مقالات وآراء

تَحيّةٌ لِشَاعرٍ مُزْدَهِرِ القوَام: شَـوقِي أبي شَـقرا..

أقرب إلى القلب :
(1)
الثلجُ يحار في القدومِ، في أيّ فندقٍ
وأيّ غرفة ٍ، حتى يهتدي إلى
أغصاني .
يختارني من جميعِ المتكئين
في الزوايا على حجرٍ ثمينٍ على
نقشِ نجمةٍ على أسطورةٍ على
خنزيرٍ غاضب وإكليلٍ من النصر
وأمجّد الخالق .
(شوقي أبي شقرا)

لم أبلغ أنا سن العاشرة حين امتشق هذا الشاعر الكبير خيل القصيد، وكتبَ وكتبَوكتبَ حتى امتلأت “أكياس الفقراء” * من شعره، واغتنتْ من بهاءِ اللغة تخرج منطوقة من قلمٍ، وتترقرق دمعاً من محبرة. لم أعبث بشعرِ كِتاب الأطفال بعد، لكن “شـوقي أبي شـقرا”، هذا الشاعر اللبناني الكبير، كان قد ابتنى لنفسه قصراً من شموخ اللغة،واستوى شاعراً يتبعه غاوون كُثرٌ، قبل عام 1959الميلادي. جمع اللؤلؤ والمحار من بقايا مائدة التاريخ والغناء، سجد في كنيسة ما في جبل لبنان، وتساقى خمر الخيال إلى حدّ النشوة، ثم انتضى سيفاً وامتطى فرساً وضرب في الجبل، ولم ينحنِ لعاصفةِ التقليد، ولا لبكائيات الأطلال، ولا لمعابثة الحجارة .

