مع عقد الجلاد.. بطن الحوت.. وشمس الحداثة الزائفة

عماد البليك
اخر الزمن يا ناس ودوا الولد للسوق
الا القرش خلاك خاوي الكرش والرأس
وين قلمك المسنون وين دفتر الكراس
حظاَ سعيد للناس يتواري في الاوهام
قالو العلم ممحوق كتر الفهم ما بحوق
اخر الزمن يا ناس ودو الولد للسوق
سؤال الحداثة السودانية التي اتجهت للسوق بشكل زائف وغير ممنهج ثم لم تصبح لا سوق ولا علم. اليوم يتمظهر المجتمع السوداني في ثقافة “سوقية” يتعالى على المعرفة بظن العلم.. ويصبح تاجرا في الكرين او مطاردا للعملة الدولار أو سمسارا في أي من شؤون الحياة. الواجهة هي السمسرة في كل شيء. حتى العلم قسم هبته إلى أن تصبح سلعة في دكان الأسرة، بظن أن تكون طبيبا ناجحا أو مهندسا أو سارقا. المهم أن تجلب المال. أن تكون ابن السوق وان ترمي بالقلم المسنون. وقد اثبت الزمن أن كتر الفهم ما بحوق، قاعدة الحياة منذ عشرينات القرن الماضي وإلى اليوم التي تنعى الفطرة وتجابه السماجة والتمدن الزائف.
تراكمت الأسئلة بلا اجابات، التيه والانسياق الغبي للأزمنة المجترة، التعالي الفاضي. والفوضى. والتدين الأبله. الاشتغال على التاريخ المنسي. الماضي. اجترار الأبقار. ابتكار القلق المدمر للذات. ما بين ساحة الذكر والدروايش وسكارى الليل، ولا حدود للأمل إلا في الخروج عن القوقعة. نحن المتقوقعون إلى الأبد. يبدو ذلك. أبدية الاشتهاء للمجهول دون ترتيب.
***
الأهلية كملت ياحبيب راحت
ياحليل شمس المحنّة الغربت طاحت
بسم الله إبديت مِتل البرق لاحت
بالشين والفسل بقينا نتباحت
طال الكان قصيّر والعالي إتداحت
الصولات حِليلن ملكتِن راحت
تتناسل الأسئلة وتغيب الملاذات، وحيث يبدأ التأريخ للأهلية التي غابت شمسها. غياب شمس المحنة. بداية الانسياق والانجرار وراء التحديث الممحوق. الفسل. يأتي الإنسان الجديد مفتقدا لصولاته ولذة ماضيه – إن وجدت – وربما بدا ود ضحوية هاجسا بالتمني او اختراع الممكن ان لم يكن ما صوّره حاضرا من ذي قبل، وهو ما يفارق صورة التاريخ غائب التسطير حتى لو شفاهة عن سنوات المهدية مثلا. أين هي المفارقة يا ترى؟ الله أعلم. فليس لنا من تدوين ولا كتاب نهج للحياة مدون. ليس من اختراع للأنبياء ولا الفلاسفة. ربما وجدوا ثم ضاعوا في الغياهب والأزل الممهور للنسيان.
جاء فجر نهاية الأهلية. الكمال هنا يعني النهاية.. الانتهاء. كملت. انتهت. وجاء فجر الشين. فجر التباهي بالغياب والقبح. يلوح برق الحسنات ثم يزعق رائحا بلا مودة ولا بقاء. بدايات المجهول.
****
نحنا حفايه في بلدك
مجدي النور
****
فاجأني النهار!!
وما هو النهار؟ ليكن هو البداية. السؤال. الانسياق وراء المجهول. وحيث تكون المفاجأة. لماذا يفاجئ النهار الإنسان. الزول. لهذا السؤال كانت الإجابة ببساطة، تلخيصا لحال الحداثة. العصرنة. التماهي في عصر جديد لم يستعد له أو كأنه كانت تلك اللحظة التي جاءت لتعطل الحقيقة والبدائية. البداوة والريفية. المحل الأول والمهد والرحم.
يطرح مجدي النور في هذه الشعرية التي تغنت بها عقد الجلاد بما يشبه تمويج الذاكرين. واحدا من الاستفهامات المبرحة والقاتلة، في عقيدة الأنا. والهوية. ويجعلنا نستفسر عمن نكون بالضبط؟
فاجأنى النهار
وأنا ماشي بيناتا
أتساقط باقي حنين
لسه عيونك ياها عيونك
كانت تلك اللحظة الهامسة اللامحددة. المفاجأة. وحيث أطل فجر جديد. بل نهار مشرق تام. دون حساب ولا حسبان. وكان للذات أن تقترح موقعها دون أن تدركه.. فأنا “ماشي بيناتا”.. من هي؟ ومن هو؟ ومن يكونون؟ ثم يبدأ التساقط بفعل الاحتكاك والأذية المبكرة. يبدأ الحنين في التساقط. كما تبدأ الأهلية عند ود ضحوية في التلاشي. الحنين كعلامة على فيزياء الوجود. الحنين الذي كان صديقا للزين في رواية الطيب صالح. الحنين كرمزية للأمس والأهلية والقربى والدم. ثم دخلنا النهار المفاجئ. ولننتبه إنه باقي حنين وليس حنينا كاملا فالسقوط تمّ سلفا. متى؟ لا تحديد.
