البائس تحرير لا تعمير ومرت على جيل ثورة اكتوبر الفاشلة وغطت على أبريل وقد وصلت لمنتهاها مع حمدوك وحاضنته وجيل عبر جيل يرزحون تحت نير سلطة الأب وميراث التسلط رغم حديثهم المكرور عن التحول الديمقراطي منقوص النصاب بسبب تدني وعيهم بما يتعلق بالتحول الهائل في المفاهيم.
في أي مجتمع غالبا ما تجد أن المطلوب من الأقلية الخلاقة فيما يتعلق بنقل المجتمع من حيز المجتمعات التقليدية الى المجتمعات الحديثة يضعها في صراع حاد مع قيم المجتمع التقليدية و هذه هي لحظات المخاض التي تؤذن بميلاد جديد ولا يتحمل مسؤوليته غير الشخصيات التاريخية التي تستطيع أن تتجاوز القيم التقليدية للمجتمع وتعلن ميلاد قيم حديثة لا يقدر على فهمها غير عباقرة الرجال كما فعل مارتن لوثر في الاصلاح الديني و نقده للايمان التقليدي وهنا تكمن أهمية تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف في ميلاد شخصيات تاريخية تعبر بالأمة بلا خوف ولا وجل.
غياب الشخصية التاريخية هو ما جعل المثقف السوداني يجيد التخفي في مواجهة رياح التحولات الهائلة في المفاهيم ونضرب لك مثلا في تخفي النخب السودانية وعدم قدرتها في إنزال مفهوم العلمانية.
نجد أغلب النخب السودانية في هذا الصدد من المرجئة حيث توضّح حالتهم أي حالة الهروب الى الامام عندما يقولون أن هذا يجب إرجاءه الى المؤتمر الدستوري أو الى مرحلة تأسيس برلمان أو غيرها من أعذار توضح هروبهم من وجه مسؤولية الشخصية التاريخ ومن وجه لحظة حاسمة تتطلب توضيح أن الوقت الذي نعيش فيه يمثل نقطة إنقلاب حيث لم تعد فكرة الدولة الدينية ذات قيمة.
قد وضح أن العلمانية هي في طريقها إلينا و لكن بسبب غياب الأقلية الخلاقة نجد أن الكل يتخفى خلف مؤتمر دستوري ويهرب من مسؤولية لا تقوم بها غير الشخصية التاريخية وقد تخطت الخوف الذي يستمثره رجال الدين في في إرهاب المجتمعات التقليدية.
إستثمار رجال الدين في السودان للخوف كرأسمال للخطاب الديني هو الحاجز الذي يمنعنا من التجاوب مع التحول في المفاهيم مثلا مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد حيث تكون علاقة الفرد مباشرة مع الدولة وفيها تكون مسألة إحترام كرامة الانسان كانسان بدلا من إغراقه في حوض الخوف الذي يستثمره رجال الدين وبالتالي يكون كل هم الفرد مسالة الخلاص الأخروي وكأننا لم نبارح لاهوت القرون الوسطى.
هذا اللاهوت القرووسطوي سبب تراكمه عجز المثقف السوداني في مواجهة الخطاب الديني الذي يمنع مسألة التحول الديمقراطي الذي يمجد الفرد و يكرمه وفقا لميثاق حقوق الانسان. ولهذا نجد في مجتمعنا غياب تام للمؤرخ غير التقليدي والاقتصادي وعالم الاجتماع وحضور تام لرجال الطرق الصوفية وهذا بسبب سيطرة الخوف على عقول نخب ما زالت تتخفى خلف رجال الدين سواء كانت طرق صوفية أو أحزاب طائفية واذا أردتم مثالا على ذلك تذكروا زيارة حمدوك للصادق المهدي وقد تهكّم عليه الصادق المهدي لأنه يعرف ضعف النخب السودانية أمام رجل الدين.
المهم في الأمر نرجع لعنوان المقال وهو دور البناء الأسري في إنتاج فكر ينعكس في إنتاج نظم سياسية وحسب عمانويل تود وهو اقتصادي ومؤرخ وانثروبولوق فرنسي وقد تنباء ذات يوم عام 1976 بسقوط الاتحاد السوفيتي وبسببه يوصف بالفيلسوف النبي وهو يرى أن دور البناء الاسري دور حاسم في إنتاج ثقافة تخدم ما يقابلها من نظم سياسية.
