أخطاء غير قابلة للإصلاح

(1) أدب المراجعات والنقد الذاتي في السياسة السودانية قليل جداً بالمقارنة مع الأخطاء الكارثية التي إرتكبتها الأحزاب والجماعات السياسية السودانية ، خسر اليسار السوداني بعد أحداث يوليو في العام 1971 غالب رصيده السياسي والعسكري ، و كل الذي حدث عشرات القصائد والأغاني التي تمجّد قادة تلك الحركة من العسكريين ، وقادة الحزب الشيوعي من السياسيين ، غابت المراجعات الموضوعية لمعرفة ماذا حدث للحزب في تلك الأيام ، أو أنها لم تري النور كعادة الحزب وممارسته الموغلة في السرية ، المراجعات الأبرز والأشهر في تاريخ اليسار السوداني هي التي كتبها الاستاذ الخاتم عدلان ونشأت بعدها حركة القوي الحديثة ( حركة حق ) رؤية آن آوان التغيير تمثل أقوي نقد وجه لتجربة الحزب الشيوعي السوداني بعد إنهيار الشيوعية في معاقلها الرئيسية ، ثم جاء الدور علي التيار الإسلامي السوداني بعد خسارة الرهان علي مشروعه السياسي ، قدم الدكتور حسن الترابي أقوي المراجعات لتجربة الحركة الاسلامية السلطانية في عبرة المسير ، ثم اخيراً خرجت مراجعات الحركة الشعبية قطاع الشمال بعد الإنشقاق الذي ضرب صفها القيادي ، وهي مراجعات تعترف بالأخطاء التي وقعت وتدعو في ذات الوقت الي إستشراف جديد للمستقبل تحت عنوان ميلاد ثاني لرؤية السودان الجديد .
(2) تكاد تجتمع المراجعات التي تمت للمشاريع السياسية السودانية علي مشترك واحد وهو أنها جاءت بعد وقوع الكارثة ، باسترناك في دكتور جيفاكو يقول ان الأفكار تفقد معناها وحيويتها إذا جاءت في التوقيت المتأخر ، وللأسف كل هذه المراجعات جاءت في التوقيت المتأخر ، افتقدت القوي السياسية السودانية القدرة علي تصحيح أوضاعها عندما كانت في منصة الفعل وهو ما كان سيجنبها كل هذه الكوارث التي جاءت لاحقاً ، والأسواء من ذلك دوماً تغيب فضيلة الاعتذار للضحايا الذين آمنوا بهذه المشاريع المعطوبة أصلاً وقدموا في سبيلها التضحيات الكبيرة ، وزيادة علي ذلك كل الذين فعلوا هذه الكوارث من القادة يظنون أنهم يمتلكون القدرة علي العبور من جديد ، صناع الكوارث لا يمكن ان يصبحوا هم ذاتهم صناع الأمل في غد جديد إلا في عالم معطوب العقل ، محطة الذكريات هي المكان المناسب للذين يرتكبون هذه الاخطاء الكارثية ، بعبارة مختصرة لخص علي عزت بيجوفيتش ذلك بقوله صانع الكوارث أخطائه لن تكن قابلة للإصلاح أبداً ، للأسف في عالمنا المتدني الأخلاق أصبحت المراجعات والدعوة الي الإصلاح بمثابة أوكسجين جديد لكنه للأسف يضخ في جسد معلول فقد القدرة علي التنفس الطبيعي .
