مقالات وآراء سياسية

تعليم التعليم!

مجاهد بشير

لا مجال في ساحة الفكر والنقد والهدم وإعادة البناء، للمجاملات ، فتقرير الحالة الماثلة بوضوح ودقة وموضوعية، لا يعني بتاتاً القسوة على فئة محددة أو عدم تقدير ظرفها، لكنه شيء أشبه بعملية جراحية في العصور الوسطى..دون تخدير بالعقاقير الحديثة التي تستخدم اليوم.

ونحن نقبل على مرحلة يفترض أنها صفحة جديدة في مسيرة متعثرة لبناء أمة، لابد لنا أن نتعرض لواحدة من أمهات القضايا التي أنتجت الفشل والتخبط والقصور، وهي تكوين الإنسان وتشكيل بناءه العقلي والمعرفي والنفسي والقيمي، وتحديد طريقة وعيه بنفسه وبالعالم من حوله، وتفاعله مع محطيه الخارجي.

لا سلطان مباشر للدولة وصانع القرار على الأسرة والمجتمع، لكن للحكومات تأثير كبير على نظام التعليم، لناحية قدرتها على صياغة عناصره سواء المنهج أو المعلم أو بيئة التعلم وغير ذلك.

النظام التعليمي يعاني قصوراً، وفشلاً مدهشاً، ويحتاج لإعادة هيكلة شاملة، تتطلب تمويلاً هائلاً لن يتوفر في السنوات القليلة المقبلة، لكن الممكن في ظل شح الموارد الراهن، هو الشروع في إدخال مناهج جديدة، تدريجياً، وتطبيق إصلاحات تنظيمية كمنع الضرب بتاتاً وفصل مرتكبيه من المعلمين،  ومراجعة نظام التقييم والاختبار القائم على تلاوة أو تعليق اسماء الطلاب من الأول إلى “الطيش”، إلى جانب الاصلاح الأهم، وهو تغيير المفاهيم والقيم والعقلية السائدة في العملية التربوية.

لابد أن تتغير الفلسفة التي يقوم عليها النظام التعليمي في السودان، ومدخل تغيير هذه الفلسفة هو المناهج والمقررات، وتدريب وتأهيل المعلمين وزيادة مخصصاتهم المالية بحيث تكون مع الأطباء والقضاة والأكاديميين الأعلى في سلم رواتب الدولة، واصلاح الأنظمة التي تحكم البيئة التعليمية، ولابد من دمج قيم ومفاهيم كالتفكير والتحليل والنقد والجدل والحوار والموضوعية والحرية والاستقلالية على نحو متكامل في العملية التعليمية، عوضاً عن قيم التلقين والحفظ والطاعة العمياء والخوف والقهر.

المناهج التي درسنا فيها، والتي نتوقع أن المطبقة حالياً امتداد لها، لا يمكنها حسب تقييمنا أن تنتج مجتمعاً قادراً على التفاعل مع العصر والخروج من دائرة الفشل والتأخر، فمن غير المعقول مثلا أن يتخرج الطالب من الثانوية بل ينهي الماجستير والدكتوراة ولا يعرف ما هو الإنسان العاقل “هومو سابينس” ، وانسان “النياندرتال”، أو الأسلاف القدامى المنقرضين مثل الإنسان المنتصب “الهومو إركتوس” أول نوع بشري بدماغ كبير ظهر على الأرض في أفريقيا قبل 2 مليون عام.
ومن غير المعقول أن تدرس الفيزياء والكيمياء بأسلوب حفظ الجداول وحل المسائل، دون تجارب وتركيز على الطابع المفاهيمي للدروس لا التفاصيل الإجرائية، والتطبيقات العملية لهذه القوانين الفيزيائية في الحياة المعاصرة، والأهم، غرس عقلية رصد وتحليل واكتشاف قوانين الظواهر الطبيعية لدى الطالب، لا حفظ الجدول الدوري وعدد الروابط الكيميائية.
أما التاريخ الذي يدرس عندنا فلا يمت للعلم بصلة، وهو أقرب ما يكون لأناشيد وأساطير قبلية تتغنى بالأمجاد والذات القومية والبطولات المزعومة،  لا تتسم بالقدر الكافي من الموضوعية والدقة والشمول، وتغيب عنها النظرة التحليلية الواقعية، فتسقط في منحدرات تقديس الشخصيات الحقيقية والاعتبارية التاريخية.

