أخبار السودان

سقوط الفكرة.. كاتب هذا المقال هو إبن بروفيسور عبد الرحيم علي محمد إبراهيم، من أقطاب الإسلاميين

علي عبد الرحيم علي

السخط الشعبي المشتعل في السودان الآن لا يتوجه حصراً الى البشير ولا الى المؤتمر الوطني بل الى ’الكيزان‘، والمحكمة الأخلاقية التي تُنصَب في ساحة التاريخ السوداني هذه الأيام لا يقف موقف المتهم فيها البشير أو الحركة الإسلامية فقط، بل الاسلام السياسي. والسقوط الداوي الذي سيحصل عند نهاية الإنقاذ لن يكون سقوط البشير وحده، بل سقوط الفكرة. هل يدرك الإسلاميون فداحة ما يجري الان؟

مشروع التغيير:

الفكرة التي يقول الإسلاميون إنهم قاموا من أجلها هي “تحقيق النهضة الشاملة للأمة على منهج الاسلام وذلك بنشر الدعوة وإرجاع الحاكمية في المجتمع والدولة الى الله”. لتحقيق هذه الفكرة قامت الحركة الإسلامية في السودان بانقلاب الإنقاذ الذي حكم السودان ثلاثة عقود ولم يزل، وحصاد هذا المشروع البائس غني عن الإبانة. والإخفاق لا ينحصر على الحكم وإدارة شأن الدولة، بل إن التغيير المجتمعي الذي نشدته الحركة الإسلامية واغتصبت من أجله الحكم بوأد الديموقراطية التي كانت لتوها تتعافى من سنوات قهر النميري، لم يتحقق لها.

والإسلاميون حين يعجزون عن إنكار فشل الإنقاذ في حكم السودان يلوذون بتجربة الإنقاذ في تغيير المجتمع السوداني شفيعة لسنوات حكمهم الطويلة، ويسوقون لأجل ذلك أمثلة واهية كزيادة عدد المصلين في المساجد خصوصا في رمضان، أو الزيادة في حجاب المرأة.

والاستدلال هنا خاطئ ابتداءً كون الصحوة الدينية المتجلية في زيادة التمسك ببعض المظاهر الدينية هي ظاهرة عالمية للمسلمين وليست حصراً على السودان فتدعي فضلاً فيها الإنقاذ. ولكن الأنكى هو بؤس المعيار الذي تقاس عليه هداية المجتمع. فعوضاً عن قيم حب العمل واحترام الوقت ونبذ العنصرية والقبلية ومحبة الإنفاق والعدالة في المعاش والأمانة في المال العام وطهارة اليد ورفعة العِلم والتقارب بين الفرق والتسامح بين المذاهب، وكل ذلك مما أخرجت الإنقاذ ضده في المجتمع السوداني، يفخر الإسلاميون بزيادة المصلين في المساجد ولبس الحجاب! المحزن أن هذا يحصل في جماعة تحمل على عاتقها مهمة التجديد في الدين فكرا وفقها!

المفارقة المزعجة في تجربة حكم الاسلاميين في السودان أن شناعة حاصل حكمهم صرفت الأنظار عن الاشكالات الجذرية في الفكرة المؤسِسة. ما هو نموذج المجتمع المسلم الذي يسعى الإسلاميون الى تحقيقه في هذا الزمن؟ ما هو تصورهم للمجتمع المسلم المثالي في عصر الدولة المدنية ما بعد الصناعة والعولمة وغزو الفضاء وهندسة الجينات واقتصاد التطبيقات والعملات الرقمية؟ ما هي الشريعة الإسلامية، والتي طالما نادى بها الإسلاميون، التي ستضبط العلاقات داخل هذا المجتمع؟ لم يزل الإسلاميون يلتفتون الى دولة المدينة بحثا عن نموذج سياسي، ولم تزل مذاهب الفقه الخمسة هي مرجع التشريع حتى الآن، ومنع الربا هو الركن الأساس لأي نظرية للاقتصاد الاسلامي، فأين هي مساهمات الاسلاميين في تطوير هذه المنظومات الفكرية لإحداث نهضة شاملة للإنسانية في القرن الحادي والعشرين؟ وفيم السعي الى الحكم ان لم يملكوا نموذجا لمجتمع بديل، الا إن كان الحكم في ذاته غاية!

