الدين والسياسة (3)

د. الشفيع خضر سعيد

ظلت هذه التجارب تؤطر لإقتصاد السوق وسياسة التمكين الإقتصادي للخلصاء وأخوة التنظيم، دون أدنى إعتبار لشرائح الفقراء والمحرومين.

في الجزئين (1) و(2) من هذه السلسة من المقالات عن الدين والسياسة، تناولنا عددا من النقاط، أسميناها زوايا التفكير، حول إشكالية علاقة الدين بالسياسة، بإعتبارها الإشكالية التي ظلت مطروقة، وبشدة وإستمرارية، في المشهد السياسي في البلاد. وقبل أن نختم مناقشتنا بإستنتاجاتنا الأساسية حول هذه الإشكالية، وهو ما سنتناوله في مقالنا القادم، نواصل اليوم تسليط الضوء على جانب آخر من جوانب إستغلال الدين في السياسة، والمتمثل في جعل الدين وكأنه مجرد إطار لتجميل المشاريع الدنيوية، مهما بلغت هذه المشاريع من القبح والدمامة. معظم التجارب التي حكمت بإسم التوجه الإسلامي، بما في ذلك تجربة الإنقاذ في السودان، إتسمت بالابقاء على دولة لا تستند على حكم القانون، وتقلصت فيها مساحة ممارسة العدالة، بالمعنى المتعارف عليه دوليا وتاريخيا، بحيث أصبح الناس لا يثقون في عدالة وحياد ومعنى إستقلال مؤسسات العدالة والحقوق، بما في ذلك مؤسسة القضاء. والمسألة هنا لا تتعلق بالسياسة وقضايا الرأي فقط، وإنما الأمر تعدى ذلك ليدخل في قضايا ونزاعات حياتية، مثل نزاعات الأراضي أو الجرائم المرتكبة من أفراد أجهزة النظام، بما فيها جرائم القتل. ومن ناحية أخرى، ظلت هذه التجارب تؤطر لإقتصاد السوق وسياسة التمكين الإقتصادي للخلصاء وأخوة التنظيم، دون أدنى إعتبار لشرائح الفقراء والمحرومين. كل هذه الممارسات والسياسات تتم تحت غطاء التحليل (من الحلال)، الذي يحلل كل شيئ لأهل هذه التجارب ويحرمه على الآخر، ما دام يتم بإسم تحكيم الشرع والإيمان، ومادامت المظاهر الشكلية للإلتزام الديني، وليس قيم الدين الحقيقية، متوفرة ومنتشرة بكثرة، من الزبيبة واللحية الكثيفة إلى السبحة الطويلة التي تكاد تعيق صاحبها أو صاحبتها عن السير.

وفي محاولة لإكمال الصورة، رأيت أن أقتطف بعض الإشارات من الكاتبين المصريين، الدكتور علاء الأسواني، الأديب والروائي وكاتب المقال السياسي المعروف، والكاتب والصحفي وائل لطفى، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية (2007). في كتابه (هل نستحق الديمقراطية)، تحدث علاء الأسواني عن ضباط الأمن المصريين الذين يؤدون الصلاة فى اوقاتها، ويصومون ويحجون الى بيت الله..، لكن كل هذا لا يمنعهم من ممارسة عملهم اليومى فى التعذيب والضرب وإستعمال الكهرباء فى صعق المعتقلين. كما أشار إيضا إلى الأطباء الذين يتركون المرضى بلا عناية حتى يتمكنوا من اداء صلاة التراويح. كذلك، تحدث عن ما أسماه التدين البديل، مشيرا إلى إن الذين يتبنونه ?يصومون ويصلون ويحيون الناس بتحية الاسلام، ويلزمون زوجاتهم بالحجاب ولنقاب، و ربما يشاركون فى مظاهرة ضد الرسوم الدنماركية أو منع الحجاب فى فرنسا، أو يكتبون الى بريد الاهرام منددين بالكليبات العارية?، وهم يعتقدون بعد ذلك انهم أدوا واجبهم الدينى كاملا غير منقوصا. وهم لا يهتمون اطلاقا بالشأن السياسى ولا يهتمون بموضوع التوريث،? بل ان بعضهم لا يرى بأسا فى ان يورث البلد من الاب الى الابن و كأنه مزرعة دواجن! المتدين البديل لا يعتقد اساسا ان له حقوقا سياسية كمواطن، وفكرة الديمقراطية لا تشغله، وأقصى ما يفعله بهذا الصدد ان يدعو الله ان يولى عليه من يصلح، ثم يحدثك بحماس عظيم عن عظمة الخلفاء العظام مثل عمربن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز.? ويقول الأسواني: ? إن التدين البديل مرض محزن اصاب المصريين فأدى بهم الى السلبية والغفلة. فالدفاع عن مبادئ الاسلام الحقيقية: الحرية والعدالة والمساواة، مسألة محفوفة بالمخاطر فى مصر ستؤدى حتما الى السجن وقطع الرزق و التشريد. اما التدين البديل فلن يكلفك شيئا، وهو يمنحك احساسا كاذبا بالطمأنينة و الرضا عن النفس?.

