موت الشعر ..

لا يمكننا أن نتخير إتجاهاً محدداً لحركة الشعر ؛ هل تطور منذ المعلقات أم كان يأخذ مجراه إلى ‏المصب الأخير حيث الفناء إما بابتلاعه من أرض جافة أو ذوبانه في مياه مالحة. إذا كان الشعر ‏قد اتسع برمزيته -وهذا زعم لا دليل عليه- فهل ارتفع بشاعريته؟ وما هو معيار الشاعرية؟ هل ‏الوزن والقافية؟ هل الاستعارات والصور؟ هل تناسق الجمل ؟ هل تطور القارئ ذوقياً أم رهافة ‏احساسه شعورياً أم ارتفاع سقفه الفكري؟ هذه كلها كلمات لا يمكن الجزم بمدلولاتها ناهيك عن ‏جعلها معيارا وقد صدق بعض الأقدمين حين قالوا بأن الحكم وصف ظاهرٌ منضبط. ما أراه حقيقة ‏أن الشعر الآن قد فقد الحاجة إليه فهو -بأي صورة له- قد فقد ذلك الزخم الذي أحاط به منذ القدم ‏‏. وما زاد من هذه الوفاة السريرية هذا النمط الجديد الذي بدأت تحالفات من ساقطي اللغة العربية ‏في دق الطبول من حوله إذ يحقق لهم القدرة على الحصول على درجة شاعر لمجرد جمع جبال ‏من الكلمات ثم تحطيمها وخلطها خلطاً عشوائياً وهم يصرخون في وجوهنا: يا جهلاء حاولوا أن ‏تفهموا .. ارتفعوا إلى مستوانا الإبداعي. ولكن المؤكد أن هذه الحقيقة التي تمس هذا التابو المقدس ‏المعاصر لا يمكن الهمس بها إلا على استحياء .. ومن المؤكد تماما أنها أكدت على حالة الوفاة ‏لما يسمى بالشعر. في الواقع ؛ حتى قبل هذا كان الشعر ميتا. ويمكننا القول أن ما حدث هو ‏تأكيد هذا الموت. فبانتشار التعليم تحولت المجتمعات العربية من مجتمعات سماعية إلا ‏مجتمعات كتابية .. كان الشعر أداة هامة وحية في المدح والذم وإجلال القبيلة وكان لانتقال الكلمة ‏عبر التلقي والتلقين السماعي أداة سياسية واجتماعية بل وعسكرية . وأخذ هذا الأسلوب السماعي ‏ينحسر في مواجهة التطور القرائي . ونتيجة لهذا تضاءلت أو انعدمت بعض قيم الكلمة ولم تعد ‏القصيدة تمثل ذلك الخطر الذي كانت عليه حينما كان بإمكانها أن تفني قبائلَ بأكملها أو تؤدي ‏إلى بلبلة النسق الاجتماعي . وربما لم يعد ذلك الدور السياسي بالقوة التي كان عليها وإن لم يختف ‏تماما لكنه ليس بذات القدرة على الحشد كما كان في الماضي بل هو أقرب إلى بث الشجاعة أو ‏التأكيد على روح المقاومة أو مجابهة غير متكافئة لوطنية مجروحة. وربما أصبح دور الشعر ‏محصورا في جانبي الغزل والإغتراب والعزلة .. ووفق النمط الجديد فهو ليس سوى فزورة لغوية ‏يحشد لها صاحبها تحالفاته الشخصية جدا لكي يدافع عن أحقيتها في اكتساب صفة شرعية شعرية ‏‏. وهكذا فحتى ذلك الدور الشاعري في جانبي الرومانسية والإنعزال أو الاغتراب قد بدأ في ‏الإنحسار لحساب مد نرجسية الفسيفساء العشوائية. مات الشعر فهل نحن بحاجة إلى إحيائه؟ لا ‏أعتقد .. فلا التطورات الإنسانية تحتمل تلك الثقالة والبطء في الشعر قديما وحديثا ولا تحتمل ‏الألغاز اللغوية (مايسمى بالحداثة أو ما بعدها) وما أراه أن الخواطر السريعة ذات الكثافة الفكرية ‏والروحية هي البديل المناسب لعصرنا الآني؛ إنها وجبات سريعة ومشبعة في نفس الوقت ؛ إن ‏موت الشعر مؤكد بل وأنا أقف مع هذا الموت وأؤكد بأننا لم نعد في حاجة لما كان يسمى يوما ‏بالشعر تماما كما لم نعد بحاجة إلى الحمام الزاجل لنقل رسائلنا. ‏

أمل كردفاني
الخميس 24أبريل2014‏
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الاستاذة أمل
    تحية طيبة
    أولا أهنئك لأنك تكتبين في موضوعات ذات طابع ثقافي عالي الدسم كما يقولون. كتبت موضوع الأسبوع الاضي ( و الذي للأسف لا أذكره الآن بسبب العجالة في الرد) كان موضوعا قيما حسب ما شعرت به و كنت أود أن أقرأه متمهلا و لكن انشغالي ببعض الموضوعات لم يمكنني من إعادة قراءته متمهلا.
    أما موضوعك عن الشعر فأنت جزمت بإنتهاء الحاجة للشعر نهائيا و هو ما أخالفك الرأي فيه على الأقل حتى الآن أو so far) ) كما يقولون. و إن شاء الله قريبا سأورد تجربتي الخاصة.
    لك الشكر
    على مساهماتك القيمة
    محمد عبدالله الحسين
    [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..