أزمة النموذج عميقة في الاسلام السياسي. فالإسلاميون في إيران أبدلوا شعب إيران قهراً بآخر، والأتراك يسيرون على طريق القهر بينما غاية طموحهم أن يضمنوا مجتمعا فيه من الحريات للمسلمين ما هو موجود في دول أوروبا، والتونسيون يصارعون ليضمنوا أن لا ترتد تونس الى القهر، وفي سبيل ذلك لا يزالون يتنازلون حتى لا يدري المرء ما يميزهم عن خصومهم، والإشكال قد يبدو هنا في كثرة التنازل لأجل استمرار الديموقراطية وهذه تضحية نبيلة عزّت عند أقرانهم، ولكن هناك إشكال أعمق. فالإسلاميون في تونس، فيما يبدو، حين قدّموا الحرية على ما سواها في الشأن السياسي، انتبهوا الى أن الصورة التقليدية للمجتمع المسلم لم تعد ممكنة وأنهم بحاجة الى صياغة تصور جديد للمجتمع المسلم في الإطار الحديث بكل تعقيداته.

والى أن يكتمل هذا التصور فهم مفتقرون الى محددات تمنعهم التنازل عن صفات المجتمع التقليدي. والحق أن الحالة التونسية هي أصدق تعبير عن ما ينبغي أن يكون عليه الاسلام السياسي الآن: حيرة صادقة فيما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم المعاصر في إطار القيم الانسانية العليا التي ينادي بها الاسلام، ثم الاشتغال مع فلاسفة الانسانية بوضع تصور لمجتمع فاضل يقوم، في حالة الاسلاميين، على هدي رباني. أما اذا أرادوا الحكم، وهو حق مكفول، فعليهم بتنحية الشعارات الدينية جانبا والاشتغال بالدولة الوظيفية التي همها أن تكفل للناس العيش الكريم، هذا ريثما يتكون عندهم تصور مناسب للمدينة الفاضلة.

التغيير الذي حصل:

عجز الإسلاميون في السودان عن المساهمة في العمل الفكري الرصين لتصور المجتمع الإنساني المثالي أو الدولة الرسالية، فسعيهم الى الحكم بلا مشروع كان خطأً، واستيلاؤهم على الحكم غصباً كان خطيئة فادحة، أما ما حصل في فترة حكم الإنقاذ فهو جريمة لن ينساها التاريخ. ولكن ربما كان العشم أن يغفرها السودانيون لهم، فقد تجاوزوا عن طغاتهم من قبل. غير أن طغيان الفرد ليس كطغيان الجماعة، فهذا الأخير يحمل مشروعا للتغيير الاجتماعي بشعارات دينية، لذلك فإن نكباته اذا عظمت وطال زمانها تسرب السخط على الحكم والمشروع الى الثقافة الشعبية وعندها يعسُر النسيان. فتجلي الإحساس الشعبي في نكات الناس وقصصهم وأغانيهم وأمثالهم ونوادرهم هو كنقشه في احفوريات تحفظ ذاكرة الأمة، وهذا ما تتبدى معالمه تجاه الاسلاميين في رمزية “الكوز”.

لعلها عدالة إلهية، فقد نجح الإسلاميون في وقت ما في أن يوصلوا بعض مناقمهم على خصومهم الشيوعيين الى الثقافة الشعبية فأصبح الناس لا يعرفون من الشيوعية الا الالحاد ولا عن ماركس الا قولة “الدين أفيون الشعوب” وصارت الشيوعية الى حد ما مرتبطة في اذهان الناس بالسلوك المنحل وقلة التدين والتمرد على الأعراف. تحولت الشيوعية الى سُبّة، وربما ساعد على ذلك طبيعة المجتمع السوداني المحافظة وتدينه الشعبي الفطري الذي لم يقبل ما بدا أنه محاولة غير مفهومة لإعادة موضعة الدين في حياة الناس. ذات التدين الفطري هذا شكل رصيدا استثمرت فيه الحركة الإسلامية بالتركيز عليه في شعاراتها السياسية فعاد عليها بالنفع السياسي في مسيرتها الباكرة. غير أن مصارعة الاسلاميين للشيوعيين لم تكن دائما نزيهة. فإضافة الى تلك الشيطنة المتعمدة لأشخاص الشيوعيين وافكارهم بما لا يناسب الحقيقة، فإن منازلتهم في السياسة كانت تتجاوز قواعد العمل السياسي وأبرز الأمثلة على ذلك اخراجهم من البرلمان بدواعي تلفيقية كان فيها ظلم بين.