أما الباحث وائل لطفي، وفي كتابه (الدعاة الجدد)، لفت النظر الى كون الائمة الجدد يدعون مؤيديهم الى الابتعاد عن مشاكل الصراع السياسى، والركون إلى تفسير كل ما يقع عليهم من عنت على انه قدر أو عقاب على ذنب شخصى. و يوضح وائل لطفى ان الدعاة الجدد، ورغم ان ظهورهم على المسرح المصري جاء كردا تلقائيا على رفض العنف والارهاب باسم الاسلام، ورغم انهم يظهرون بمظهر عصرى، او اذا شئت ليبرالى، ويستفيدون من الفضائيات، ومنتجات الغرب التكنولوجية وغيرها، الا انهم يرفضون العقل النقدى ويدفعون مؤيديهم الى حالة عمى تجعلهم بعيدين عن الوقائع اليومية.

بإختصار، نحن نود القول بأن ما يجري في السودان اليوم، من إستغلال للدين في السياسة، وغض النظر عن النوايا، هو في النهاية سيفضي إلى إستخدام الدين ككابح ضد التغيير والتقدم الإجتماعي، وذلك من خلال محاولات طمس ملامح الشخصية السودانية عبر طرح ثقافة دينية تعنى بالمظاهر دونا عن جوهر الاسلام، ومن خلال محاربة البعد الشعبي للتدين في السودان. وأعتقد أن هيمنة وكنكشة الإنقاذ على السلطة في البلاد، جاء مخالفا للخط التاريخي المتعلق بالفتح الاسلامى فى السودان، والذى جاء مسالما، متقبلا للثقافة اليومية، ومنفتحا عليها بدرجة ان اصبحت اللغة العربية هى لغة التحاور و التفاعل بين القبائل المختلفة العرق والدين فى السودان. وهذه الهيمنة السلطوية احدث تصدعات مهولة بفصلها للجنوب، وبمباركتها للحرب الاهلية الدائرة فى البلاد، وعمقت من المأزق الذى تمر به البلاد والذي يضع الآخرين، وحتى الاسلاميين فى الاحزاب والجماعات المختلفة بما فيهم اهل الطرق الصوفية، يضعهم فى خانة المتورط و المسئول عما يحدث من شرور.. و ليس أمام الإنقاذ، التي تطل علينا صباح مساء لتذكرنا بأنها تحكم بإسم الإسلام، ليس أمامها خيارات كثيرة: فإما ان يرضوا مشاركة الاخرين فى اقتسام الثروة والسلطة، ويعترفوا بوجود هولاء الآخرين كاجسام حية، مرئية، لها كامل المشروعية في السودان مثل غيرهم، و اما ان يستمروا فى سياسة التطهير و التصفية و التخوين و التمكين و التكفير و بالتالى يستمر القتال وتتفاقم الأزمة. (نواصل)

الميدان

تعليق واحد

  1. من أسوأ ما حدث للإسلام في بلادنا هو أن ترك المفكرون و الصفوة أمر الدين للإخوان و تنصلوا عن التزامهم بالواجب الديني العبادي اليومي بحجة الحداثة و العلمانية كأن الدين الاسلامي ليس اصل من أصول الحياة و كأننا مخلوقات حرباوية نتلون كما يشأ لنا الغرب و الحضارات الغربية و لا يضر الاسلام أن تفلت العلمانيين أو تمسح به المنتفعيين أو احتكره المغاليين أو ركب على ظهره النفعيين فالاسلام كدين لا يمكن ابتزاله في مقالاتك أيها الرجل فهو دين لنجاة البشرية و تكليف للعالمين من الجن و الانس باتباعه كنهج قويم يبدا من الفردية الى كافة المراحل الاجتماعية ضيقها و واسعها برسم إلهي ليس فيه نقص و لكن هو الكمال في كل شاردة و واردة الى مثقال الذرة و التدين الذي دعا له الاسلام الحق ليس بهذا الشكل المظهري ياشفيع إنما الدين المعاملة و الدين النصيحة و الدين معادلة شفافة رسمها الحق عز و جل في يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (سورة النساء 135) أما ما ذهبت اليه بتلميع الكتاب المصريين الذين تعتقد أنهم هم اهل الحجة على الدين لا يا شفيع فهذا النوع من الادبيات لا يستطيع أن يفسح الفكر عن الاسلام إلا في محيط ضيق هو رصدلسلوكيات فئة من الفئات المنتمية و إن هي عيبت بسلوك فلا يقدح هذا في الدين إنما يقدح في فهمنا السلوكي و التربوي و الفلسفي لمنهج الدين و التدين !!!

