رتق على جرف القارات – قصة قصيرة

‏(1)‏ ‏- لا تنظر لي بدهشة فلم يحن بعد الوقت لكي تكتب قصة حياتك فهي لم تبدأ بعد ، لقد قال ‏دولوز بأن صنع حدث ما ؛مهما بلغ صغره؛ هو الأمر الأكثر صعوبة ، ومهمتي هي صنع ‏الأحداث ، كما ستكون هذه هي مهمتك أيضاً ، أرى التساؤلات في عينيك الصامتتين دوماً ، ولكن ‏لم يحن وقت إجابتها، وأنا لا أسرد ما حصل لك إلا لكي تؤمن بالحتمية ، حينما تمارس دور الإله ‏في صنع الأحداث ، وليس المشاركة فيها ، حينئذٍ ستشعر بقوة لا تقهر في ذاتك حينما يكون ‏موكولاً لك أنت وأنت وحدك فقط أن تصنع الأحداث ، ألم أقل لك بأن قصة حياتك لم تبدأ بعد . ‏
‏ حسناً لا تخش شيئاً ، أدرك بأنك مرتبك ، وربما قلق من هذه المقابلة ، في الواقع أراك في حالة ‏رعب كبيرة ، تماماً كذلك اليوم الذي أوقفت فيه سيارتك بعنف حتى اصطدمت بك السيارة التي ‏خلفك ، وأنت تتصبب عرقاً ، حينما سمعت بمقتل (ص) إثر حادث سقوط طائرته ، شتمك الرجل ‏الذي اصطدم بك وتجمهر الناس حول سيارتك ولكنك كنت في حالة ضياع كامل وبيد مرتعشة ‏أخرجت الفلاش من درج السيارة وأخذت تنظر إليه برعب شديد. ثم دسسته في جيبك وقدت سيارتك ‏والعرق يجرح عينيك من خلف النظارة ذات العدسات السميكة . قبل ثلاثة أيام التقيت بـ(ص) الذي ‏كان متوتراً وحكى لك قصة مشاهدته لنائب رئيس الحزب الحاكم وهو يمارس الشذوذ مع ضابط ‏في الأمن وقام بتصوير المشهد ثم منحك الفلاش لتخبئه عندك وهو يؤكد لك بأن قتله أصبح ‏وشيكاً. لقد كان (ص) مؤمناً بالحزب إيماناً عميقاً ، وبقدر عمق إيمانه كانت صدمته . الآن بعد ‏أن سمعت بخبر قتله توقف عقلك عن العمل ، هرعت إلى منزلك وأخذت تشاهد ابناءك الصغار ‏وهم نائمون في حضن أمهم ، كنت خائفاً على مستقبلهم إذا قُتلت أنت نفسك ، وكانت مخاوف ‏الدنيا كلها تقفز إلى أم دماغك كصراصير الليل ، أمامك خياران أن تحتفظ بالفلاش أو أن ترميه ‏في النهر ، وكان الخيار الأول يعني أنك ستظل مهدداً إذا أُكتشف عندك ، ولكنك لو ألقيته في ‏النهر وجاء رجال الأمن فطلبوه منك وأخبرتهم بأنك تخلصت منه فلن يصدقوك ، إذن؛ الخياران ‏أحلاهما مر ، وقررت أخيراً أن تحتفظ بالفلاش في خزنتك بالبنك . أعتقد بأنه كان خياراً صحيحاً ، ‏ولكي تتجنب جميع الشبهات ، خاصة أنك كنت مقرباً إلى (ص) ، فقد كان عليك أن تنضم إلى ‏الحزب الإسلامي الحاكم ، وأعتقد أنه أيضاً كان قراراً ذكياً ، خاصة أنك ومن فرط رعبك تبنيت ‏الصمت في علاقاتك داخل الحزب ، أتذكر أول يوم ذهبت فيه إلى مباني الحزب ، كنت تتحرك ‏كالسلحفاة ببطء شديد ، وبصمت ، دخلت إلى عالم لم يكن عالمك أبداً وأنت المحامي الصغير ، ‏دخلت عالم السياسة ، دخلته مكرهاً ، طامعاً في أن تحمي أبناءك من مجرمي الحزب الحاكم ‏الأوحد ، من نظام يغتال كل من يقف ضده بأكثر الطرق خسة ، كنت