العمل التطوعي في السودان والتحدي الاعلامي والتوثيقي

في ظل التطورات المتسارعة في العالم من حولنا وتركيز منظمة الأمم المتحدة على تحقيق تنمية مستدامة على نطاق واسع، اتجهت الأنظار إلى أهمية العمل التطوعي وما يمكن أن يلعبه من دور كبير في تحقيق الأهداف التي من شأنها أن تغيّر الواقع في الكثير من البلدان النامية، فكانت التجربة خير برهان نجحت الكثير من الدول التي اتبعت سياسات اشركت الشباب في العمل الطوعي بعد أن وجهتهم إلى مشاريع قابلة للتنفيذ، فتم إحراز الكثير من الانجازات ضمن أهداف التنمية المستدامة، لذلك لم يصبح للمتطوعين صوت في المنظمة الدولية فحسب، بل أصبح رأئهم مؤثر جدا في بلدانهم وفي مجتمعاتهم في كثير من الأحيان، وهذا ما يحدث الآن في السودان.
في الآونة الآخيرة مع الأزمات المتلاحقة التي حدثت في بلادنا العزيزة برزت بقوة أخلاق شعبنا السودانيين في اغاثة الملهوف ونجدة المستغيث عبر عشرات المنظمات التطوعية والمبادرات الانسانية التي انتشرت وملأت الفضاء الانساني باعمالها الجليلة فأسهمت بقدر كبير جدا في سد الفجوة وتوفير الكثير من المعينات واغاثة الكثير من المناطق التي تأثرت بهذه الأزمات، و*من هذه المنظمات منظمة (دعاء الملائكة) التي انتشرت في كل بقاع الوطن العزيز، بل في عدد كبير من البلاد التي يقطنها السودانيين لها مجموعات نشطة، والمنظمة السودانية لدعم التعليم (سيدسو) التي أسسها الفقيد الدكتور الطيب النعيم عليه رحمة الله وحققت انجازات كبيرة وعظيمة أعادة الثقة لنا كسودانيين في أنفسنا ومقدراتنا على مجابهة كل التحديات*.
المدهش لدى هؤلاء الشباب أن مستوى الشفافية والتناغم والانسجام فيما بينهم عالي المستوى، لذلك ظهرت منظماتهم ومبادراتهم بشكل يبعث عن الفخر والاعتزاز، ومن الاشراقات الجميلة نجد أن العنصر النسوي في مقدمة الصفوف في كافة المجالات الادارية منها والميدانية والمالية والإعلامية.
هذه الأعمال الوطنية التي نعتز ونفاخر بها ايما فخر كانت صيدا ثمينا للقنوات الفضائية والاذاعات السودانية الخاصة والعامة، كما انتشرت مقاطع الفيديو على نطاق العالم الافتراضي تتحدث عن اعمالها الجليلة وانجازاتها على أرض الواقع وبرز الشباب السوداني في افضل صورة تشرف كل وطني غيور على بلاده.
*لكن*..!!.
لكن هذه تجُر ورائها شعورا بالأسف لأن كل ناتج عمل هذه المنظمات التطوعية والمبادرات الانسانية موجود على منصة (اليوتيوب) ومجموعات (الواتساب) كمقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية فقط، لكنها لا توجد في صفحات الصحف اليومية، وهذا النمط لا يعطي الصورة الكاملة لهذه الانجازات الحقيقية على أرض الواقع برغم الحماس الشديد جدا لدى الشباب، هذه المنظمات استقطبت أعدادا كبيرة من خريجي العلاقات العامة والاعلام والوسائط التفاعلية لكنهم ركزوا على المادة المُشاهدة فقط..!.
إن المنخرطين في هذه المنظمات يغفلون تماما المادة المكتوبة، ومن هنا فإن المهتم مثلي بالتوثيق التأريخي والاعلامي يجد صعوبة شديدة جدا في الحصول على المعلومات المكتوبة مثل التقارير السنوية والدورية والتقارير الاخبارية حتى يتعامل معها بالنشر في الصحف السيارة والمواقع الالكترونية المهمة بالنشر والترويج لهذه الانجازات الوطنية والانسانية بالطريقة التي ترسخ لدى شعبنا اهمية العمل التطوعي في بناء الوطن الذي نرنو جميعا ليكون في قمة التطور.
