يحي فضل الله

عصابة الدندورمة

صيف 1967م من القرن المنصرم وضعت امي براد الشاي علي نار المنقد و اعطتني خمسة قروش – شلن – لاذهب الي دكان حسن حميدة كي اشتري سكر وشاي و هذه اللحظة بها وثوق كامل ، ان تضع امي براد الشاي علي النار منتظرة عودتي بالسكر و الشاي ، انا اتحدث عن لحظة الوثوق هذي في ذلك الزمان لانها لحظة اطاحت بها تماما فكرة السبعة اوقيات سكر للفرد التي تمنحها بطاقة التموين للمواطن في بدايات التسعينات و الهذيانات التي اصابت المواطن السوداني بسبب ندرة وعدم السكر في ازمنة سابقة ، في الدكان قابلني زميلي في المدرسة و صديقي محمد ، كان راديو الدكان وقتها يبث اغنية محمد وردي
( جربت هواهم
وقليبي انكوي )
و لا زلت كلما استمعت الي هذه الاغنية اتذكر احداث ذلك الصباح ، اغنيات كثيرات ترتبط في ذاكرتي بمواقع و احداث وشخصيات ، بينما كنت منشغلا و مشغولا بفهم العلاقة بين القطر و الندي لان هنالك مقطع في الاغنية يقول
(يازينة حياتي
يا قطر الندي )
بينما كنت احاول ان اوجد هذه العلاقة المستحيلة بين القطر و الندي اخذني محمد علي جنب و بطريقة خفية دس في يدي مبلغ عشرة قروش – ريال – وذهب .
حين رجعت الي البيت وبختني امي علي تأخيري حتي انها انزلت البراد من علي المنقد لان الموية حست ، في طريقي الي مدرسة كادقلي الشرقية الابتدائية انشغل ذهني بامر تلك العشرة قروش التي دسها محمد في يدي و بدون اي مناسبة ، قبل إنهاء اليوم الدراسي عرفت ان محمد خص اخرين غيري بهبات مالية تعدت المبلغ الذي اعطاه لي فها هي طرادة كاملة – خمسة و عشرين قرشا – تقبع مختفية في الجيب السري في جلابية مبارك ، عبد الرحمن ، حصل علي عشرين قرشا ، ادم خلص ديونه من عوض تيه بائع حلاوة دربس و منح طرادة ايضا ، دعك من اولئك الذين قذف محمد نحوهم بعدد من الفرينات الصغيرة -اب قرشين – ، هل تذكرون ذلك الفريني ؟ ، المهم ها هو محمد يوزع القروش علي من يختار من الزملاء بينما كنت ابحث عن سر هذه الهبات المالية المفاجئة جدا ، مبارك كعادته يحب التأمر و ملحاح في معرفة الاسرار تلك التي حتما سيستفيد من علائقها موظفا هذه العلائق في الحصول علي منافع ، اي منافع ، وبسبب قدرات مبارك عرفنا ان محمد يملك كمية لا يستهان بها من المال ، لم نفكر مطلقا في الكيفية التي حصل بها محمد علي ذلك المبلغ من المال لكننا إقتربنا اكثر من محمد ، إلتففنا حوله و حاصرناه بصحبة شبه دائمة ، انا و عبد الرحمن ، مبارك طبعا ، حامد مندله ، تري اين حامد مندله الان فقد كان يتميز برأس كبيرة و بسرعة غريبة في إستخدام البكاء ، إلتففنا حول محمد اربعتنا و تابعنا كل حركته ، نوصله حتي منزله و ننتظر خروجه في العصر و نحن نرابط حول منزله ، اشتري لنا كورة جديدة ، وزع علينا علب عسل ماركة الاسدين بعد الدافوري ، تسكعنا في مقاهي ومطاعم كادقلي خاصة تلك التي بها بترينات و صواني الباسطة و حتما يكون ذلك بعد خروجنا من السينما ، منحنا هبات مالية تعدت مبلغ الطرادة ذلك المبلغ المهول في ذلك الوقت و شيئا فشيئا اصبحنا نتدخل في تفاصيل كل تلك الثروة التي يملكها محمد ، كانت هذه الثروة عبارة عن مبلغ عشرة جنيهات ، اي انها الف قرش و حيث كان المليم في ذلك الوقت وحدة مالية صغيرة لم تفقد قيمتها يكون المبلغ في هذه الحالة عشرة الف مليم ، هي ثروة لا طائل لها كانت تحت تصرفنا نحن الخمسة ، تدخلنا في امور صرفها و بعقلية جمعية ، وصلنا الي هذا التدخل من جانبنا مستخدمين كل الاساليب بما في ذلك تخويف محمد ، كنا عصابة صغيرة نحاول السيطرة علي هذه الثروة ، جرجرنا محمد الي فكرة اخري و هي ان ندفن هذا المبلغ في مكان نعرفه كلنا ، إخترنا بيتا مهجورا بالقرب من منزل اهل مبارك و تحت شجرة تبلدي كبيرة دفنا تلك الثروة و اتفقنا فيما بيننا علي ان يتم التصرف و الصرف لهذا المبلغ بحضورنا جميعا و لكن يبدو ان مبارك صاحب فكرة الدفن تلك كان يخطط للانفراد بهذا المبلغ و لكنه لم يجد فرصة لذلك اذ كنا ندور في كل الاوقات حول تلك التبلدية وحين تم ضبط مبارك و هو يحاول ان ينفرد بالمبلغ ، ضبطه حامد مندلة في الساعات الاولي من الصباح الامر الذي مكنه من اتهام حامد بانه جاء في هذا الوقت للتبلدية لنفس الغرض ، المهم اخرجنا المبلغ من الحفرة و هددنا محمد بعدم التصرف في اي مليم ، نعم ، اي مليم الا بوجودنا ذلك الوجود المفروض فرضا علي محمد صاحب هذا المبلغ الذي لم نكلف عقولنا معرفة من اين جاء به