تقف في باحة مقر الحزب ‏صامتاً والشمس تصهر إحساسك بالأمان ، وكل من يدلفون إلى الحزب كنت تراهم إما وحوشاً لهم ‏قرون الشياطين وأنياب السباع ، أو ضحايا خائفين مثلك ، لقد سجلت إسمك ووقعت على ميثاق ‏الحزب ولم يتبق لك إلا يوم أداء القسم ، لكنك لا تعرف أكثر من هذا ، لا تعرف كيف تبدأ ‏اللقاءات بأعضاء الحزب الآخرين ، ولا متى تكون الإجتماعات ولا أي جانب تنظيمي ، فأنت ‏مستجد ، لا خبرة لديك ، وقررت أن تتبع ثلاثة شبان نحو أحدى الغرف ، ترددت كثيراً قبل أن ‏تدخل وراءهم ، لكنك في النهاية عزمت أمرك ، لتجد نفسك أمام حشد من عشرين عضو جديد ، ‏وهناك من يلقي على مسامعهم محاضرة استقبال ، كان يسألهم عن سبب دخولهم فكانوا يجيبون ‏بتزلف ونفاق أما أنت فلم تستطع حتى أن تجد إجابة مقنعة فقد ظللت صامتاً حتى أن بعضاً من ‏الأعضاء الجدد أخذوا يخفون ضحكاتهم الساخرة . وقد أحس المحاضر المدعو بـ (ن) بإشفاق شديد ‏عليك ، فقد نحى بك جانباً بعد ان انتهى من محاضرته وطلب منك الحضور يوم الاثنين الساعة ‏العاشرة مساء إلى مقر الحزب الرئيسي في العاصمة وقد وقع على بطاقتك من الخلف لتسهيل ‏دخولك ، وخلال كل ذلك لم تكن تنبس ببنت شفه ، وكان الرعب يعتصر مفاصلك . ‏
‏***‏
يوم الاثنين كان حافلاً بالنسبة لك فقد قادك (ن) إلى كل قيادات الحزب من الصف الثاني ، ورغم ‏شعورك بالخوف إلا أنك تماسكت غير أنك لم تتجاوز القاعدة الذهبية : الصمت . كنت ترد التحية ‏الخاصة بالحزب ، وتتجنب الجمل الطويلة ، تعرف عن نفسك فقط ، هم كانوا يعتقدون بأنك إنما ‏تفعل ذلك كنوع من الاحترام ، لكنك في الواقع كنت تفعل ذلك خوفاً ، قادك (ن) عبر الدهاليز ‏والمكاتب المكيفة ، حتى إذا انتهى الأمر ودعك عند الباب قائلاً:‏
‏-تعود أن تداوم على تواجدك في الاجتماعات ، ذلك أنني قد نقلتك اليوم من صف المبتدئين إلى ‏صف القادة ، وعليك أن تثبت جدارتك بنفسك .. إلى اللقاء .‏
وحين ودعته حانت منك التفاتة إلى سيارتك ولاحظت أخيراً الانبعاج الناتئ في الخلف وتذكرت ‏الحادث وكأنه قصة قديمة. لكنك الآن أكثر ارتياحاً من ذي قبل .‏
كل اربعة أشهر كانت تسقط طائرة ثم تليها طائرة وثالثة وهكذا يتم اغتيال الأعضاء المتفلتين في ‏الحزب ، أو أولئك السياسيين الذين يخشى إتساع نفوذهم الشعبي ، أو من يمسكون بكروت خطرة ‏ضد قيادات الحزب النافذة ، وهكذا قتل (ص) أيضاً ، وربما تقتل أنت أيضاً في يوم من الأيام إذا ‏اكتشفوا احتفاظك بالفلاش . ولكي تتجنب ذلك كان عليك أن تكثف من نشاطك داخل الحزب ‏وحضور كل الاجتماعات ، وقد كان ذلك . كانت الصراعات داخل الحزب محتدمة ، وكنت أنت ‏الوحيد الذي جنبه صمته من الدخول في المعارك أو اختيار شلة على أخرى ، فقد كان غرضك ‏الوحيد هو الاختفاء داخل الظهور ، وهذا ما جعلك محبوباً من الجميع حينما تأكدوا تماماً بأنك ‏لست صاحب غرض نفعي ، لكنهم كانوا يتساءلون سراً عن سبب انضمامك للحزب وأنت كما ‏يبدو عليك لا تفقه شيئاً في السياسة ولا الانتهازية . ولما طال صمتك توقفوا عن التساؤل واعتقدوا ‏بأنك قد خُلقت هكذا؛ شخصية صامتة لا تحب الجدل والنقاش وهذا ما زادهم اطمئناناً .‏