مثلا ثقافة الأسرة الجذعية لا تنتج غير نظم شمولية ونجدها في تاريخ المانيا وروسيا واليابان والصين ولكن اليابان والصين وبسبب الهزيمة في الحرب العالمية الثانية أجبرت على تبني ثقافة الأسرة النووية التي تنتج النظم الديمقراطية كما هو تاريخ للاسرة في فرنسا وبريطانيا وامريكا مع إحتفاظ اليابان على خطها في ظلمها للمرأة فيما يتعلق بالاجور والمانيا ما زالت ثقافة الأسرة الجذعية ظاهرة في مسألة نخفيض الأجور.
أما الصين وروسيا فما زالت ترزح تحت ثقافة الاسرة الجذعية وها هي روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم تستطع إنتاج نظام ديمقراطي وها هو بوتن يفرض على الروس حرب لا تنتج إلا في ظل نظم شمولية كما كان يفعل صدام حسين في حروبه العبثية وهذا يوضح ثقافة الأسرة الجذعية ودورها في انتاج نظم شمولية.
من هنا نقول للنخب السودانية وقوف أحرار العالم ومساعدتنا في التحول الديمقراطي يذكرنا بمساعدة المانيا واليابان مع الإكراه بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية لتجاوز ثقافة الأسرة الجذعية. ولنا في السودان ها هي امريكا وبريطانيا وقد أخافت السعودية والامارات العربية ومصر وأجبرتهم على عدم عرقلة التحول الديمقراطي في السودان.
وبالتالي نقول للنخب السودانية ها هو الزمن يساعد السودان لكى يساعد من قبل أحرار العالم من أجل تحقيق التحول الديمقراطي كما ساعد العالم كل المانيا واليابان في تجاوز ثقافة الاسرة الجذعية التي تنتج نظم شمولية وكانت سبب نزوع اليابان والمانيا للحروب من أجل الهيمنة ولكن بسبب التحول في المفاهيم ها هي اليابان والمانيا تصبح بلدان ديمقراطية عكس روسيا التي لم تتخلص من ثقافة الاسرة الجذعية.
في مقالات كثيرة قد قلت من قبل أن ثقافة الأسرة الجذعية التي قد جاءتنا مع الثقافة العربية الاسلامية التقليدية هي سبب عجزنا لتحقيق التحول الديمقراطي وفي الحقيقة تاريخ السودان القديم يعاكس تاريخ الثقافة العربية الاسلامية لأن تاريخ السودان القديم يعكس روح أمة تسودها ثقافة الأسرة النووية وبالتالي قادرة على إنتاج نظم ديمقراطية.
وعليه يكون تحقيق التحول الديمقراطي ممكن إذا ما ركّزنا على ظهور ملامح الدولة أولا ومن أول خطوة دون تكرار خطاء حمدوك الذي كان يعمل في ظل غياب ملامح الدولة.
وأول ملامح الدولة تتمظهر في سيطرة وزارة المالية على المال العام بعد إبعاد ركام الحركة الاسلامية من مفاصل الدولة. وأعني إبعادهم أي الكيزان من وزارة المالية والبنك المركزي بنك البنوك  وحل الجهاز القضائي الكيزاني وإبعادهم من وزارة الخارجية أول بأول. وكذلك إبعاد الجيش من المناشط الاقتصادية أول بأول وإعادة كل شركات الجيش لوزارة المالية ومنع الجيش من أي منشط سياسي أو اقتصادي.
وبعدها ومن أول خطوة بعد ظهور ملامح الدولة تبدأ سياسات نقدية وسياسات مالية توضح علاقة الفرد بالدولة وومفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد وأول ملامحمها مجانية التعليم ومجانية العلاج والاهتمام  بالحلقات الضعيفة في المجتمع بما يحفظ كرامتهم كبشر.
ولا يمكن أن تنجح أي سياسات نقدية وسياسات مالية إلا إذا عادت شركات الجيش لحضن وزارة المالية والاقتصاد وكذلك سيطرة البنك المركزي على سياسات البنوك الكيزانية وكيفية المساعدة في إعادة المال المنهوب ووالبداية به لمجانية التعليم ومجانية العلاج ومساعدة الحلقات الضعيفة في المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..