دار الزمان وارتدت الكرّة الآن على الاسلاميين وكما تدين تدان! ف”الكوز” الآن صارت نبزاً فيه إشارة الى النفاق أو فساد الذمة أو الخسة في الأخلاق خاصة اذا كانت تحت غطاء ديني. وكما كان الحال مع الشيوعيين، فإن هذا التعميم مختل وفيه حيف على كثير من الاسلاميين ولكن التمييز مهمة القاضي، بينما الثقافة الشعبية لا تكترث! صارت الطرائف تنسج عن فساد الاسلاميين أو نزواتهم المستخفية وراء اللحى وغرّات الصلاة أو حيلتهم الواسعة في الخداع والتآمر والتكايد. صارت الأغاني والأشعار تنشد في هجائهم، والقصص حول أفعالهم وأقوالهم تحكى لتسلية المجالس. خلاصة الأمر، تحولت كلمة كوز بدورها الى سُبّة. وهذا لم يحصل في أيام الحراك الحالي بل سبقه ولكن الثورة زادت الأمر اشتعالا، فدخلت مسَبَّتهم في اهازيج الثورة المفضلة حتى باتت تنشد في حفلات الأعراس واراجيز الأطفال. الحركة الإسلامية سعت الى تغيير المجتمع السوداني ليس فقط على مستوى السلطة والدولة، بل حتى على مستوى الثقافة المجتمعية بالنزول اليها من علٍ، الوزع بالسلطان.

وبعد مخاض استمر ثلاثين عاما ولم يزل تحقق التغيير في غير مشتهى الاسلاميين. بات الإسلاميون هم موضوع التغيير في الثقافة الاجتماعية عِوَض أن يكونوا واضعيه. اكتسب السودانيون ثقافة جديدة بالفعل، وهي النفور عن من يحمل شعارات الدين في أمر السياسة وشيطنتهم. هذا الأمر كان في ما مضى حصرا على الخصوم السياسيين للاسلاميين ، ودخل الآن في ثقافة المجتمع. والمفارقة هنا هي أن أقوى أساس للعلمانية في ثقافة السودانيين وضعه الإسلاميون!

سقوط الفكرة:

نظام الإنقاذ يسقط الآن وتمام سقوطه قد يتعجل أو يتأجل، ولكنه في سقوطه هذا يجرّ معه عقيدة الاسلام السياسي نحو القاع. اليأس من إصلاح نظام الإنقاذ معلوم وعليه وجب زواله، ولكن الحركة الإسلامية – بمعناها الشامل – يمكن انتشالها من هذا السقوط. صحيح أن قدر المراجعة والإصلاح المطلوبين يتجاوز كل إرث الحركة الإسلامية ويغوص عميقا في أصول الفكر الديني، ولكن هذا نفسه هو ما يشفع للإسلاميين حيث يمكن أن تتوجه أشواقهم لخدمة الاسلام نحو هذا الإصلاح وما أعظمها من مهمة! أما الحكم، فحسبهم، إن جاد الزمن عليهم بسانحة أخرى، أن يهتموا بمعاش الناس حتى يستبينوا الرشد في شأن مجتمع جديد.

لم يكن الإسلاميون ليستحقوا هذا السقوط الرمزي ل”الكيزان” مع سقوط الإنقاذ لو أنهم غسلوا أيديهم عنها. فالحق الذي سيغيب مع حالة الغضب الثوري هو أنهم سودانيون قبل أن يكونوا “كيزان” وفي هذا هم خليط من الصالحين والفاسدين. والشأن في جماعات الاصلاح والمتصدين للعمل العام هو أن فيهم روح التضحية والبذل مشفوعة في أحيان كثيرة بنجابة وخلق رفيع، يستوي في هذا اليساريون العلمانيون مع اليمينيين الاسلاميين، ولكننا، ولسوء التنزيل لأشواق الاصلاحيين، اعتدنا أن نرى في من يتصدى للعمل العام النفعيين فقط بينما الأصل فيهم الصدق. عسى أن يأتي اليوم الذي ينصلح فيه المناخ السياسي فتغدو حرارة التنافس بين هذه التيارات طاقة للبناء لا الهدم.

غير أن الأمر المؤسف والغريب هو أن في موقف كثير من الاسلاميين الذين لا يوصفون بالنفعية ويُظَنّ فيهم الصلاح من ثورة الشباب في السودان سلبية محيّرة. صحيح أن كثيرين من شباب الاسلاميين في مقدمة هذه الثورة وقد قدموا شهداء ومصابين ومعتقلين مع بقية شباب السودان، ولكن هؤلاء خرجوا بذواتهم لا بتنظيماتهم. لقد ذكرت في مقال سابق (الخلية النائمة، الإسلاميون ومعضلة بروتوس، الشرق القطرية، فبراير ٢٠١٨) إن الاسلاميين في السودان وبسبب انتشارهم في مفاصل الدولة السودانية كلها اشبه ما يكونوا بالخلية النائمة، ولو أنهم سمعوا هيعة للتغيير وقاموا لها فبإمكانهم أن يضيفوا نقلة نوعية للثورة ترجح كفتها ليسقط النظام. ولكنهم في حالة من التوجس غير المبرر بينما الشباب يهيؤون الساحة للتغيير بدمائهم.

