مصر لا تزال في انتظار تصوير حقيقي لملحمة العبور بعيدا عن الرومانسية!..حرب أكتوبر حدث سجلته السينما وطوته صفحة الذكريات:

الأفلام التي تناولت انتصار اكتوبر تعد محودة جدا قياساً على حجم الانتاج السنوي للسينما المصرية فمنذ فيلم حكايات الغريب المأخوذ عن قصة الكاتب الروائي جمال الغيطاني والذي أخرجته المخرجة إنعام محمد علي قبل نحو خمسة عشر عاماً أو يزيد لم نلحظ وجود فيلماً جديدا يوثق للحرب الكبرى.
كانت المرة الأخيرة التي تحدث فيها السينمائيون والمثقفون عن ضرورة العناية بهذه المناسبة الوطنية عام 2006 في مؤتمر حضره فاروق حسني وزير الثقافة واقترح فيه البحث عن ممول أجنبي لإتمام مثل هذا المشروع الضخم ولاقى الاقتراح اعتراضا شديدا حينئذ، ومن يومها لم يعاد فتح الملف مرة ثانية واكتفى المعنيون بأمر السينما المصرية بما تم انتاجه فعلياًَ من أفلام وعرض منذ عدة سنوات مثل ‘بدور’ و’الرصاصة لا تزال في جيبي’ والأخير بطولة محمود يس ونجوى إبراهيم ويوسف شعبان وأحمد الجزيري وعبدالمنعم إبراهيم وقد بدأت أحداثه في أعقاب نكسبة 67 وألقى بالتبعية والمسئولية على رجال الاتحاد الاشتراكي والدولة البوليسية فالفيلم يحمل إدانة صريحة لرموز فترة الستينيات وزمن عبدالناصر لكونه انتج في عهد أنور السادات بعد 73، حيث أراد أن يقول من خلاله انه كان سببا في إعادة هيبة الدولة وإقرار مبدأ الضبط والربط داخل القوات المسلحة وخارجها، ومن ثم نسب الفضل في انتصار أكتوبر لنفسه فقط متناسياً دور عبدالناصر في بناء الجيش، وفي هذا السياق ركز فيلم ‘الرصاصة لاتزال في جيبي’ على مثالب النكسة أكثر من تركيزه على الحدث التاريخي نفسه، اللهم إلا مشاهد العبور هي التي أخذت مساحة أوسع نسبياً باعتبارها مشاهد رئيسية، أما بقية الأحداث فكان معظمها قائم على الخطابة والموعظة وتلقين دروس الوطنية، فضلا عن اللغة الرمزية للسيناريو والإخراج واعتبار اللون الأخضر الذي ظل حاضرا طوال الوقت متمثلا في ملابس البطلة وأماكن التصوير إشارة للنهضة والتعمير، كما اشيد للبطلة ‘فاطمة’ بوصفها مصر، الفتاة الجميلة المثيرة للطمع من كل الأطراف والتي يظفر بها البطل القادم من الجبهة حاملا لواء الانتصار.
لقد أفسدت المباشرة واللغة الدعائية الفيلم وحولته الى إعلان طويل عن انجازات السادات وحده، ولكن برغم هذا احتفى به الجمهور لافتقاره لنموذج آخر اكثر موضوعية، يضاف الى فيلم محمود يس ونجوى إبراهيم مجموعة قليلة منها ‘العمر لحظة’ وهو انتاج الفنانة ماجدة الصباحي وبطولتها وأول ظهور للفنان الراحل أحمد زكي ويعد تجسيدا حقيقياً لحالة الحرب، إذ يطرح معاني إنسانية مختلفة في إطار رومانسي تمتزج فيه البطولة بالتضحية ويعلو الأداء لمادة وأحمد مظهر وناهد شريف بالقيمة الحقيقية للحدث والانتصار العظيم ويكشف التناقض بين شخصية الصحفية التي تترك جريدتها وبيتها وتذهب الى جبهة القتال لترى كل شيء على الطبيعة وتعيش يوماً كاملا بين الجنود والضباط لتكتب من واقع ما رأت واستشعرت من آيات البطولة والفداء، وبين ذلك الزوج الانتهازي غير المبالي الذي لا يشغله سوى نفسه فقط.
من بين ما أنتج ايضا في فترة السبعينيات وحاول توثيق حرب العاشر من رمضان 73 فيلما بعنوان ‘الوفاء العظيم’ بطولة نجلاء فتحي ومحمود يس وسمير صبري والراحل كمال الشناوي وحسين فهمي وهو لا يختلف كثيرا في بناءه الدرامي فيبدو أن المناسبة قد فرضت على كتاب تلك المرحلة نمطاً واحدا فما يطرح لم يخرج عن قصة حب مشتعلة بين البطل والبطلة يتخللها مشاكل بين عائلتين علي طريقة رةميو وجوليت، وفي أثناء تنامي القصة العاطفية تندلع الحرب فيذهب الحبيب الى الجبهة ويلتقي هناك بالغريم فيتناسى الاثنان الكراهية امام الواجب الوطني وتنتهي الحرب ويعود البطل مبتور الساق ويعيش في أزمة نفسيةو فيما تظل البطلة تبحث عنه في المستشفيات فلا تجد له أثرا، إذ يفلح في الاختفاء منها وبعد فترة يلتقيا وتبدأ المواجهة الصعبة ولكنها تقبل الزواج منه وتعتبر إصابته وسام شرف ويخضع الأب كمال الشناوي لرغبة ابنته وهكذا تنتهي الحكاية دون الغوص في عمق الفكرة الأصلية ولا تزيد صور المعركة عن ثلاث أو أربع مشاهد فقط لا غير!
الأمر الذي تبدو معه عمليات تجسيد الانتصار ساذجة وغير مقنعة فما يتم المتاجرة به في شباك التذاكر فقير جدا على المستوى الدرامي ولا يمكن اعتباره محاكاة للأيام الستة المجيدة، وانما لا يزيد عن كونه نوعا من المراوغة والتلويح بشكل الحرب وليس فنا سينمائيا عن المعركة والعبور، على عكس الأفلام التي طرحت النكسة من منظور سوداوي تراجيدي مثل الفيلم المهم أبناء الصمت للراحل محمود مرسي فقد كان معبرا عن حالة الانكسار.
والهزيمة من بدايته الى نهايته وربما ترجع الاسباب الى فداحة الحدث والوجع، حيث يفجر الألم الطاقات المخزونة لدى المبدعين.
ولا يمكن نسيان فيلما مهماً آخر هو ‘أغنية على الممر’ الذي يعد واحدا من الأفلام ذات الخصوصية والمتفق عليه من كل المبدعين والنقاد.
نأتي الى تجربة المخرج علي عبدالخالق ‘يوم الكرامة’ وهي الأحدث الى حد مالا من التجارب المذكورة ولكنها تختلف في توجهها لكونها سينما اقتربت من التوثيق برغم انها روائية طويلة وايضا لأنها اعتنت بتسجيل الإنجازات العسكرية والفدائية لحرب الاستنزاف حتى لا تسقط سهوا من التاريخ وبالفعل نجح الفيلم في إلقاء الضوء على واحدة من معارك رد الاعتبار لتظل حية في عقول ووجدان الأجيال الجديدة، باستثناء ما ذكرنا لا يوجد إلى الىن فيلم حقيقي عن أكتوبر ولازلنا في انتظار القادم بعد الثورة.
القدس العربي