‏***‏
لم يكن الصف الثاني من قيادات الحزب خالياً من الصراعات بل كانت الصراعات أكثر عنفاً لأن ‏كل عضو منهم كان يستند إلى شخصية قوية من الصف الأول وكان يرغب في الحصول على ‏منصب سياسي يمكنه من إدارة أعمال تجارية تدر عليه مالاً يضمن به مستقبله ، وهكذا تكونت ‏مجموعة بقيادة (م م) في مواجهة مجموعة بقيادة (ت ع) ، كان (م م) يستند إلى رئيس جهاز ‏الأمن والمخابرات ، في حين أن (ت ع) كان يستند إلى أحد مستشاري الرئيس ، وكان محل ‏الصراع صفقة سلاح ذات تعقيدات شديدة ، وإزاء هذا الصراع لم يعد وقوفك فوق خط عدم الانحياز ‏ممكناً بل كان عليك أن تتخذ قرارك الحاسم بالانضمام لإحدى المجموعتين ، كان رئيس جهاز ‏المخابرات يبدو الأقوى في الظاهر ، إلا أن المستشار كان صاحب نفوذ أكبر فهو مقرب من ‏الرئيس نفسه ، فانضممت إلى مجموعة (ت ع) ، ونسبة لهذا الخيار الصائب فقد تم تصعيدك إلى ‏درجة القياديين بالصف الثاني بعد أن كنت مجرد عضو عادي. أما (م م) فقد صار عارياً من ‏السند بعد أن أقيل رئيس جهاز الأمن من منصبه بل وتم اعتقاله بتهمة الاعداد لانقلاب مع ‏بعض العسكريين ، ونتيجة لأنه كان يملك معلومات دقيقة عن الجميع فقد تمت تسوية الأمر معه ‏بالعفو عنه مقابل إلتزامه بالصمت والاكتفاء بإدارة أعماله التجارية التي بلغت مليارات الدولارات. ‏وهكذا قرر (م م) الإنشقاق عن الحزب ، وتكوين مليشيا مسلحة مستغلاً وجود تمرد مسلح في ‏الغرب فانضم لحاملي السلاح ، لكنه أغتيل من نائبه الذي رأى أنه الأجدر بقيادة المليشيا من (م ‏م) ؛ فهذا الأخير ?كما كان يعتقد نائبه- مجرد سياسي لا يصلح كعسكري متمرس في أعمال ‏القتل والسلب. ‏

‏***‏
ثم مضت بك الشهور وكدت أن تنسى قصة الفلاش لولا ذلك اليوم الذي كنت فيه تحوم داخل ‏أروقة الحزب فإذا بنائب رئيس الحزب وضابط الأمن يمران أمامك ، وحين تسمرت في مكانك ‏حانت من نائب رئيس الحزب التفاتة نحوك ، ثم ابتسم لك ابتسامة صفراء أرجفت قلبك وتذكرت ‏وجه (ص) المذعور قبل اغتياله . كان رئيس الحزب هو رئيس الجمهورية وهو رجل عسكري لا ‏يفقه شيئاً في الحكم فاضطر إلى الاستعانة بنائبه في الحزب وهو زعيم سياسي لأكبر حزب ديني ، ‏هذا الأخير استطاع أن يسيطر على الدولة عبر سيطرته على البرلمان حين امتلك ناصية القانون ‏فركز السلطات في يده كرئيس للبرلمان ونائب لرئاسة الحزب . وحين اختفى من أمامك تنفست ‏الصعداء ودخلت إلى أقرب قاعة بوعي ضبابي مختبئاً فيها.‏
