مقالات وآراء

الثورة والإصلاح الديني(2)

د. قاسم نسيم حماد حربة
كنت مكتفياً بالمقالة السابقة في هذا الشأن،كإلماحة عابرة، فهذا شأنٌ إن أنفقت فيه مساحة حياتي ما أوفيته،فلجتْ عليَّ نفسي ولجَّ عليَّ بعضهم استزادةً واستفساراً، لذا ارتضيت أن أزيد عليها مقالتين، ثم اختلس إليه خلسات حسبما تقتضي الأحوال، أنثر فيها ما عنَّ لي من فِكَر، وما أورثتنيه أدامتي التملي في بطون الكتب من معارف، أيام فراغ من الحياة وصبوة، أنضحها بقلمي تارة وأخرى .
لم تنقطع حركات الإصلاح الديني عبر التاريخ، يواكب بها المصلحون ما استجد من مستحدثات في الحياة، حرصا على ديمومة الدين، واستجابةً لأسئلة الحياة والعصر، ولم تمنع الحركات الإصلاحية كذلك من ظهور حركات أصولية تعمل على النقيض وهو العودة بالدين القهقرى، لكنها ظواهر لا تلبث أن تضعف وتزوي، وقد كانت حركات الإصلاح تمضي رويدا رويدا وإصلاحاتها غير جذرية أما الآن ونسبة للإنفجارات المعرفية فقد شابهت الحركات الإصلاحية العصر في حركتها فصارت مناهجها انقلاباً كاملا على المناهج القديمة، وصار منتوجها منتوجا جديدا بالمرة مقارنة بما أنتجته المدارس القديمة، وهنا نعرض لأهمَّ أصولهم وأظهر نتاجها.
دعاة الإصلاح الحداثيون يقدمون النص المؤسس، إذ عليه إجماع كل الفرق، وهو مقطوع بثبوته إذ أتى متواترا تواترا كاملاً،فهو محور عملهم، أما النص الثاني فرغم أنَّ أكثرهم قد لا يردونه جملة-ومنهم من يرده- لكنهم لا يجعلونه حكماً على النص المؤسس، بل خاضعا له، ويردون ما يعارضه، ويجعلون معيار صحته توافقه مع النص المؤسس، لكن بعد ذلك فلا تؤخذ منه أحكاماً عندهم،إنما يستأنسون به فيما وافق من آرائهم، فالحجية فقط تنعقد على النص المؤسس عندهم،حيث أن غالب الحديث ظني الثبوت،خلا بعض أحاديث مختلف في عددها، والظن عندهم لا يقوم عليه علم، والتيقن منعقد على القرآن وروداً، وحتى ما تواتر من حديث لا يغني عنه تواتره شيئاً عندهم، وهذا قريب مما فعله البروتستانت إذ أقاموا أمرهم على الإنجيل ورفضوا النصوص الثواني،أما النص الثالث(الفقه) فهو عندهم جهد إنساني محض ليس إلاَّ، يخضع لمعارف زمنه فلا يلزمهم، إذ إنه قام على أصول غير معتبرة عندهم، لأن التجديد عندهم إنما يقوم على الأدوات قبل المفاهيم، فأصول الشافعي عندهم لا تلزمهم وإن لزمت عصره، فوضعوا أصولاً أفادت من المعارف العصرية يقوم عليها فهمهم ومثال لذلك قولهم بعدم الترادف في القرآن،وهذا أهم أصولهم، وعليه مدار فقههم، وإن قالت به الدراسات الألسنية الحديثة إلا أن له موئلاً في التراث، فقد قال به جماعة من علماء العربية من قبل منهم ثعلب حين قال (ما يظن في الدراسة اللغوية من المترادفات هو من المتباينات)،لكنهم يؤمنون بالمشترك اللغوي،وهو إشتراك عدة معانٍ في لفظة واحدة، ويفسرون القرآن بالقرآن فيتتبعون المفردة أو المعنى في كامل القرآن ليستخرجوا المعنى ويسمون ذلك بالترتيل أي وضع المفردات أو المعاني رتلاً رتلاً لاستخراج المعنى من السياق كقول الإعلاميين حالياً “شوهدت أرتال من الجنود” أو “رتلاً من الدبابات” مثلاً، وهذا معنى الترتيل عندهم، وقد أفادوا من نظرية النظم للإمام عبد القاهر الجرجاني في ذلك، وملخصها أن معرفة معنى المفردة يقوم على السياق الذي تكون فيه، ولعل تفسيرهم للقرآن بالقرآن هو نفس ما ذهب إليه طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي، بعد أن قال بانتحال غالب الشعر الجاهلي فلا يصلح لتفسير القرآن إذن، إذ إنه اُنْتُحِل بعده، لكن هذا المذهب قديم أيضا نجده عند بعض المفسرين كابن كثير وإن لم يلتزمه في التفسير، وينكرون وقوع النسخ في القرآن بل يقولون إنه إنما يكون بين الرسالات فقط، وقولهم هذا ليس بِمُحْدَث أيضاً، بل هو رأيٌ قديم أورده السيوطي والزركشي في تصانيفهم في علوم القرآن، ومن أهم مفاهيمهم مفهوم الحدود فهي لا علاقة لها بفهمنا للحدود والعقوبات، وإنما الحدود عندهم حقل فيه حد أعلى وحد أدنى ولك أن تتحرك بين الحدين لكن ليس لك أن تتجاوزهما،ويوقفون التحريم على ما حرمه الله في قرآنه فقط، وهو شمولي وأبدي عندهم، وهو عيني عينته آي الذكر الحكيم ولا يزيد ولا يقاس عليه، وللرسول أن يمنع أما التحريم فقد استأثر به الله في منهجهم،ويضعون العالمية والرحمة نصب أعينهم إذ أنَّ آيات القرآن تقول بذلك (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ) ويبحثون عن المعنى المصداقي الذي يصدق هذه العالمية وهذه الرحمة، هذه أبرز أصولهم ومفاهيمهم، وقد أنتجت لهم فقها مختلفاً غير معهود، فمن أبرز ما أنتجته هذه القراءات المعاصرة أن مفردة الإسلام القرآنية يقصد بها في التنزيل كل الملل من لدن نوح إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين وذلك بترتيلهم للآيات نحو(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فكل هؤلاء الرسل والأنبياء قال الله عنهم إنهم مسلمون ويتأكد لك ذلك إن تتبعت بقية الآيات، وأن كلمة مؤمن في الذكر الحكيم تختص باتباع الرسالة الخاتمة فقط (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وإن بقية الأديان في الأرض بما فيها الأديان الإفريقية والهندوسية والبوذية تدخل تحت مدلول كلمة الصابئة، فليس مقصوداً بها الصابئة المندائية كما هو مشتهر في كتب التفاسير، وإن موجب دخول الجنة هو العمل الصالح دون النظر لأي دين تتبع (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
كما أنتج فقههم وضعا متقدماً للمرأة يفي بما ظلت تطالبه وأولوا معنى القوامة ، ولهم رؤية جديدة للميراث أكثر إدهاشاً أنتجتها قراءتهم الجديدة تخالف كل الموروث، استخدموا فيها مفاهيم الرياضيات الحديثة، وجعلوا الوصية في الميراث هي الأصل(من بعد وصية يوصي بها أو دين) أما عن علاقة الدين بالدولة فقد فصلها فقههم وفقاً لإعادة قراءة قوله تعالى (لا إكراه في الدين) ولا يسع المجال لإيراد حججهم هنا. نواصل…

د. قاسم نسيم حماد حربة

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..