ومن غير المعقول أن ينشأ طالب الابتدائية ويلقي المنهج في روعه أنه سليل ترهاقا وبعانخي وعلي عبداللطيف، وأنه يعيش في واحدة من أكثر الدول تقدماً في العالم، بينما واقع الحال، حسب التصنيفات العلمية والموضوعية الموثوقة، أن البلاد في ذيل الامم في مختلف المجالات، والأجدر أن ينشأ هذا الطالب على حقيقة أن بلاده متأخرة ، وتحتاج لعقول أبناءها وابداعاتهم وإخلاصهم لتنهض، وأن يتعرف هؤلاء الصغار على أمراض المجتمع وأوجه قصوره وفشله بأسلوب تربوي لطيف مبتكر، لينمو فيهم حلم التغيير حينما يصبحون بالغين، وتغرس فيهم قيم ومهارات تساعدهم على تحقيق التحول.

ومن غير المقبول أن تكون العلاقة بين المعلم والطالب قائمة على أسلوب “محاكم التفتيش” وتنفيذ حملات على الطلاب لمراقبة تنفيذ الواجبات أو التأكد من حفظ الدروس، واستخدام أساليب غير متحضرة وبلا جدوى كالضرب والتحقير والاستهزاء لبناء أجيال الغد.

إن العلاقة بين الطالب والمعلم مختلة وغير سوية، لا تقوم على الاحترام المتبادل والحوار المفتوح والإقناع والحرية، بل تقوم على الاستاذية والتعالمية “من التعالم أي ادعاء العلم” والتلقين والتصغير والقمع.

تخصيص الأموال الكافية لتنفيذ مشروع شامل لإصلاح وتوسعة قاعدة التعليم غير ممكن في ظروف الدولة الحالية، لكن هذا لا يعني تأجيل الشروع في تصحيح الوضع بإتباع استراتيجية مبتكرة وفعالة تركز على الإصلاح والتطوير بأقل تكلفة مالية.

 

مجاهد بشير

[email protected]

تعليق واحد

  1. ما قصّرت يا مجاهد..جزاك الله خيرا.. لكن خلينى اقول ليك باختصار ان تعليم التعليم دا محتاج لزمان طويييل حتى ينبعث التعليم من البِلَى ( بكَسْرة على الباء وفتحة على اللام “عشان الناس الداقسين ما يسألو عن حكاية البعث من “البِلّىِ”)! الوضوع دايرلو بخت رضا جديده ويا حبذا لويكون على راسها المرحوم عبدالرحمن على طه وفى معيته “another Griffith”.. الناقش فيكم اليوم يعرب “حبذا او لاسيما ابو/ابا/ ابى/ فيصل وفدوى ومعه قُرَيْفيس فى بخت الرضا”!* ليت بروفسيرالرياضيات صمت بالامس ولم يتحدث للنقابيين الذين اقتحموا مكتبه به مرحبين.. ليته صمت الى حين الجلوس مع كبار العاملين فى الوزاره(ان كانت الانقاذ خلّت فيهم كبير) ويتعرّف على الطالع والنازل جوّاتها (اذا استطاع) ويطلب من بعض قدامى المعلمين ( معلميه السابقين من اهل المنتدى التربوى مثلا) من لم يتلوّثوا باتحاد مهنى او نقابة منشأة اولجنة معلمين) ليضعوا له او معه”خارطة طريق” واضحة المعالم ليعود”الانسان السودانى” الى ما كان عليه قبل الثلاثين من حزيران..اهل السودان كانوا منتظرين منه”عرض” يقنعهم ان الحال تغير بعد ثوره “الكانون والغانون”ان القلم اصبح واضحى وامسى وبات وسيظل و موش حينفك يزيل البَلَم! ويتكلم عن قضايا التعليم اللى تشغل اهتمام اهل السودان وهى كثيرة لا تحصى ولا تعد! سنفرد لها احاديث مستقبلية بأذن الله.. بس نعرف عالِم الرياضيات حيظل فى عالََمه الرياضىاتى ولا حينفتح على التعليم باسره!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..