العزاء أن الرؤية ما زالت باقية. أنت تراني لا أنا أراك. مطلوب ذلك. أو يبدو. وهذا هو عمق الإشكال. فعيونك لم تتغير أيها الفاقد للحنين. ستكون قادرا على التتبع والمشاهدة لكنه حضور الصورة لا حضور المشهد العميق الورائي الذي يرسمه الحنين، يبدأ معه زمن التجسيدات والمجسمات.
فاجأني النهار
وأنا ماشي بيناتا
أتساقط باقي حنين
لسه عيونك ياها عيونك
تكسر باب الدم السري
وتجري تنعس عشب القلب
وتبكي سماهو فراش
يا ناعس بين الخلوة وريحة الصندل
فلت الطين
النيل قصاها ضفيرتو
شراها رماد
وفجا حنين
يسري الحلم الموجوع
لابطلع وقت اللقيا
لا بهجرني و جواي ضلوع
يا مولود مظلوم في رئتك
ميّز ريحة المطره او اتخيل بيناتنا رزاز
انا حلفت بنات الشجر
الماطر ماتنزل صفقه
تعري صفير الريح
يلقى غناهو
الليل الماكر
همست شجره لتاني شعاع رباني
شاقي الحله
يدخل فرحة شافع
ويطلع ايقاع نوبه
نحنا حفايه في بلدك اتلفتت فوق كتفينا
ود العين ندى وطار
عصفور نبت فينى الريش
صفقت جريت فرحان
ما تغطيني إنا عرقان من وهجي الفينى
****
مجدي النور محمد
مواليد بحري يناير 1967
كاتب ومخرج مسرحي وتلفزيوني وشاعر
صدر له عن شركة ( قاف ) ديوان فاجأني النهار 2005
تخرج من معهد الموسيقى والمسرح اخراج مسرحي 1994
قدم العديد من المسرحيات في مسارح السودان المختلفة في العاصمة والولايات
مثل عجلة جادين الترزي والحلة القامت هسع وغيرها
اخرج للتلفزيون السوداني عدد من الأفلام والتمثيليات مثل صهيل العقاب ولمسة وفاء وغيرها
شارك في تأسيس جماعتي المسرح التجريبي والنفير المسرحية
يعتبر من طلائع ما يمكن أن نطلق عليه مسرح المهمشين
توفي أثر حادث حركة يوم 13 ديسمبر 2006
****
التيه في المدينة والأمل
نحن أهل الفرحه جينا
لا المدامع وقفتنا ولا الحكايات الحزينه
لما درب الرايحه جابنا في هادى المدينه
يا ولدى الدروب شقاقا بحر التيه
ليك درب ولا دربين مساك الدروب ضهاب
ليك قلب ولا بالين وسواي القلوب كضاب
ليك ضهر ولاسرجين وركاب السروج وقاع
تشق يا ولدي بحر التيه بتتدردر وتتودر
ولامن يوم علي تايهتنا ديك ترسي
نرشك بالقبيل داخرنو ليك
الشوق بحر يا ولدي بحرا التيه
محمد طه القدال.. الله. هنا الأسئلة تنفتح نحو الإجابات. حيث يعود للمختزن عبر التاريخ والذاكرة والتجربة أن يبتكر المعنى، كيف لك أن تكون أيها التائه، أيها الذي فاجئك النهار وغابت أهليتك ومزقك الزمن الجديد، الحداثة. التيه.
تعلم أنه مهما كان ليس لك أن تكون إلا أنت فالمدن لن تغيرك. نعم قد قادتنا هذه الحداثة إلى دخول المدن التائهة وغربلت ما فينا من بقايا القلب، لكن عليك أن تدرك تماما أن دخولنا هنا كان خطئا ما.. إنه “درب الرايحة” ولهذا علينا ابتكار الدروب الجديدة. درب واحد لا دربين. قلب واحد لا قلبين. ودع التيه وأبدا أن تكون أنت. بعيدا عن الندم والأسف والتوهان. لا تبكي.
قلت لك أن الحزن والمدامع لن توقفنا عن الفرح. سوف تستمر الحياة وسنكون نحن مهما كان. فقط درب لا دربين. قلب لا قلبين. لا تكذب “تكضب” على ذاتك لا تحاول أن تكون بأكثر من قلب وبأكثر من هوية. أنت أنت. ولا تركب أكثر من سرج. ودع الأمس وابدأ اليوم. إذهب للمدخر وللأمل وللشوق البحر.
تذكر أن الطريق إلى الخلاص وأنت تمخر بحر التيه سوف يعلمك. التجربة “الدردرة”هي التي تصنعك. الودار ربما الطويل.
سبتمبر 2016 نشرت لأول مرة بالفيسبوك
[email][email protected][/email]