عن معهد بخت الرضا ، في نواحي الدويم على النيل الأبيض في السودان، دعني استدعي طفولتي وأحدّثك، أيها المذهّب بالفطرةِ، المُنتعل نجمات الخزامى والبنفسج اللبناني. من ذياك المعهد كانت تأتينا أولى كتيبات فكّ الحرف وانكشاف اللغة واستهلال الخيال. ثمّة عبقري فيلسوف ومُربّي متوّج بماسات اللغة،اسمه عبد الله الطيب المجذوب، ينظم لأطفال في سن السابعة وحتى العاشرة، شعراً يقرّب الدنيا الواسعة، خيالاً وصوراً، إلى عقولنا الصغيرة المقفلة من زمن التخلق بمزاليج الغفلة المموّهة. تساقينا القصيدة مموسـقة في مناهج التعليم الأولى، وقد توافقتْ مع سذاجة التلقي التي نحن عليها، نرقص لإيقاع بدائي ونطرب معها. لحرفِ اللغة العربيةِ رنين نسمعه كأنهُ يخرج عن أجراس معبد مخفيّ في السموات العُلى. من قصائد كتاب الأطفال، كسبتُ أنا جائزة تذوق اللغة المخمورة بالوزن، المُتخمة بالقوافي، وكأن الغيب قد أخفي عني شاعريتي، فلم أتبين سريانها في شجر العقل ولا في سوسنة القلب، وأنا بعد في اخضرار الطفولة غضّ الهـوى. كيف جاز لي – إذاً – أن أكتب الشعر و”أبي شقرا” ينظم أيضاً..؟
(2)
هكذا خرجتْ في عام 1959، قصائد الشاعر شوقي أبي شقرا، فملاء بها “أكياس الفقراء” – ديوانه الأول – والشعر الجديد يتحسّس طرقاً وعرة على شريعة التفعيلة، علاها شوك واستبطنها حنظل.. وقف حُماة القوافي وقباطنة بحور الخليل، يذودون عن حقول الشعر القديمة، هجوم طيور وعصافير ملونة أطلقها من حسبوهم متغوّلينقراصنة، مثل نازك: زرقاء يمامة الشعر، ومثل بدر السياب الذي استدان الشعر عافية وحداثة من أفول جسمه ورماد صدره. خجلتْ تجاربنا في السودان، ولها في التفعيل ريادة، وما خرج صوتها إلى أبعد من زواريب “العباسية” في أم درمان، حيث كان يقيم “محمد المهدي المجذوب” في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. خدنه وابن عمه “عبد الله الطيب المجذوب”، هذا اللغوي الورع – بعد اللغوي السوداني الأول الشيخ الطيب السّراج – هو ثاني سوداني يجلس في مجمع اللغة العربية في القاهرة عضواً فيه عام 1961 وحتى وفاته عام 2003. طرق الراحل “عبد الله الطيب” وكذا ابن عمه “محمد المهدي المجذوب”، باباً من أبواب الشعر هو الأقرب لشعر التفعيلة التي ظهرت لاحقاً، ولكن هو السودان والسودانيون: صوتهم إلى خفوت، وإن خرج فليس له صدى ..
لك أرفع بعض قصيد منثور قديم لشاعرنا الفذ الرّاحل “محمد المهدي المجذوب” :
وقفت على سيف البحر الأحمر
الموج أزرق، الموج أخضر
الموج أصفر، الموج أغبر
عيني هناك في الأفق
الموج هناك جامدْ
الموج حائط مهدّم في صحراء
أحاطت به أمواج الرمال وجمدت عليه ودار رأسي . . الموج الموج
هذا من نظم المجذوب في 26/12/1959.
ثم هو نفسه ذلك الشاعر الفذ الذي قال عام 1958 والقاهرة تحتفل في مهرجانها بأحمد شوقي وحافظ ابراهيم :
لَوْلا أسَايَ بدأتُ بالغـزلِ كالعهـدِ مِن شُعرائنا الأوَلِ
سَقياً لهم زالوا وما برَحَتْ أصداؤهُم تَنداحُ في الأزلِ
وربوعُهم في البيدِ ظامـئةً غُـدرانـها بمَحـاجـرِ الإبلِ
حملتْ على الأقتابِ طاويةً فجْر الهُدَى ومنارة السبُلِ
لَوْلا الأسىَ لفعلتُ ما فعلوا وأذبتُ آماقي على طــللِ
هكذا ترى أيّها العظيم، أن روحك كانت عندنا، مثلما روحنا كانت هنالك، شرابنا من دنٍ واحـد، بأكـوابٍ عِـدّة . .
(3)
هذا الرّاهب الفتّان، المختبئ في صنوبر الجبل، المستقلّ عند “بكفـيا”، الصاهــل في “بيت شباب” **، حيث زرته في ربيع عام 2008، في داره المُحاط بشجر متكاثف خلاب، حفياً بي وبأصدقائه وأصدقائي، الذين انتشروا كقبراتٍ لاهية في بيدر مُخضوضر بديع. زوجه – هذه الصبية في سنواتها المحتشدة بمؤازرة الشاعر وهو مُمسك بمزماره. اللصيقة بالشجرة تكبر أغصانها منذ 1959، وتداني ثمرها برعايتها الفذة، فتحتْ ذراعيها في زهوِ حفاوتها بنا، أيقونة مسقية بالسمَر والضحك وبالانشراح إلى أقصاه. أولمَ لنا، ثم أرهفَ سمعه لقصيدي وبارك نظمي، وأنا أعرف كيف يستسيغ إن أراد أو لا يستسيغ، شعر التفعيلة. أرهقه نظمي. تبسّم متأملاً وأنا ألقي قصيدي. “بحر الطويل.. هذا الذي نظمت عليه؟ “، يسأل في لغة المعلّم البليغ العارف، وما كنتُ أجهل ثورته العارمة على التقليد، خرج عليه والتزم موقفاً لم يتزحزح عنه، إذ هو ليس معلم فحسب، بل هو أكاديمية شعرية كاملة الفصول. أهديته مجموعتي الشعرية الأخيرة، فقبلها شاكراً.في مناسبة أخرى، وقد نبهه شاعر لبناني صديق بوعدٍ قطعه على نفسه، أن ينظم قصيدة تقليدية، ذكرتهُ وأنا أودّع بيروت، أني أتطلع لهذه القصيدة، فأكد لي أنه جاد في إنفاذ وعده وسيفعل. ياااه، أخيراً ستأتي من شوقي أبي شقرا قصيدة تقليدية! هاهو يقول لنا إنه مُتمكّن يملك أن يطوّع اللغة على أيّ شكلٍ، ولن يندسّ في مدرسة مُسوّرة، ولن يأسره إطار.. تذكرتُ ثانية شاعرنا السوداني الكبير “محمد المهدي المجذوب” في تنقله مثل فراشة بين وردة وأخرى،تتهيبه اللغة، ويتوجّس منه الخليل الفراهيدي، وترتعد القوافي منه في آنيتها . .