كانت القاعة ممتلئة بالأعضاء من الصف الثاني ، وكانت تناقش الحرب في الجنوب ، وضرورة ‏أن يتم استقطاب الشعب واستدراجه على أساس الاختلاف في الدين أي خوض حرب مقدسة ، إلا ‏أن أحد الأعضاء ويدعى (ك) كان معترضاً على تحويل الحرب من حرب بين الحكومة ‏والمتمردين إلى حرب دينية قد تثير حفيظة المجتمع الدولي ، فيجد المتمردون مبرراً أخلاقياً للحرب ‏كمدافعين عن حريتهم الدينية ، إلا أن الأعضاء وقفوا ضد (ك) باعتباره متهاوناً في الدفاع عن ‏العقيدة التي هي قوام الحزب وأساس قيامه والدافع الذي أوصله إلى السلطة عبر الإنقلاب العسكري ‏على القوى العلمانية الكافرة ، وقد عرفت فيما بعد بأن (ك) تم إيداعه السجن بتهمة الفساد رغم أنه ‏كان أكثرهم نظافة يد ؛ وحينئذٍ زادت قناعاتك بأن هذا النظام يعتمد على تصفية كل من يخالفه ‏جسدياً ومعنوياً مما زاد شعورك بالرعب ، فازداد صمتك داخل الحزب حتى عدت كقطعة أثرية يتم ‏نقلها من متحف لآخر دون أن تعترض. وتفاقم لديك ذلك الشعور بأن الإنسان إنما يقف وحيداً ‏وقوى الشر تحيط به من كل جانب ، وقد لاحظت زوجتك صمتك واكفهرار وجهك ، وانطواءك ‏على ذاتك قرب طفليك بألم ، لم تعد تثق حتى في نفسك وأنت تحدثها عن جحيم الحياة في دولة ‏دكتاتورية ، حيث يتربص الكل بالكل وأصحاب السلطة يمارسون القهر الجمعي والفردي بأقسى ‏وأقصى صوره بدون وازع ديني أو أخلاقي وبلا ضمير مستنير ، كانت حادثة صديقك (ص) قد ‏فتحت عينيك على الصورة القاتمة والتي أخذت مساحتها تتسع حتى بات الهرب إلى دولة أخرى أو ‏الموت هما أفضل الموانع من الوقوع تحت أيديهم ، وما زاد الطين بلة حين تم استدعاؤك للمثول ‏أمام جهاز الأمن والاستخبارات ، في ذلك اليوم ارتجف جسدك وتصبب عرقاً وشعرت بأن أشواكاً ‏تنغرز في كل مسامة من مسامات جلدك ، إلى أن جلست صامتاً أمام ضابط الأمن الذي ظل ‏بدوره صامتاً وهو منشغل عنك لساعتين بقراءة أوراقه إلى أن رمقك بنظرة من فوق نظارته وهو ‏يقول:‏
‏- لماذا لا تشرب شيئاً .. هل أنت خائف ..‏
وحين اجتررت غصة من حلقك ، ومسحت العرق من جبينك بمنديلك ، نهض فصب كوب ماء ‏بارد لك وقدمه قائلاً:‏
‏- لا تخف .. إن كل ما هنالك هو أننا رأينا جديتك ونشاطك داخل الحزب فوجب علينا أن نكافئك ‏قليلاً ، لا شك أنك خائف بسبب سماعك لتلك الإشاعات المغرضة التي تقول بأننا نعذب ‏المعارضين والخونة جسدياً وجنسياً ومعنوياً .. حسناً .. لا تصدق كل ما تقوله المعارضة فهم ‏يعمدون لتشويه صورة الحكومة .. هل تصدقهم ؟
هززتَ رأسك نفياً دون أن يتمكن صوتك من الخروج من حنجرتك .. حينها نهض الضابط ولف ‏حول مكتبه ثم جلس أمامك قائلاً :‏
‏-نحن نعرض عليك وظيفة في الاستخبارات .. وهي وظيفة بسيطة .. وبالتأكيد سنعطيك عليها ‏أجراً .. عليك فقط أن تكون مصدراً لنا داخل الصف الثاني من الحزب .. أنت تعرف أن هناك ‏انشقاقات عديدة تحدث وأن هناك متفلتون لأن وجودهم داخل الحزب لم يحقق لهم مطامعهم ‏ومصالحهم الشخصية .‏