ثورة الشباب في السودان لا زالت مخذولة من عناصر مهمة. فالسياسيون لم يلقوا بكل ثقلهم وراءها ولا أدري ما يمسكهم وشبابنا في هذه المحرقة! والجيش معياره في هذا الأمر كمّي وليس قيمي، ينتظر كتلة حرجة من الموت والخراب قبل أن يتدخل. بل إن كثيرا من جمهور السودانيين رغم رغبتهم في التغيير ارتضى لنفسه السلامة وبقي ينتظر نتيجة المعركة. وشباب السودان وسط كل هذا الخذلان يقف في بسالة حقيقية في وجه النار والجبروت يحمل وحده عبء التغيير. ولكن الخذلان الأعظم هو خذلان الاسلاميين للثورة، فهم من اتى بهذا النظام وهم الأولى بالتضحية لإزالته. وفوق ذلك، فهم بيدهم مفاتيح التغيير لو عزموا أمرهم ونهضوا له.

البشير الآن يغوص في بركة الرمل الناعم، كل ما حاول الخروج بإجراء أو تصريح، زاد غرقا. والإسلاميون هم آخر قرابينه التي سيقدمها فداء نفسه من الحساب وحتى المسؤولية الأخلاقية. ليس سراً أنه ظل يلمِزهم في المجالس باعتبارهم مسؤولين عن فساد الحال وأن يداه مغلولتان بحلفه معهم، كلما أراد اصلاحاً حالوا دونه، يفضح طويّته في ذلك قوله “اخوانكم” عِوَض “اخواننا” في احيان النقد والمراجعة، فهو عندها عسكري وليس إسلاميا! هذا الحلف الآن يقف على مِنسأة سليمان، ولعل تأثيراً خارجياً في الساعة الأخيرة قبل إجراءاته الأخيرة أمسك هذا الحلف أن يَخرّ، ولكن هذا لا يعدو أن يكون مداً لأجل محتوم، وذهول الاسلاميين عن هذه الحقيقة يدعو الى الدهشة والرثاء معا.

يبدو أن الأيام القادمة ستشهد مواجهة أخيرة بين البشير والشعب السوداني، وللأسف فإن الكثيرين من الاسلاميين متلجلجين في اختيار فريقهم في هذا الاصطفاف بينما كان الأولى بهم أن يبتدؤوا هذا التغيير ويحتملوا لهيبه عوضاً عن هؤلاء الشباب. فاتت على الاسلاميين فرصة المبادرة لقيادة التغيير، وفرصة اللحاق والنصرة توشك أن تفوت كذلك بينما التاريخ يُكتب هذه الأيام بمداد لا يزول. اذا اصطفّ الإسلاميون مع الثورة ونجحوا في تغيير الإنقاذ وأعادوا السودان الى أهله، فعسى أن يكون في ذلك بعض كفارة لسهمهم فيها. أما اذا اختاروا الانخذال والقهقرى بداعي خوف الإقصاء أو غياب البديل أو يسارية الثورة أو غير ذلك من مبررات بائسة وتركوا آلة القهر تسحق ابناء السودان حتى تموت الثورة، فقد استحقوا عندها السقوط التام، حكما وفكرة.

تعليق واحد

  1. الخَليَّة النائمة.. الاسلاميون ومُعضِلة بروتوس

    بقلم : علي عبد الرحيم أبو مريم الإثنين – 02:39 26/02/2018
    كان يوليوس قيصر، جنرال الجيش الروماني وقائد روما الأشهر، يمضي بثبات الى تحويل جمهورية روما الديموقراطية الى امبراطورية ديكتاتورية تحت سلطته المطلقة. رفض قيصر أمر مجلس الشيوخ الروماني(السينيت) له بالنزول عن موقعه العسكري والعودة الى روما فدخل روما بالسلاح وما لبث بعد حرب أهلية قصيرة أن سيطر عليها.

    لم يواجه قيصر سخطا شعبيا كونه نقض بناء الديموقراطية فقد كان عموم الرومان ساخطين على الطبقة السياسية باعتبارها طبقة من الارستقراطيين الفَسَدة بينما قيصر وهو صانع امجاد روما استهل عهده ب‘اصلاحات‘ نالت رضى الطبقات الدنيا. كذلك فقد تمكن قيصر من تدجين معظم مجلس الشيوخ الذي يفترض أن يكون صاحب السلطة في روما. كان ‘الشيوخ‘ يتزلفون الى قيصر بالالقاب المجيدة فسموا عليه شهر يوليو و حاولوا أن يمنحوه لقب ‘الملك‘ الذي أباه مفضلا ‘قيصر‘.