(3) رغم النقد الذي يمكن ان يوجه للمشاريع السياسية التي قدمت هذه المراجعات لكن يُحمد لها أنها تحلت بالشجاعة وهي تمارس النقد الذاتي علي تجربتها وتقدم فضيلة المراجعات علي الإستمرار في ذات الأخطاء ، بعد سنوات النضال الطويلة قدم الأستاذ ياسر عرمان في رؤيته نحو ميلاد ثاني لرؤية السودان الجديد ، إعترافاً صريحاً أن البندقية لم تكن الحل الأفضل وأنها فُرضت عليهم وان الكفاح المسلح كانت تكلفته باهظة الثمن ، بطبيعة الحال لا يمكن للشعب السوداني ان ينسي الدماء الغزيرة التي سالت والأرواح البريئة التي رحلت ، خسارة الحركة الشعبية رصيدها العسكري بعد الإنشقاق الذي ضرب صفوفها وإنحياز غالب القيادة العسكرية لجناح عبدالعزيز الحلو ، وإرتباط الكفاح المسلح في الألفية الجديدة بالإرهاب وأنتهاكات حقوق الإنسان ، جعل إستمرار الحركة الشعبية في الكفاح المسلح مسالة غاية في العسر والصعوبة ، ورغم هذه التحليلات عن جذور هذا التحول والأسباب التي دعت إليه تستحق هذه الإعترافات النبيلة من قيادة الحركة الشعبية الإحترام .
(4) وردت في مراجعات السيد ياسر عرمان بعض المغالطات التاريخية ، الحديث عن ان الحركة الشعبية هي أول تنظيم سوداني بعد الإستقلال جمع في عضويته بين الشمال والجنوب ليس صحيحاً علي الاطلاق ، الحزب الشيوعي فعل ذلك وصعد الي سدة قيادته المركزية سياسي جنوبي ضحي بروحه ثمناً لمغامرة الحزب العسكرية في يوليو ، والحركة الاسلامية السودانية قدمت عشرات القادة من جنوب السودان صعدوا الي أعلي الوظائف القيادية فيها إختياراً وإنتخاباً.
(5) من الإعترافات المثيرة في رؤية عرمان ، بان مشروع السودان الجديد لم يتجاوز الشعارات ولم يكن يملك رؤية تفصيلية لمعالجة هموم الناس المعيشية ، و للأمانة غالب المشاريع السياسية السودانية لم تحمل قدراً من الرؤية الموضوعية في سبيل نهضة وتنمية السودان ، ولم تكن الحياة الكريمة لإنسان السودان جزء من أجندتها ، العقل السياسي للجماعات السياسية السودانية كانت محطته النهائية كيف يمكن ان يصل الي السلطة وبعدها تسير الأشياء علي هدي الاجتهادات الشخصية والخواطر ، الجماعات السياسية السودانية تذكرك بمقولة جورج أورويل ، يا أوقيانيا كل هذا من أجلك ، ثم تكتشف لاحقاً أنها كانت تمارس الأكاذيب والخيالات المريضة .
(6) حمل السيد ياسر عرمان في رؤيته الجديدة ، القوميين الجنوبيين الإنحراف الذي حدث في الرؤية الكلية للحركة الشعبية ، والتي كانت تنادي بوحدة السودان ثم تحولت بعد ذلك شعاراتها الي حق تقرير المصير ، ثم انتقلت ذات الأمراض الي النسخة المحدثة من الحركة الشعبية بعد إنفصال الجنوب ، رُفعت شعارات الوحدة وقضايا أهل الهامش ، ثم حدث تحول في الخطاب السياسي للحركة الشعبية قطاع الشمال من قضايا الوحدة الي المطالبة بالحكم الذاتي لمناطق جبال النوبة و الأنقسنا ، في أقل من ربع قرن حصاد مشروع السودان الجديد الداعي في رؤيته الكلية لدولة سودانية موحدة ، فصل جزء من أرض الوطن وينادي بحكم ذاتي لبعض اجزاء الوطن الاخري وكما يقول الكاتب البرازيلي كاويلو الذي يحدث مرتين يمكن ان يحدث مرة ثالثة ، أعتقد ان هذه النقطة تستدعي شجاعة أكثر من الحركة الشعبية لتقديم مراجعات أعمق وليس محاولات تبرير ، بطبيعة الحال أي مبتدئ في عالم السياسة يعلم ان البدايات الخاطئة تؤدي الي نتائج خاطئة ليس هناك من عاقل يزرع شوكاً وينتظر ان ينبت زرعه تفاحاً .