ثم ضرب بسن قلم حبر على الطاولة وهو يردف:‏
‏-هؤلاء هم من نريدهم .. وأنت عليك أن تطلعنا عليهم وعلى كل جديد .. لن تكتب تقارير ورقية ‏بل ستأتي هنا وتحدثنا عنهم شفاهة .. ‏
وحين بدأ الضابط في شرح المهمة كان عقلك قد غاب تماماً وربما لأول مرة تشعر بالإمتهان ‏لكرامتك وأنت تستخدم كمخبر لا يختلف عن أي قواد ، لكنك تحت رحمتهم الآن وفي كل وقت ، ‏وحين قادك أحدهم إلى الخارج ولفحتك الشمس بدا لك وأنك قد أضحيت كائناً ميتاً بالفعل .‏
وبت الآن منشغلاً بهم جديد وهو الوشاية بالآخرين ، وكاد هذا الخوف يزول بعد خلاص زائف ‏تمثل في عملية إنقلابية فاشلة ، تم على إثرها إعدام سبعة وعشرين ضابطاً في الجيش ولم يتم ‏الكشف عن مكان دفنهم حتى اليوم .‏
‏***‏

‏(2)‏
تلقيت اتصالاً من والدتك تخبرك فيه بغياب شقيقك عن المنزل منذ ثمانية أيام ، فأخذت تبحث ‏عنه في كل مكان ، ولكنه عاد في اليوم التاسع بوجه متورم وجروح سياط تدمي ظهره ، ثم ألقى ‏جسده على السرير وغاب عن الوعي ليوم كامل قبل أن يصحو ويخبركم بأنه كان معتقلاً لدى ‏جهاز الأمن والمخابرات ، وحكى عن عمليات اغتصاب تعرض لها هو وجماعة آخرون من حزب ‏الشباب الثوري ، بالإضافة لعمليات تعذيب ، وإعدام زائف ، فقلت له:‏
‏- سأعمل على تهريبك خارج البلد .. ستسافر إلى مصر وهناك تطلب اللجوء السياسي ..‏
لكنه قال بإصرار:‏
‏- لابد من المقاومة ..‏
‏- عن أية مقاومة تتحدث .. إنك تجابه نظاماً كاملاً .. يجب أن تتوقف عن السياسة وأن ترحل ‏إلى الخارج
‏- لقد قتلوا صديقي المهندس جابر .. وصديقي الآخر عبد المعطي تم اغتصابه فخرج وهو ‏مصاب بالجنون فقتل زوجته وأولاده وانتحر .. هل تريدني أن أترك ثأرهما .. هل تريد أن تضيع ‏جهودنا سدى في مقاومة الدكتاتورية ! هذا لن يحدث أبداً ..‏
‏- استمع لصوت العقل .. هذا نظام كامل وأنتم حفنة من الشباب لو قتلوكم فمن سيحاسبهم .. إن ‏كل شيء تابع للنظام ؛ القضاء ، الشرطة ، النائب العام ، الجيش ، كل شيء كل شيء .. دع ‏الحماقة ويكفك ما نلته من تعذيب .. اترك كل شيء وسوف أوفر لك تذكرة سفر إلى القاهرة هناك ‏ستطلب اللجوء السياسي إلى أية دولة أوربية أو أمريكا لتعش حياتك ..‏
‏- إنها قضية مبدأ يا أخي .. مبدأ ..‏
‏- لازلت يافعاً وعقلك لم يدنو من الرشد .. ‏
‏-بل سأقاوم .. أما أنت فلن أطلب منك الخروج من حزبهم المتعفن لأن هذا خيارك وأنت حر ..‏
‏- من أخبرك بذلك ؟
‏- الكل يعلم بأنك أضحيت من قيادات الحزب … لن أسبب لك إحراجاً فلي شخصيتي القانونية ‏المستقلة ولك شخصيتك القانونية..‏