    غير أن اصرارهم لم ينثنِ فمنحوه لقب ‘الديكتاتور الأبدي‘ (الديكتاتور تنطق في اللاتينية كما ننطقها في العربية اليوم ولذات الدلالة!) ليحكم روما الى الأبد. ولكن ليس كل السياسيين فسدة ولا كلهم دواجن في حضرة المستبد وروما لم تخل من أولئك. قام جماعة من الشيوخ أسموا أنفسهم ‘المحرّرون‘ بالتآمر لاسقاط القيصر وتحرير روما من طغيانه فدخلوا عليه في خلوة بعد أن دخل مبنى مجلس الشيوخ الذي لا يدخله حرسه وأنهالوا عليه طعنا حتى فارق الحياة. لم يكن ‘المحررون‘ بالضرورة خصوما لقيصر بل إن بعضهم كان من أصدقائه ومقربيه وأشهرهم بروتوس.

    والعجيب أن التاريخ ربط اسم بروتوس بالخيانة لكونه تآمر على قيصر الذي كان يأمنه ويثق به. لكن الواقع أن بروتوس كان منازَعا بين مبادئه التي يؤمن بها وهي الحرية والديموقراطية وبين حبه لقيصر وصلته به. حتى إنه يقال أن قيصر كان يقاوم بشراسة النصال التي تهوي على جسده ولكنه عندما رأى بروتوس بينهم انهار وأسلم نفسه بعد أن قال – حسب بعض الروايات التاريخية – ‘حتى أنت يا بني!‘ والتي حوّرها شكسبير الى المقولة الخالدة ‘حتى أنت يا بروتوس!‘. شكسبير نفسه في روايته ‘يوليوس قيصر‘ كان عاذرا لبروتوس حيث ألقى على فمه خطبة عصماء في مجلس الشيوخ بعد الاغتيال كان في آخرها ‘تعلمون أني كنت أحبه لكني أحب روما أكثر!‘

    هذه القصة تحكي معضلة التنازع بين الولاء للصحبة وإعلاء أبوية القائد أو تقديم المبدأ على أي فرد مهما كان. هذه المعضلة التي جاهدها بروتوس وبعض رفاقه تصلح مدخلا للنظر في العلاقة المرتبكة الآن بين الرئيس البشير وتيار الاسلاميين في السودان.

    الاسلاميون، أين هم الآن؟
    معلوم أن هذه المعضلة الاخلاقية لا يجاهدها أولئك ‘الاسلاميون‘ الذين أسلموا قيادَهم للبشير فلا يعارضونه ولو ضرب ظهرهم وأخذ مالهم، وإنما يجاهدها منهم من يرى أن الانقاذ هي مشروعهم الذي سُرق. وربما لا يرى حتى بعض هؤلاء خطلا في شخص البشير ولكنهم يرون خطلا في تقديره واختياراته لمن يوليهم الأمور بينما هم عاجزون عن تقويمه الى جادّتهم حيث لم يزل استبداده بالأمر في ازدياد. هذه الفئة من الاسلاميين بعضهم لم يزل في نظام الحكم حيث يرى أن الخروج لا يعدو أن يكون تسليما وأن الأجدى هو مجاهدة الأمر من داخله. البعض الآخر خرج عن النظام براءة منه واعتذارا عن أفعاله ثم عارضوه ونازعوه الأمر ولم يزالوا في ذلك بدرجات متفاوتة.

    ثم فئة هي سواد الاسلاميين الأعظم تركوا الحكم ومعارضته وفضلوا أن ينتظروا قضاء من السماء بينما هم يسلّون أنفسهم بالأنس في المجالس أو أولوا طاقاتهم مناحي أخرى في الحياة بعيدا عن السياسة. هذه الفئة لا تجمعها راية واحدة، ف ‘الحركة الاسلامية‘ صارت حركات وأظهرها الآن هي أضعفها على مَرّ تاريخها.

    الاسلاميون الآن لا تجمعهم الا فكرة عامة وغير واضحة عن أشواق لتحقيق رفعة أو نهضة للمسلمين وقد تناولنا اشكالات هذه الافكار في مكان آخر، ولكن الذي أود التأكيد عليه هو أن الاسلاميين في السودان الآن جماعة مبعثرة في انحاء الحياة بعد أن صدمتهم تجربة الحكم البائسة وشوّهت حتى تلك الاشواق الحالمة فلم تعد لها ملامح واضحة (لا زلت أتكلم هنا عن أولئك العاملين لتغيير النظام أو أحواله لا الذين توسَّدوا على عطاياه وركنوا اليه، هؤلاء يعملون لبقاءه لا زواله!). هذه الفئة موجودة في كل مكان في البلد كناتج طبيعي لسياسة التمكين التي اتخذها النظام منذ سنينه الأولى. فهم في بعض دهاليز النظام نفسه وفي مرافق الدولة المختلفة، ثم هم، بعد أن تركوا الأمر أو تُركوا، في المهن والمهاجر، بل هم حتى في السجون والصالح العام وفي القبور ظلما وعدوانا، شأنهم في ذلك هو شأن كثير من السودانيين السابقين لهم في المعاناة. هل بقي للاسلاميين بعد هذا التفرق من جامع؟ هل يجتمعون لاصلاح ما فسد باسمهم؟