  2. الانسان السوداني هو الوحيد الذي لا يغيره الدين بل هو يغير الدين ويكيفه لمصالحه الخاصة ويلوي الاستقامة كي تتماشى مع هواه اي شخص من أي جنسية عندما يتدين يتغير سلوكه واخلاقه ومبادئه وفق ارادة الله ومنهج الرسول صلي الله عليه وسلم وكذلك الصحابة كانوا يسئون الجوار ويأكلون الميتة ولا يقولون إلا البذئ من القول والقوي آكل والضعيف مأكول على حد تعبيرهم ولكن عندما جاء النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم تغيروا واصبحوا سادة الأمم حتى وصلوا لدرجة الرضوانية رضي الله عنهم ورضوا عنه

  3. تداخل الدين و السياسة يضر كل منهما بالآخر. ستظل المفاهيم الدينية كابحا للأفكار البناءة والمبدعة و الإبتكار و التقدم و الإرتقاء و التطور (أى ضد الشعار الإستراتيجى للبلد).أى فكر جديد يجب ان يمر عبر بوابة التأصيل المتخلفة، و عندها تنتزع عنه صفة التجديد.من جانب آخر فان السياسة قد تقدح فى المفاهيم الدينية والمثال على ذلك اجازة البرلمان للكثير من القروض الربوية.أكثر الدول تقدما هى التى ابعدت الدين عن الدولةو العكس صحيح 100%.

  4. ما ذكره الكاتب وما نقله عبارة عن ملاحظات على اداء الاسلاميين من قادة ودعاة وعامة وهذه السلبيات المذكورة لا تطعن في المشروع الاسلامي. كما ان اتخاذ فشل الحكومة السودانية دليلا على فشل الفكرة نفسها مغالطة واصطياد في الماء العكر.
    هناك دول علمانية فاشلة وقد فشلت النظرية الشيوعية وحوربت في عقر دارها ومع ذلك ما زال الشيوعيون يتمسكون بالفكرة رغم فسادها وضلالها البعيد.
    والكاتب ومن نقل عنهم من الكتاب إنما يوردون كلمات حق يراد بها باطل فهم لا يهدفون من وراء ذكر هذه السلبيات تصحيح اوضاع المتدينين والدعاة وإنما يحاولون النيل منهم بإثبات سوء افكارهم وسلوكياتهم. وهؤلاء ضد تحكيم الشريعة الاسلامية ولو جاءت مبرأة من كل عيب.
    يمكن استغلال الدين لمصالح شخصية ويمكن استغلال المناصب لمصالح شخصية ويمكن استخدام آليات الديمقراطية لتحقيق مآرب غير مشروعة، ويمكن .. ويمكن .
    إذن المشكلة في التطبيق. عليكم المطالبة بالتطبيق السليم للشريعة والعمل على ذلك لا محاربتها لأن حكومة فشلت او لأن عالما او متدينا أخطأ.
    على المعارضين للحكومة انتقادها وتقديم البديل الأفضل وتقديم نموذج افضل في السلوك والأفكار.
    بعيدا عن السياسة
    هل ترفضون أيها العلمانيون التزام المسلمين بما جاء في الكتاب والسنة.
    وهل يمكن ان يكون ذلك في الاطار الشخصي فقط؟
    كيف نلتزم بتحريم الربا وتطبيق الحدود ودفع الزكاة وفرض الحجاب دون ان تكون القوانين في الدولة مستمدة من الشريعة. واين نذهب بالآيات التي تطالب بتحكيم الشرع مثل ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرج مما قضيت ويسلموا تسليما)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..