ألا هل بَلَّغْتُ

على صفحة 168 من رواية ( عصير الجُمْجُمَّة ) ..يقف شابٌّ زنجي .. طويل جداً ونحيف جداً .. على باب الشاب البرجوازي برهان ، الذي كانَ معه رفيقه جادو .. ليرى إنْ كانت هناك خدمة تُطْلَب منه، فيأمُرُه برهان ليمضي ويأتي بزيادة خمر ، ونقده مبلغاً .وبعد أن عادَ الزنجي بالخمر ، وأعادَ باقي المبلغ ، طلبَ مبلغاً صغيراً من برهان.. فامتعض هذا الأخير معتبراً الزنجي بليداً لا يُحْسِن التصرُّف ..البلادة التي يقصدها برهان هي الأمانة ..لأنَّ في رأيِه أنَّه كانَ بامكان الزنجي أن – يقرص – هذا المبلغ التافه من الباقي ، وخلاص يعني ..
نظرة البرجوازي برهان للزنجي ، هِيَ نظرة موروثة من العقل الأوربي .. وفي جذر تكوين العقل الأوربي أنَّ الزنوج لا أمَلَ فيهم في فهم أو ابتكار أو فلسفة إلا في حركات الجسد ، الرقص مثلاً ، .. أما العقل فلا .. نصَّ على هذا نيتشة صراحةً ، ولكنَّهُ مسبوق تقريباً بكل فلاسفة عصر التنوير وبعده ، ومن روسو وديدرو وفولتير ومن قبلهم هوبز ..
وهذا النظر هو المُحرِّك الخلفي الخَفِيّ لسياستنا على المستوى الاستراتيجي المركزي ، كماكينة الفلوكسواجن التي تقبع في الخلف على خلاف جميع سيارات الله في أرض الله. .فقد أسَّسَ لهذا الاستعمار ، ونسير عليه إلى يومِ الناسِ هذا .. كما سارت عليه حكومة الحكم الذاتي، حكومة الاستقلال ، حكومة عبد الله خليل ، عبود، حكومة اكتوبر الثانية، حكومة الأزهري مرةً أخرى ، حكومة نميري بعد 1972م، حكومة الديمقراطية الأخيرة والتي أسَّسَ فيها الصادق المهدي مليشيات الجنجويد لذات النظر ، والتي صارت تسمى الدعم السريع في حكومة الإنقاذ ، وإلى الآن .
بالنتيجة ، وفي رَأْيِنا :-
هُما خياران .. لا توجد منطقة وُسْطَى بينهما .. ولا يمكن رَدُّهما إلى مقامٍ واحِد ، أو جَمْعُهما على صعيد واحِد .. إلا إذا كنا نتعمد إهدار الزمن وتبديد الطاقات في جهود لا يُرْجَى منها شئ ..ونُصِر بدون وعي أنَّها توصِّلنا لشئ .. تماماً كالذي فعلَ باري مكتشف القطب الشمالي .. فقد ظلَّ يتقدَّم في العام 1820م يوماً كاملاً باتجاه القطب الشمالي ، ولكنه بحلول الليل استطاع أن يتحقق من أنه كان أبعد إلى الجنوب مما كانَ عليه في الصباح .فقد ظَلَّ يجري طيلة النهار كله على قطعة ضخمة من الجليد كانَ تيار المحيط الأطلسي يجرفها باتجاه الجنوب ..وهكذا فسوف تموت أجْيالٌ وأجيال قبل أن نكتشف أينَ نقف .. وننظر فلا نرى إلا ذَيْنَك الخيارَيْن ..
الخيار الأوَّل ;-
هو الانقلاب الشيوعي .. وبالحديد والنار حتى تُسَوَّى هدماً وإحْراقاً .. لأنَّ هذا الظرف التاريخي الراهن – كظرف محض لا يُقَرِّرُه ما ينبغي أن يكون ، أو ما نريد لهُ أن يكون – هو الظرف المواتي الذي رياحُه تهب نحو هذا الانقلاب ..
وإذا هَبَّت رياحُكَ فاغْتَنِمْها
فإنَّ لِكُلِّ خَافِقةٍ سُكُونُ
وحين السكون لاتَ حِينَ مندم ، ولاتَ انتظار طويل للحظة قد لا تعود مرَّةً أُخْرَى .. فهذه الشعارات التي رفعتها الثورة،وروَتْها بالدموع والدم والمُهَج هِيَ شعارات الحزب الشيوعي- حُرِيَّة .. سلام، وعدالة – ، وقد استطاعت بجدارة ترجمة احساس الجماهير بالظلم والهوان إلى ثِقة بالنفس ، وإرادة طاغية للتغيير .. ولكن هذه الشعارات تبقى رغبات مجانية ومريحة فقط ، ما لم تتحوَّل إلى تقنيات تؤدي إلى الاستثمار والإنتاج، والتي لا مدخل لها – في رأيي – إلا الانقلاب.
الخيار الثاني ;-
هو فصل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ، الآن ..لتشق كل دولة طريقها نحو المدنية والحرية والسلام والعدالة .. على النسق الذي تقرَّر لدى جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ، والذي نَصَّ فيه أنَّ الدولة النموذجية هي الدويلة الصغيرة المتماسكة والمنسجمة ديموغرافياً ..
أقولُ قولي هذا ، وأُمَرِّرُ يَدِي على جبيني أَمْسَحُهُ بها ..
شكرى عبد القيوم