    الاسلاميون وإشكال الموضع السياسي
    هشاشة الحلف مع المعارضة:
    عندما قامت تظاهرات سبتمبر 2013 و أحس بعض الناس أن تغييرا ربما يقع في تلك المرة، بدأ بعض شباب التيارات المعارضة بتوعد الاسلاميين المعارضين بأنهم سيلاقوا ذات مصير الاسلاميين في السلطة وأنهم كلهم سواء للثائر المغبون. كثير من شباب الاسلاميين أحجم عن العمل في تلك الاحداث بعد هذا الوعيد حسب ما سمعت.

    صحيح أن العقلاء من المعارضة لا يشاركون في هذه الروح الانتقامية ولكن العقلاء ساعة التغيير صوتهم خافت. حيرة الاسلامي الذي سخط على الاستبداد وخرج ليغيره بما استطاع أنه محسوب عند الكثيرين كبعضٍ من النظام وإن بذل حياته ثمنا لتغييره، فما عساه أن يفعل؟ كثير من الاسلاميين المعارضين الذين دخلوا في أحلاف مع تيارات معارضة أخرى شعروا أن هذا الحلف شديد الهشاشة ولا يقيمه الا العدو المشترك، وأحيانا حتى قبل زوال هذا العدو تظهر الصدوع في هذه الاحلاف وربما تنهار تماما.

    ليس من المستغرب أن تجتمع تيارات مختلفة لتحقيق هدف مشترك ثم تعود هذه التيارات بعد تحقيق الهدف الى التنافس فيما بينها كما كانت من قبل. ولكن بعد سنوات من الاستبداد الطويل فان الغبن المتراكم سيغيب عن البعض القدرة على التمييز بين الخصم الذي تختلف معه وقد تحالفه أحيانا، والعدو الذي تحاربه. هذا يدفع الاسلاميين الى الابتعاد عن العمل مع المعارضة دون أن يعودوا الى النظام الحاكم (الا قليلا منهم!). ربما كان ما زهَّد الاسلاميين في العمل من أجل التغيير هو إحساسهم بأنهم سيخسرون في كل الاحوال وربما خسارتهم عند التغيير وحال انفلتت الأمور تكون أكبر.

    فشل المشروع الايديولوجي:
    بعض الاسلاميين لا يجد في نفسه اندفاعا لتغيير النظام كونه يشكل اعلانا بفشل المشروع الايديولوجي لهم. مشروع الدولة الاسلامية بالنسبة لهؤلاء هو الأساس الفكري الذي قامت عليه جماعتهم والانقاذ هي تجربتهم الأولى و ستكون، بعد ما ذاق السودانيون مرارتها، الأخيرة لوقت طويل اذا ذهبت هذه القائمة الآن (وأنا لا أعتبرها دولة اسلامية البتة!). لذلك فهؤلاء يرون أنه من الأفضل العمل على اصلاح هذه بأي وسيلة لأن ذهابها هو بمثابة وفاة للفكرة نفسها.

    هؤلاء يتمسكون بالسراب! فكلما زادت الدولة طغيانا واثما، كلما زادت في جراح فكرة الاسلاميين، فيزدادون تمسكا بها. تماما كالميت سريريا ويعيش على الالات فأهله لا يستطيعون أن يقيموه بعافية ولا تقوى قلوبهم على ايقاف الالات فيموت يقينا! سيكون من أعسر الأمور اقناع من أفنى عمره في سبيل فكرة ما أن الفكرة نفسها معتَلَّة. وقد يخشى بعضهم شماتة خصمه الفكري أكثر من أي شيء آخر! فكيف لمثل هذا أن يعدِل عن اسناد نظام ظالم بدعوى اصلاحه أو أن ينهى نفسه عن العزة بالإثم؟ ولو قبِل كل ذلك وبقى في بيته سيكون إخراجه لفعل ايجابي تجاه التغيير أعسر.

