مقالات متنوعة

راجعين يا هوى راجعين

بكري العجمي

الخميس ١٦ أغسطس الساعة الثامنة صباحا ، قررنا الإنطلاق الى ودمدني اطفالي وانا. كنا قد اتفقنا على الخروج من العاصمة في عطلة العيد.
منذ سنوات وأنا أحاول اقناعهم بأن الأضحية غير واجبة لا على الفقير ولا على المقتدر سيما وانها اصبحت مظهر اجتماعي وجزء من متطلبات الطفولة الملحة. تدعمها خلفية متجذرة لثقافة التدين البرجوازي الذي في كثير من حالاته يغالط روح الإسلام السمحة، شأنه شأن الحج والعمرة. ذلك موضوع آخر يمكن نقاشه متى ما  سنحت الفرصة.

أقنعتهم بإمكانية السفر لموقع سياحي داخل السودان والتمتع بعطلة العيد الطويلة بفعل إنهيار البنية التحتية للدولة ، وبفعل الفساد.

فكرنا سويا في زيارة كسلا وزيارة جبل توتيل بل ومن الممكن زيارة ارتريا ايضا.

على كل حال قررنا ان نزور ودمدني.

الأربعاء هطلت الأمطار فأعلنت الحكومة عطلة العيد ابتداء من الخميس. شوارع الخرطوم كأنها صحون مملوءة بالماء. رويدا رويدا وصلنا شارع مدني. بعد حوالي ساعتين.

ولاية الجزيرة الخضرة فيها على جانبي الطريق الجو صحو والغمام يطارد رحلتنا ، الشمس طفلة  تخرج عينها النعسى ثم تغط في نوم صباحي وسيم .

وصلنا ودمدني .حي الدرجة حي هادئ ،  الأصدقاء تلغفونا،  رغد (تسع سنوات عمرها)  وأمها ، اوصلونا الى حيث  سنقضي اجازتنا.  واعدنا براءتها  بأن نبقى بينهم لمدة اسبوع. أمها انسحبت بذكاء لتدع الطفولة تقرر مصيرنا. في جلستنا الأولى مع رغد تعرفنا على اسماء الملاهي والحدائق واماكن الفوضى والمرح . حديقة الجزيرة الأقرب الينا على بعد خطوات ، حديقة مسك الختام ترقد على شاطئ النيل الازرق، نادي الجزيرة به مسبح جميل.  منتجع الكاسح قرية سياحية خضراء  داهمتنا بل غازلتنا الأمطار فيه فغسلت كآبة البحث المضني عن الرغيف في صفوف الخرطوم، الأطفال سيذكرون الكاسح كثيرا ، ابتلت ملابسهم فخلعوها، فإبتلت جوانخهم البضة في لهو طروب.

دخلنا بيوت احتوتنا بكرم فياض ، اكلنا لحوم الأضحيات وشربنا شربوت العرديب والكركدي حتى الثمالة كنا نضحك أطفالا خلاسيين.

مضت الأيام الثمانية سريعا زرنا فيها مركز البحوث الزراعية تصاميم الابنية فيه على الطراز الانجليزي العتيق ، ثم مضينا الى حنتوب حيث المدرسة ، حيث درس فيها ابناء البسطاء المتفوقين ، شاهدنا غرف الدراسة الكبيرات ،المباني الفخمة ،الداخليات ، اشجار النيم والساحات، حدثتهم -أطفالي- عن كيف كنا في زمن سابق يدرس ابناء الفقراء على نفقة الدولة عن كيف انهم كانوا يأكلون ويشربون وينامون  ويغسلون ملابسهم على نفقة الدولة. وضحت لهم بعض الشخصيات التي كانت تدرس في هذي الفصول. بدأ قلبي ينقبض خفتت  البهجة في نفسي قليلا ، حين قلت لأحمد ان النظام التعليمي الحالي لو كان في زمنهم لما استطاعت اسرهم تعليمهم ولكانوا من الفاقد التربوي وليتهم كانوا.

شعرت بعدها بشئ يشبه الهبوط وإنكفأ قلبي او انكفأت على قلبي حين ذكرت اسماءهم. ثم كانت القاضية.

تحركنا بإتجاه مارنجان ، بركات حيث ادارة مشروع الجزيرة ، المناظر تنبئ عن جمال طبيعي رغم تدخل الأيادي الآثمة.  في محطة مارنجان القطار يذكرنا بأمل دنقل في (كلمات سبارتكوس الأخيرة)

معلّق أنا على مشانق الصباح

و جبهتي – بالموت – محنيّة

لأنّني لم أحنها .. حيّه !

… …

يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء

……..

لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ

يبتسم الفناء داخلي ..

رفع الأطفال عيونهم امام القطار القابع بلا حراك، صعدوا عليه وكابينة (الأشرجي) الصدئة تقف أمامهم تحدثهم عن عهود مضت بالزخم والزحمة. مكتبه – الأشرجي- يرقبهم من بعيد.
دخلنا الى بركات رئاسة مشروع الجزيرة ، الخضرة حاضرة بالطبع ،  استراحة الموظفين كأنها امراة كانت جميلة منذ سنوات مضت،  غالبتها صروف الزمان فغلبتها لكنها لم تزل محتفظة بلمحة من جمالها ، نضرة رغم السنين.
أبكاني المشروع واصوله المهملة ، هيجت اشجاني حنتوب وبعض طلابها الذين عضوا الأيادي التي اطعمتهم. نظرت لعيون اطفالي ربت على رأس رغد .. وفي سري قررت مغادرة المكان والمدينة فقررت الرحيل. وسط دهشة الأصدقاء خرجنا ليل الخميس. انطلقنا في طريق الخرطوم وصوت فيروز  يغني : راجعين يا هوى راجعين ..
أعدت سماعها عدة مرات ، فما أجملها فيروز حينما يحل الليل وحين يكون الطريق  خال الا من اطفال نيام.

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. عرفت سبب الذي اغلقة مدرسة حنتوب الثانوية وتشتيت الطلاب الذين يدرسون فيها عام 1994م، حئنذاك كنا متنقلين من الصف الثاني الى الصف الثالث الثانوية، لكن بعد ما شتتونا قدرنا نواصل تعليمنا حتى خرجنا في جامعات السودانية.

  2. اشهد الله يا اخ يا بكرى با “عجمى” خنقتنى العبره .. تمكنت من الوصول الى نهاية وصفك بعد معاناة مما كنت احس به من امتاع لتذكار ودمدنى الفيحاء وارجائها على الشاطئين الغربى والشرقى وما كان بهما ومن كانوا فيهما فى سوابق الايام والدهور.. جزاك الله خيرا.. (انا برضى راجع مهما طال نزوحى.. و باذن واحد احد تصدق الآمال وتطول الآجال ونتقابل على مشارف المدينة الباسلة!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..