(7) أوضحت الرؤية الجديدة التي طرحها عرمان ان الحركة الشعبية تجرى حوارات مع قوى لتشكيل تنظيماً واحداً او تحالفاً إستراتيجياً يحتفظ فيه كل طرف بهويته التنظيمية ، ولعل هذه الرؤية التنظيمية تمثل النسخة العلمانية من مشروع المنظومة الخالفة للشيخ حسن الترابي ، وقطعاً اذا اتجهت الحركة الي الكفاح السلمي والجماهيري كما نصت رؤيتها فهذا الخيار يمكن ان يسهم في بلورة تيار معارض أكثر حيوية من المعارضة الحالية .
(8) الحديث الذي ورد في الرؤية عن عدم ثقة قوي الريف في مناضلي المدن الذين انضموا اليهم مما أدي الي غياب وسائل العمل الناعم وانحصر العمل المعارض في الوسائل الخشنة و إن الحركة تحتاج أن تدرس بعمق الأثر السلبى للقبلية كايدلوجيا ، أعتقد ان هذه المراجعات تحمل قلقاً مؤقتاً وترسبات شخصية نتجت عن الخزلان الذي تعرضت لها قيادة الحركة الشعبية في إطار الصراع الداخلي الذي أدي الي الإنشقاق .
(9) واحدة من القضايا المهمة جداً التي طرحها السيد ياسرعرمان في رؤيته وبلا شك يجب ان تحتل مكانها في أجندة المثقفين السودانيين ، هي القضية المتعلقة بأن تاريخ السودان يحتاج الى إعادة قراءة وكتابة مبنيّة على الحقائق , وأنه لن تكتمل اى عملية مصالحة وطنية حقيقة إلا بقراءة موضوعية لتاريخ السودان لاسيما فترة تجارة الرق والأثار والجراحات العميقة التى خلفتها فى قضايا البناء الوطنى ، هذه الكلمات علي المستوي النظري قد تكون أقيم ما في الرؤية التي طرحها عرمان في إطار البحث عن عقد اجتماعي جديد تؤسس عليه الدولة السودانية الجديدة.
علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]
جميل بس حكاية اعادة قراءة وكتابة تاريخ السودان وصولا للمصالحة الوطنية. وكتابة عقد اجتماعي جديد ما عندنا زمن لكل دا ~ لماذا لا نرمي كل الماضي وراء ظهرنا اليوم ونشرع طوالي في اعداد دستور يجعلنا كلنا مواطنين متساوين في كل شي في الواجبات والحقوق العامة وفي حق العيش في كل أجزاء الوطن ونبذ فكرة المناطقية والجهوية الهوامش التي جابت مشاكل التهميش والقبلية وتكون الخدمة العامة المدنية والعسكرية محكومة بقوانينها التي تشترط فقط شرط المواطنة والتاهيل الفني ولا علاقة لها بالحزب او الائتلاف الحاكم من وكيل الوزارة الى الغفير بل حتى الوزير يجب أن. يخضع لذات الشروط الفنية فوزير الصحة يجب ان يكون طبيبا والتربية والتعليم والعدل وكل الوزارات واذا الحزب الفائز بأغلبية البرلمان انعدم فيه المرشح للوزارة بالشروط المطلوبة يرشح أي واحد مؤهل من المواطنين وينحصر دور حزب الأغلبية فقط في رسم السياسة التنموية والبرامج التي أهلته للفوز باغلبية مقاعد البرلمان والباقي على الخدمة المدنية تنفيذه وفق قوانينها التي تلتزم بالدستور والذي يضع مبادئ ثابتة لها لا تعدل الا بتعديل دستوري بأغلبية ثلاثة ارباع البرلمان على الأقل ولا تتأثر بمجيء او ذهاب حزب من سدة الحكم ويجب ان تكون هناك نيابة وقضاء ومحكمة دستوربة مستقلة لرقابة سن القوانين المخالفة للدستور والأداء الاداري المخالف للقوانين
فاذا ارتضينا دستور المساواة هذا فما الذي يجعلنا ننبش في الماضي ومآسيه بدلا من استقبال المستقبل بروح جديدة ودستور لا مجال فيه لتغول او تسلط او تعنصر وقبلية ولا تهميش ولا تمايز ديني ولا لوني؟