    صحوة الخلية النائمة:
    كم من الاسلاميين الآن ينافح عن الحق عن قناعة (بعضهم مسلوب القناعة، حتى اذا أحسن الفعل ففعله اتّباع)، لا يزعجه سابقةُ خطأه ولا شماتة خصمه ولا ارهاب المستبد، بل يمضي حيث ظنَّ الحق حتى يناله؟ ذلك صنف نادر. وتحويل جماعة الاسلاميين، التي لم تغرق تماما في مستنقع السلطة، من السلبية – بأسبابها المتعددة – الى هذا الصنف النادر هو بمثابة ايقاظ لخلية نائمة في قلب الدولة.

    ليس من الانصاف لكثير من غير الاسلاميين ممن بذل في سبيل التغيير الشيء الكثير وبعضه الدم، أن يُصَوَّر الحل لمشكلة السودان باعتباره حكرا على الاسلاميين. هذا يبخس الناس أشياءهم وبعضهم له في سبيل البلد تضحيات مشهودة. غير أن النظام القائم وخلال تاريخه المتطاول عمل جاهدا، وبنجاح هذه المرة، على تكسير عظم المعارضين حتى أقعدهم الى حد كبير. بعض قيادات المعارضة التي طالما طالتها سياط سخط السودانيين تستحق من السخط ما نالت، فأولويتها كانت ذاتية في الغالب وهؤلاء لا بواكي لهم. لكن الحق أن كثيرين آخرين وأغلبهم من الشباب أصابهم من ظلم النظام ورهقه الكثير وهم دائما في خطر منه ولكن هذا لم ينل من عزائمهم ولهم في مناهضة القهر بطولات مخفية.

    غير أن الواقع يجعل من مجاهدات هؤلاء الشباب وتضحياتهم أمواجا متكسرة على صخر صلب. لا زالت مناهضة النظام بحاجة الى عنصر اضافي ليمنحها اضافة نوعية تشكل العامل الفارق لفعل التغيير وأنا أزعم أن الجماعة الصامتة من الاسلاميين يمكن أن تسُدّ هذه الفجوة. هذا الحلف لا شك عسير التكوّن وأعسر في الاستمرار لتحقيق هدفه للعوامل التي ذكرناها سابقا والتي يتوزع اللوم فيها بين الفريقين. ولكن ما لم يتفق هؤلاء مع أولئك فلا تغيير يرتجى.

    كنت قد ذكرت في مقال سابق أن التغيير لا يمكن أن يتم دون الجيش، إما بفعله أو برضاه، ولكن الجيش، غير أنه قد طالته بعض أدلجة النظام وأنا أزعم أنها لم تفسد قوميته بعد فالعقيدة العسكرية شديدة الصلابة، فهو أيضا بطيء التحرك لتغيير الحكومات اذا لم يحس أن الشارع يفور بالحركة.

    الجيش يتدخل اذا أحس أن النظام الحاكم سيلجأ الى قتل الناس بالمليشيات والأمن للمحافظة على السلطة، وهذا رغم أنه قد بدأ شيئا ما في 2013 الّا أنه سرعان ما توقف قبل أن تتسع التظاهرات بالشكل الكافي. سيكون من سخرية الأقدار أن يكون هذا النظام المستبد هو نتيجة لتحالف الاسلاميين والعسكر، ثم يكون إخراجه أيضا بتعاون بين الاسلاميين والعسكر، ما أشد الشبه وما أكثر المباينة!
    المعضلة الأساسية هي ايجاد تلك الشعلة التي تحرك هذه الخلية النائمة من الاسلاميين، لأنهم لم يستقيلوا الأمر الا عن يأس عظيم. سيكون على الموالين منهم التغلب على وهم الاصلاح والاقرار أن هذا أوانه قد فات ولم يبق الا التغيير.

    سيكون على عموم الاسلاميين الاقرار بأن العلّة في مشروع الدولة الاسلامية تمتد جذورها حتى مستوى الفكرة الأساسية وأن المراجعات لا مناص لها من التنقيب حتى تلك الاعماق قبل أن تصل الى أصل المشكلة، وعلى هذا الأساس فإن مشروع الدولة الاسلامية القائم الآن ينبغي أن يُنقَض ففكرته خطأ وفعله خطيئة. كذلك ينبغي على الاسلاميين أن يَسموا فوق عصبياتهم الايديولوجية ولا يعتزلوا فعل التغيير مخافة أن يقفوا أمام خصومهم موقف المقرّ بالخطأ. لا بد أن يتجرّعوا تلك المرارة لأجل السودان، كما أن أقرانهم في التيارات الأخرى ينبغي أن يَسموا لمستوى التحدي ويحرّروا النفوس من الغبن والشماتة. اذا كانت المركب تغرق فخير للمرء أن يسد خرقها بدلا من أن يذكر الناس أنه حذرهم من الغرق! كذلك فإن الخروج عن نظام مستبد حتى في أوقات زنقته ليس قلةَ مروءة ولا قفزا من مركب غارق فالحق أحق أن يتبع ولو متأخرا، والاصرار على اسناد الظالم حين تشتد عليه العواصف ليس رجولة بل هو غاية الظلم.