في الفسحة الكبيرة ، فسحة الفطور كنا نتمرد علي وجبة الفطور العادية و نلوذ بمطعم الاخلاص بدلا عن حاجة امنة التي تبيع للتلاميذ الفطور تحت شجرة النيم الكبيرة و دائما ما ينتهي بنا الامر الي منزل حياة الحلبية و التي ادهشتنا و ادهشت طفولتنا تلك بنوع من المتعة ، هي متعة الدندورمة ، الدندورمة جعلت خطواتنا تدمن الطريق الي بيت حياة في حي السوق و قد جلب كل منا من منزله كباية من كبابي الشاي ، تقبع هذه الكباية في شنطة الدمورية وسط الكراسات و الكتب ، الدندرومة تتنوع الوانها فهي بيضاء لانها من اللبن و صفراء لانها من البرتقال و حمراء لانها من الكركدي و بنية لانها من العرديب ، في الفسحة الصغيرة بعد الحصة الخامسة نركض فيها الي بيت حياة و نعود و الكبابي تتلون بالوان الدندورمة و ما ألذها في ظهيرة صيف كادقلي تلك التي من حرارة طقسها يحلو للبعض ان يحرف اسمها الي – كاد يغلي – ، المهم بدأت ثروة محمد تلك تتناقص و تتناقص و يزداد إلتفافنا حول محمد ، ندلل احيانا و نخوفه احيانا كثيرة و هويهرب بجبنه و يصرف ذلك المبلغ علينا ، نحن الاربعة – في مشاوير العصرية الي السوق البره حيث نشتري الهالوك ، نتسكع هناك حتي موعد السينما و قد نجنح احيانا و نحاول زيارة حي العصاصير و بعد ذلك نحظي بوجبة عشاء دسمة غالبا ما تكون شية السيخ المغموسة داخل صحن الشطة بالليمون
و اخيرا اكتشفت والدة محمد اختفاء مبلغ العشرة جنيهات و التي كانت عبارة عن ختة او صندوق تشارك فيه عدد من نساء حي السوق و كانت والدة محمد هي امينة هذا الصندوق ، اختفي المبلغ من علي براد الصيني الكبير الموضوع داخل الفضية و بعد تحريات قصيرة تم اكتشاف ذلك السارق الصغير و ظهرت اسماؤنا في وقائع الجريمة بعد الضغط علي محمد و محاولة معرفة اوجه صرفه لذلك المبلغ المهول ، كنا صرفنا من المبلغ حتي اكتشاف الجريمة ما يقترب من السبعة جنيهات
حاصرتنا الجريمة ، حاصرتنا في بيوتنا اولا حيث ابلغت والدة محمد كل اسرنا بهذا التعدي الجامح ، طبعا ، نالت اجسامنا من السياط و الضرب ما يكفي تماما ان نحس بمغبة هذا الفعل الناشز كما ان المطالبة بعودة هذا المبلغ هي مهمة يجب ان تنفذها اسرنا و قد حدث و لكن الذي حدث حين وصلت وقائع جريمتنا تلك الي المدرسة ، اشهرت اسماءنا في الطابور الصباحي بعد خطبة رصينة عن مكارم الاخلاق تمتع بها الي درجة النشوة ناظر المدرسة ، بعد إشهار اسماءنا اشهرت ايضا تلك الكبابي التي كانت تقبع بين الكراسات و الكتب ، عرف امر هذه الكبابي بعد تحقيق استمر ساعات في مكتب الناظر في العصر الذي سبق الطابور الصباحي ، اخرجت تلك الكبابي من داخل شنط الدمورية و لوح الناظر بها امام كل الطابور موضحا علاقتها بالجريمة بعد ان تهكم تماما بكلمة دندورمة و صرخ بعدها الناظر صرخته النهائية ( اربعة كبار ) و جاء الاربعة الكبار و حمل كل منا بواسطتهم و انهالت سياط الناظر علي اجسادنا ، لم ينته الامر الي هذ الحد فقط و لكن اصبحنا نأتي الي المدرسة و يقابلنا بقية التلاميذ بهتافات مصاحبة بالصفقات ( عصابة الدندورمة) و نخرج من المدرسة و ليلاحقنا ذلك الوصف الي داخل بيوتنا ، طبعا تم تسديد ذلك المبلغ الي والدة محمد و لكن بقيت تلك الوصمة المتعبة التي ظلت تلاحقنا طويلا و تحيل كل تصرف لنا الي هذه المرجعية – عصابة الدندورمة.