كان شقيقك مصراً على موقفه بمناهضة النظام ، وكنت خائفاً عليه من القتل ، لكنه كان شاباً في ‏مقتبل العمر يحمل قلب الفتوة وعقلاً مليئاً بخيالات الأبطال وأوهام الحرية ، لم يفهم أبداً أو يتخيل ‏ما كنت تسوقه له من مبررات لترك العمل السياسي والالتفات إلى مصالحه … كانت الشقة بينكما ‏كبيرة .‏
كان منهكاً مما منعه من المشاركة في المظاهرات المتقطعة التي شنها عديد من الشباب الثائر ‏وقتل منهم الكثير على يد رجال الأمن .‏

‏***‏
كان عليك فقط أن تضع توقيعك ، وبيد مرتجفة فعلت ، لا تدري ما الذي يحدث ، لقد أستدعيت ‏إلى لجنة خاصة مكونة من ثلاثة أفراد ، لم تتعرف إليهم من قبل ، وطلبوا منك التوقيع على أوراق ‏مكدسة بقربهم ففعلت وكعادتك ابتعلت لسانك ولم تنبس ببنت شفه ، ثم دخلت إلى المكتب ‏الصغير والمفروش بأوثر الرياش ، فتاة صغيرة ?علمت فيما بعد بأنها بلغت لتوها التاسعة عشر ‏من عمرها ? طُلب منها التوقيع هي أيضاً ، فوقعت ولكن بأصابع واثقة ، ثم أخبروك بأنك ‏أصبحت شريكاً للفتاة في شركة إستيراد المعدات البحرية ، وأن مهمتكم الأولى هي شراء يخت ‏لرئيس الجمهورية ، وأن أرباح العملية ستذهب كلها إلى جهة غير معلومة ولا يجوز لكما السؤال ‏عنها ، ومع ذلك فستنالان عمولة مناسبة ، كانت هذه أول قضية فساد تراها بأم عينيك بل وتكون ‏أنت نفسك أحد ضحاياها أو جناتها في الواقع لقد درسوا أعضاء الحزب جيداً وتوصلوا إلى ‏شخصيتين صالحتين للمهمة ، أنت لأنك صامت والفتاة لأنها يتيمة وضعيفة ، كما أنها كانت ‏انطوائية ، هذا الحدث ?ربما لم تكن تعرف- بأنه كان حجر الدومينو الأول والحقيقي في تطور ‏نظرتنا لك ، لكنك لم تكن بعيداً عن عيني أنا بالذات قبل ذلك ، وهأنا أسرد قصة بدايتك ونهايتي ‏لك لكي تطمئن.‏
‏***‏
اخترتك ، نعم اخترتك وأنا أعلم بكل شيء ، حتى الفلاش الذي يحمل الفيديو الفاضح في داخله ، ‏أعلم حتى كيف توقفت عن ممارسة الجنس مع زوجتك منذ أشهر بسبب مخاوفك ورعبك من أن ‏تقع في أيدينا ، في يدي أنا ، ولكن لا تخش شيئاً فأنت لا تعلم ما ينتظرك ، إنك ستكون بديلي أنا ‏نائب رئيس الحزب ، لقد كبرت في السن ، ولم أعد قادرا على تنفيذ كل المخططات بنفسي ، ‏صحيح أنني نائب رئيس الحزب لكنني الرئيس الحقيقي في هذه الدولة ، لماذا تبتعد عني ، هل ‏تخشى أن أتحرش بك حنسياً ، لا لا تخش شيئاً ، سوف تدرك في يوم من الأيام أنك كنت مخطئاً ‏حين ظننتني شاذ جنسياً ، حتى الفيديو الذي معك لن يستطيع شرح السبب السياسي لممارسة ‏الشذوذ . عليك أن تفهم أن هذا العالم لا بد أن يسيره الإنسان ولو قسراً ، هذه التناقضات ، ‏الصراعات ، الإرهاب والإرهاب المضاد ، كل ذلك ، وغيره ، نحن من نسيطر عليه ، نسيطر على ‏هذا العالم بذكاء كبير ، لا تعتقد بأنك لست ذكياً ، بالعكس أنت ذكي ، فقط عليك أن تجد البيئة ‏المناسبة لاستغلال هذا الذكاء ، الانتماء ، الانتماء لعالم أكبر ، لقوة أعظم ، لكيان يتفوق حتى ‏على الكيان الإلهي ، عليك أن تكون