مقالات سياسية

كلام ساكت

عمر العمر

كثيراً ما غمز أصدقاء في العقلية السودانية من قولنا «كلام ساكت». على المنوال نفسه دأبت على مقابلة الغمز بنظرة هازئة. لكن مقالاً للدكتور حيدر إبراهيم، وهو مفكر سوداني لمساهماته في عقلي تأثير، حرضني على كسر الصمت.

في مقاله المعنون «السودان والقدر الساخر وعقلانية الحلو مر»، استشهد الدكتور حيدر بالمقولة السودانية ذاتها على «التناقضات والمفارقات في العقلية السودانية»، إذ كتب: «نحن الذين نقول كلام ساكت، ونجعل الكلام ساكتاً بسر حرف كن».

ود. حيدر مثل زملائي من غير السودانيين، يقفز فوق مراكمة ثقافية سودانية محضة، عمدت إلى سودنة الدين واللغة في سياقها الصوفي الخاص.

ثمة خلط واضح بين الصمت والسكوت. الصمت حالة بين طرفي حوار، بينما السكوت حالة غياب أحادية. الصمت يعبر عن حالة المتكلم أو المتلقي، إذ يعبر عند الأول عن استرجاع قوة المنطق أو الانتشاء به، بينما يعبر عند الثاني عن العجز أمام الأول.

السكوت يفصح عن الغياب، من ذلك قوله تعالى: «ولما سكت عن موسى الغضب»، فالغضب ينزاح ولا يصمت. الغضب أحد أشكال الهيجان يصيب الشخص. الآية الكريمة لم تقل سكت موسى، بل سكت الغضب، وهذه دلالة على ذهاب الغضب عن موسى وانزياحه عن المشهد، ومن ثم أخذ موسى الألواح.

بهذا الفهم فإن المقولة السودانية «كلام ساكت» لا تفضح الصمت، بل تعني نفي الوجود. فإذا قرأنا «كلام ساكت» صفة وموصوفاً، فإن المراد نفي قيمة الكلام بما يوازي عدمه. وإذا قرأنا «كلام ساكت» مضافاً ومضافاً إليه ــ وهنا أقرب ــ يكون حديث رجل يوازي وجوده العدم.

وفي حديث السودانيين في هذا السياق قولهم «زول ساكت»، وتقال عند تسفيه رأي الرجل أو موقفه. لعل هذا أكثر إيضاحاً لإبانة الفارق بين السكوت والصمت.

الصمت يفتح باباً للتأويل في الكلام المنطوق كما المكتوب، بل يندرج في علم أصول الفقه كما تذهب القراءات النقدية لاستكشاف أبعاد الصمت في حالات السكوت، أي غير الموجود صراحة في ما هو مكتوب إلى ما خلف السطور أو بينها. الصمت في المشهد السينمائي يراوح بين الانتصار والانكسار، لكن السكوت يجسم حالة الفراغ أو السكون في الحد الأدنى.

حالة الصمت والسكوت توازي مقابلة الوجود والعدم.
[email protected]

البيان

تعليق واحد

  1. لله درك. اجتهاد عميق النظر و إعمال للفكر نادر في أعمالنا السودانية, و هو اجتهاد يكاد يكون قريب من الصحة. و إن لم يكن فهو تفسير منطقي و تأويل مقبول له أبعاد عدة.
    لك الشكر
    هذا ما نرجوه و نأمله من كتابنا.

  2. كان خالي يرحمه الله يقول عندما لا يعجبه الحديث “كلامك ده ثلاثة أثلاثه موية”.

  3. يا ريت الراكوبة تتحفنا بمقالات الاستاذ عمر العمر بصورة راتبة
    فهو كاتب سياسي من الدرجة الاولى وله تحليلات ما تخرش الموية بلغة ناس بمبة
    ودونكم هذا المقال الفلسفي

  4. السلام عليكم استاذ عمر.
    مقال رائع وكنا في انتظار من يخرجنا من السخرية العربية على ( كلام ساكت) .
    صراحة مقال في غاية الروعة والرزانة وقوة المنطق.
    اتقبلني حواراً؟؟؟؟
    أحمد المصطفى ابراهيم

  5. ايهما أفضل الصمت ام الكلام ؟
    قيل في فضل الصمت .. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
    اذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من اجابته السكوت
    فان كلمته فرجت عنه وان خليته كمدا يموت

    صمتي لا يعني النسيان فالأرض صامتة وفي جوفها بركان
    الحكمة عشرة أجزاء فتسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس
    ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان

    قيل في فضل الكلام ….
    وأخي هارون هو أفصح مني لسانا
    سيد الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله
    الصمت يوصف بالكلام ولا يوصف الكلام بالصمت وبالكلام ارسل الله رسله مبشرين ومنذرين
    الساكت عن الحق شيطان أخرس

    تم تطويع الشخصية السودانية لتصبح شخصية صامتة مطيعة حتى يسهل قيادها فكانت بدعة السكوت الجماعي وهذا اكبر من فساد المال والاخلاق … فاصبح السوداني كالشاة يسهل قيادته يخشى كلمة الحق خوفا من المشاكل

  6. يااخى انتا ماكان يسموك عمرين ..يااخى انحنا ناقصين طبق طبقكم يساو طبق طبقناوزى ماطبقنا يساوى طبق طبكم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..