[email][email protected][/email]‏

تعليق واحد

  1. من 9 سنه مجرم. وبتسال عن عضو عصابه في مقالك؟ انت بتحكي لي دفعتك؟؟ انصحك ابقا كوز تلاقي الاكفأ منه

  2. لله درك استاذ يحى ولك التحيةوالتجلة كثيرا ما تبهرني كتاباتك المتعمقة وقدرتك الهائلة فى التعبير ولكن ببساطة تجعل القارئ يتقمص شخصيتك انت. عندما تعمقت فى هذه المقالة عادت بى ذاكرتي لقريتي النوبية بشمال السودان وان كنا لا نعرف الددنورمة فى تلك البقاع وذلك الزمان الا ان وقائع القصةانطبقت كثيرا على لحظات عشتها وان اختلف الشخوص ومادة ” العصابة”. هذه المقاربة لفتت نظرى الى شئ هام كيف كان السودان رغم بعد المسافات وتعدد الاعراق والثقافات كان يعيش وكانه كيان واحدوهذا مما كان من روعة الاتحاد والاندماج فى التعدد. وعندما انظر فى حالنا اليوم اشعر بغصة تكاد تخنقني.فضلا عن ذلك فن كتاباتك دائما تخرجنا من هذا الجو الممل الكئيب الذى يبدو كليل مدلهم لا آخر له من شاكلة قال البشير وصرح الترابي وفعل الميرغنى ونطط المهدى. لك والتجلة والمحبة مرة اخرى استاذنا يحى فانك تزرع فينا الامل والتفاؤل.

  3. نشأت أنت في اقصى الجنوب (الجديد) ونشأت أنا في أقصى الشرق ولكن حينما أقرأ لك أحس بأني كنت بينكم
    القراءة لك تجعلني أحس بالفخر بإنتمائي وبسودانيتي

  4. حكاية القروش داخل براد الصينى داخل الفضية كانك بتحكى عن بيتنا..نفس شقاوتنا زمان كنا بنسرق القروش من براد الصينى والخبيز فى الجرادل فى راس الفضية…متعك الله بالصحة استاذ يحى فضل الله.

  5. تمام يا مستر فضل الله بس كان تقول أقاشي بدل (شية السيخ المغموس في الشطه دي _ وهذا من باب العرفان لهذه الأكله الطيبه والشيقه –

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..