*للأسف هناك جهل كبير جدا لدى هذه المجموعات والمنظمات الشبابية باستخدام برامج الحاسوب في نشر الأفكار والرؤى في مجال عملهم التطوعي، ونشر الاخبار والتقارير والمادة المكتوبة، تصلني كثيرا تقارير غاية في الأهمية مشفوعة بالأرقام والاحصائيات عن ما تم انجازه، لكن للأسف الشديد وأقولها بألم تأتي مقاطع مصورة أو مكتوبة لكن بصيغة (PDF) بحيث لا أتمكن من التعامل معها، وعندما اتصل بالمنظمة المعنية تجد كل مسؤول يحيلك للآخر وفي النهاية تصل للشخص الذي أرسل تلك المادة بصيغة (PDF) لكي يعيد ارسالها إليك بصيغة (WORD) وبعد محاولات كثيرة تفشل في الحصول عليها، وفي النهاية تغض الطرف والاهتمام بها وفي نفسك حسرة، لأن هذه المعلومات القيمة لا تصل للسواد الأعظم من الناس*..!.
*هناك اعتقاد خاطي جدا لدى الكثير من الأخوة الافاضل في قيادات هذه المنظمات التطوعية بأن المواد المصورة كالفيديوهات واللقاءات التلفزيونية التي تعمم على مجموعات (الواتساب) و(الفيس بوك) يشاهدها الناس، هذا اعتقاد خاطئ جدا، خاصة في بلد كالسودان واشكاليات شبكات الهواتف النقالة، وكفاءة الانترنيت ومدى توافرها للجميع، مثل الدول التي نعيش فيها لسهولة تحميل الفيديوهات وبأكبر عدد منها وامكانية تعميمها على الجميع، إن المادة المكتوبة في الصحف تأثيرها قوي وواسع ربما تتواجد في بيوت سودانية كثيرة، إضافة إلى أن المادة المكتوبة تتداول بشكل كبير بين الناس، وإمكانية ارشفتها في دور الوثائق ومراكز البحوث والدراسات متاحة لسهولة حفظها، كما تكون في متناول يد الباحث والكاتب، عكس المادة المصورة التي يحتاج حفظها لإمكانيات كبيرة*.
ربما لا يدري هولاء الشباب بأن ما يقومون به في الوقت الراهن هو لبِنات لوطن قوي متماسك نفاخر به جميعا بين الأمم، وأن التاريخ الحديث سوف لا ينسى هذه الإنجازات التي ستطلع عليها الإجيال المقبلة بإذن الله، أعتقد أن هذا مرهون بقدرة هذه المنظمات على الاهتمام بالتوثيق الإعلامي والتاريخي المكتوب على وجه الخصوص..!!.
إن الأمم الحية هي التي تهتم بتوثيق انجازاتها وتاريخها، وتوثيق التحديات التي واجهتها والكيفية التي استطاعت بها تجاوزها والعبور إلى ضفة النجاح، إن قراءة التاريخ لم تعُد مجرد مادة تدرس في الجامعات والكليات المتخصصة، بل أصبحت من أكثر العناصر الاستراتيجية في اتخاذ القرارات المهمة، الطبيب عندما يهم بمعالجة مريض ينظر لتاريخها الطبي والعلاجي، الدول عندما تريد أن تنشئ علاقة مع دولة أخرى تقرأ تاريخها وتتأمل فيه وتعرف مكامن القوة والضعف فيها حتى تعرف الكيفية التي تتعامل بها مع هذه الدولة.
الكثير من الناس يستهينون بالعمل التطوعي وبأهميته وبتوثيق نجاحاته، لكن في الواقع أن الطاقات القوية لدى الشباب الناهض لا يمكن أن يستفاد منها إلا في العمل التطوعي الممنهج والمدعوم رسميا وشعبيا لتنفيذ مشروعات *تخدم المجتمع وفي سد الثغرات الكبيرة كما لدينا الآن نموذج منظمة (دعاء الملائكة) التي تعمل في مجالات أطعام طلاب المدارس بوجبة الفطور بشكل مستمر في عدد كبير من المناطق في السودان، وفي تأهيل المدارس ودعمها بالأدوات والوسائل المساعدة، وتوفير مياه الشرب للطلاب، والمنظمة تعمل بشكل مؤسسي وهي كيان ضخم ولها حسابات مصرفية وتدار اعمالها بكفاءة عالية، وهي نموذج وطني حقيقي للعمل الطوعي الذي يسهم بشكل كبير في تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتي تُعرف أيضًا باسم الأهداف العالمية*.
التحية والتجلة لكل الذين يعملون في صمت وبجدية ونكران ذات من أجل رفعة بلادنا العزيزة وانسانها الأبي، والتحية كذلك لكل الدماء الشابة والكفاءات الوطنية في كل المنظمات التطوعية ومؤسسات المجتمع المدني التي تزرع الأمل في النفوس وتفتح الآفاق الواسعة لشعبنا العظيم في أن يلحق بركب الدول المتقدمة.
صحيفة (الديمقراطي)
*خالد عبدالله- ابواحمد*