    هذه الفئة من الاسلاميين تنقصها القيادة الملهِمة بعد أن تفرقت بهم مواعين السياسة. والتطلع الى قيادة ملهمة في عصر المؤسسات هو ردّة ورجوع، أنا أقرُّ بهذا، ولكنه في واقع الاسلاميين الآن حقيقة وليتهم يجدونها! لا شك أنه لو ظهر بينهم صاحب سابقة في الحركة يثقون في نزاهة يده وحسن تدبيره لبُعِثوا ملبّين كما يُبعث الأموات، فتلك الاشواق (على ما بها من علل!) لا زالت متّقدة في صدور غالبهم والأمل في اصلاح ما فسد باسمهم سيزيدهم حماسا وخروجا. ولكن أنّى لهم مثل هذه القيادة الآن؟! فكل الاسماء الآن تحمل تصنيفا وكل تصنيف يجرّ معه سخط الآخرين. رغم ذلك فالاسلاميون سيتعلقون بالأمل، وربما لو جروء أحدهم أو جماعة منهم على خطاب جديد يخرج عن خلافاتهم القديمة ويدعو الى ما قد يجمعهم، وباعتبار ما آل اليه حال البلد من خراب، ربما عندها يفلحون في الخروج كجماعة واحدة لها مهمة واحدة: تغيير النظام.

    حتى لو افترضنا أن هذا الأمر على عسره تحقق، فالنظام لن يتغير ببساطة. لقد أتقن البشير لعبة كسب الوقت فصار يلجأ الى تغيير الوجوه المستمر الهاءً لعموم الناس وممارسة للترغيب والترهيب للطامحين، فلا يزال يقيل اسما كبيرا ليعود بعد سنوات باسم كبير آخر فيترك الناس في شغل بصلاح هذا وفساد ذاك، متعاليا يهذا عن الملامة بينما هو الملوم الاول! لذلك فلا بد أن تصل الرغبة في التغيير الى أقرب الدوائر من السلطة الحاكمة الآن وتحديدا العسكريين. لا غرابة أن البشير كلما حَزَبَه أمر فزِع الى العسكريين في الجيش والأمن وغيرهم فهم موطن الحذر ومن بيده السلاح. هنا تظهر معضلة بروتوس. لا بد أن يُغَلّب بعض أصحاب النفوذ في الدولة من العسكريين والسياسيين حب البلد على حب القائد كما فعل بروتوس وأعوانه.

    غني عن القول هنا أن المقصود هو الضغط على الرئيس للتنازل أو إزاحته عنوة وليس الاغتيال كما فعل بروتوس والمحررون فهذا ليس شيمة السودانيين. وللأمانة فإن ما فعله المحررون لم يأت بخير على روما حيث اشتعلت فيها حرب أهلية ثم تحولت الى امبراطورية. ولكن للسودان سابقة في تعاون الجيش مع السياسيين نقلت البلاد من حكم نميري القهري الى الديموقراطية بأمان دون انزلاق في حروب أهلية ولا اقامة مقاصل ثورية للمايويين.

    عموم السودانيين ليسوا متحمسين للخروج هذه المرة بسبب البطش الزائد للنظام والخوف من النماذج في سوريا وغيرها. ولكن الواقع أنّ الضيق هذا ليس طارئا وسيزيد طالما بقي النظام. المسألة لا تعدو أن تكون وقتية قبل انهيار الحال الى وضع لا يحتمله الناس فيخرجون مفضلين الموت على القعود، عندها سيكون التغيير بالشكل الذي نخافه الآن ولات حين مناص! الاسلاميون هم من أدخل البلد في هذا المأزق وإنها لمسؤوليتهم أمام الله وأمام الناس أن يصلحوا ما أفسدوه باخراج هذا النظام من الحكم بشكل آمن وتسليم البلد الى أهلها. والعسكريون شأنهم في المسؤولية كشأن المدنيين. صحيح أن طاعة القائد قاعدة راسخة في العرف العسكري ولكن اذا تعارضت مع مصلحة البلد العليا فللقاعدة استثناء وعلى هذه المؤسسات ان تقدر الأمر بمسؤولية وفي الوقت المناسب.

    لقد اختلف الناس على فِعلة بروتوس والمحررون بين وصفها بالخيانة أو البطولة وربما يكون هذا مفهوما لأن قيصر كان رغم جبروته قائدا فذا ساهم في صناعة روما كاحدى أعظم الدول في التاريخ الانساني. ولكن ما بال هذا!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..