(4)
شوقي أبي شقرا: رُبّان “الشِّـعر”، المُحارب بأسيافٍ مصقولة، ونصالٍ لامعةٍ قتالة، سطع بهياً في معاركه ومغامراته اللؤلؤية، في سنوات الاستهلال وفتوحات التجديد الأولى. رعى الثقافة وفتح لها آفاقا لا تحد، فكسبتْ حركة الشعر العربي، شباباً مقاتلاً وشعراء أشــداء، واستوت القصيدة بعدها وبأقلامهم، خارجة من محارةِ التقليد والقافيةِ والبحر الخليلي، لتشكل صوراً شعرية بألوان زيتِ الإبداع، وألوان ماءٍ سلسبيل خلّاق. خيول المعارك والسّجالات لم يهدأ صهيلها بعد منذ “مجـلة شِـعـر”، التي ذاع صيتها لسنوات قليلة في الستينيات من القرن العشـرين. خرجنا في هدأة القصيد، إلى براح الإبداع الحرّ، فلا ترى النثر نثراً ولا الشعر شعرا، ولكن تجد القصيدة في أكمل رؤىً، مُسيّجة بأبهى خيال، مزدانة بأنضر لغة. لا تلاقيك قافية طنانة، بل صورٌ تأخذ بالأبصار، أخذ عزيزٍ مقتدرٍ آسِـرٍ جـاذب .
“السيتي كافيه” في منحنى “الروشة”.. مقهى المثقفين في بيروت التي أحببت. هنالك دلني عليه وعرّفني إليه، صديقي الأديب اللبناني وناشر الإبداع “سليمان بختي”. وقفتُ تأدباً أمام هذه القامة السامقة. هذا “النوتيّ المُزدهر القوام” ***. الجسم النحيل جسم شاعر حرّ بلا مراء. الشعر الفضي.. كيف لا وديوانه الأول خرج من مطابع بيروت قبل نصف قرن؟ همس مرحباً بي وعلى الطاولة – بالطبع – كتاب، وأمامه جليسته مدام “أبي شقرا “. كان يجب أن تكون معه الرفيقة، قريبة منه دانية دنوّ القصائد التي اندست في جيب قلبه .
– “أنتم تحبون الشعر في السودان، والأدب العربي زاهر عندكم ..”، كان يقول لي وكأنه يجامل سـفير السودان، ولكنه في الحقيقة كان يعني ما يقول. سأل عن “الفيتوري” وأجبته بمحبتنا له.
– “أنت مدرسة في الشعر كبيرة ..”، قلت له ولم أكن أجامل أيضاً .
زاد صديقي سليمان في التقديم، ليقول له أمامك سفير وشاعر من السودان. تهللت أساريرُ وجهه الطفولي المتغضن شباباً وحيوية، وقصائد تحتشد سراً في عينيه، لا تكاد نظاراته أن تخفيها وهيَ في زجاجٍ سميك .
هذا الشاعر الكبير ، عمره وفق كرونولوجيا كتبه ، يحسب كما يلي:
• أكياسُ الفقراء (1959)
• خطواتُ الملك (1960)
• ماء إلى حصان العائلة(1962)
• سنجابٌ يقع من البرج(1971)
• يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضا (1979)
• حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة(1983)
• لا تأخذ تاجَ فتى الهيكل(1992)
• صلاةُ الاشتياق على سريرِ الوحدة(1995)
• ثياب سهرة الواحة والعشبة (1998)
• سائقُ الأمسِ ينزل من العربة (2000)
• نوتيّ مُزدهر القوام( 2003)
(5)
من لا يقف دهشة واحتراما لهذه العناوين التي توّجت شكل القصائد ؟
حتى في العنوان، تتخذ اللغة عند شوقي كينونتها الجديدة، فترتفع إلى ما بعد النحو وبعد الجناس وبعد البلاغة. جبروت الشعر في أتمّ بناء. طيّعةٌ هي اللغة، صلابتها طينٌ بأصابع “شوقي”، تنفلق منه مجرَّات القصائد، فما القافية؟ ما الموسيقى؟ ما الإيقاع؟ وأنت تأخذ مجلساً بين لغة تتشكل تماثيل نورانية، شجراً معشوشباً وقوارب راسية، وفتيان في رهبة الهياكل، وسناجب ينسلون من الأبراج، وأشواق تنام على أسرّة، وسحرة يخرجون في السنابل، ونوتية في البحر مزدهرون. يا للشعر النازف في العنوان، تبتسم الحدائق وينتشر العطر فوّاحا من حديقة دار “أبي شـقرا” في حافة “بكفيا” بجبل لبنان اسمها “بيت شباب”، أقل شباباً من هذا الثمانيني المزدهر القوام ..
دعني أهديك زهرة الشعر في عيد ميلادك الخامس والثمانين، حياةً زاهية وشعراً مديدا . .

*”أكياس الفقراء” هو ديوانه الأول (1959)
** “بيت شباب” هو حي صغير في نواحي “بكفيا” من جبل لبنان، معقل المسيحيين الموارنة.
***الإشارة لديوانه :”نوتيّ مزدهر القوام” ( 2003) .
جمال محمد إبراهيم
الخرطوم – 2019
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..