جزءً من صُنَّاع الحضارات ومن يدمرونها ، أولئك الذين ‏يرسمون سياسات العالم على القارات الخمس ، أولئك الذين يحيكون ثياب الحكومات والمتمردين ‏والإرهاب ، ويفصلون لهم أدوارهم ، أنت الآن ستكون جزءً من هؤلاء ، لقد اخترتك لتكون بديلاً لي ‏، اخترتك بعناية وبعد أن راقبتك لسنوات ، لقد التقيت بكل أصناف البشر وأغلبهم انتهازيون ‏ووصوليون ، وهم على ذلك من السهل كسرهم ، من السهل قيادهم ، أما أنت فلا ، أنت الزعيم ‏القادم ، ورئيس الكتلة الدينية المحافظة في الدولة ، سوف تكون قائداً للمجمع الإقليمي العالمي ، ‏فأنا أدير هذا المجمع وأرسم له سياساته ، سياسات الدول من حولنا ، من المغرب وحتى جزر ‏القمر ، سوف تتحمل أنت هذه المسئولية العظيمة ، بعد أن يتم تدريبك تدريباً دقيقاً قد يأخذ سنة ‏كاملة من عمرك ، سنة ستتلقى فيها ما لم تعرفه خلال مسيرة حياتك كلها.‏
ستسافر من هنا إلى تركيا ومن هناك إلى أمريكا ، سوف يتم الاحتفال بتدشينك عضواً في محفلنا ‏العالمي ، وبعدها ستتلقى تدريباتك المفروضة .‏
‏***‏
في نيويورك قادني السائق على سيارة الليموزين إلى شارع جانبي ثم توقف أمام مبنى عالٍ روماني ‏الطراز ذو سقف مقبب ، كانت بوابته الحديدية تكشف عن حديقة لم تشذب أعشابها وأشجارها ‏القديمة تعرت من أوراقها فغطت بها الأرض ، عندما دلفت إلى البهو قابلني ظلام دامس وتم ‏تغطية عيني بعصابة ، وسرت يقودني سائس إلى الداخل ، سمعت همهمة تلاه تصفيق ، وصوت ‏رجل يقول:‏
‏-نرحب بك عضواً في محفلنا العالمي ، هنا حيث نقود العالم ، وسيبدأ احتفالنا بطقس بسيط وهو ‏أنك ستتعرى تماماً من ملابسك وسنحممك بالماء المخلوط بدمائنا . الآن يا سادة ، أمام كل منكم ‏سكيناً فليجرح بها كل واحد عضده ويسكب الدماء على هذه المياه الساخنة .‏
تم ادخالي عارياً داخل برميل به ماءً ساخن وتفوح منه رائحة الدماء ، بعدها أخرجوني ، وسمعت ‏صوت الرجل يقول:‏
‏- لن يكتمل تدشين عضويتك إلا بعد أن يلج كل رجل من الأعضاء في هذه القاعة ذكره في ‏مؤخرتك ، لقد اقتربت من النهاية ، الآن احني جسدك .‏
حنيت جسدي ، وأحسست حينها بذكر أحدهم يلج مؤخرتي بسرعة ، تلاه العشرات ، وحين انتهى ‏الجميع تذكرت الفلاش ، ومقولة نائب رئيس الحزب من أن الشذوذ نفسه سياسة ، فهل كان يقصد ‏ذلك ؟ بعدها سمعت صوت الرجل يقول:‏
‏- لقد تأسس تجمعنا هذا قبل أكثر من ألف سنة ، تحديداً في القرن الخامس الميلادي ، وأخذ ‏أجدادنا يديرون العالم كله عبر هذا المحفل ، الحروب كلها ، والسلام كله ، ونهوض حضارات ‏وزوالها ، الانتصارات والهزائم ، كانت كلها نتاج أيدي الزعماء في هذا المحفل ، نحن الذين ندير ‏هذا العالم ، من أجل تدمير سلطة الرب ، وإقامة سلطة البشر الأقوياء ، الأقوياء فقط من ‏يستحقون الحياة . الآن سنزيل الغطاء من عينيك ، لترى باقي الأعضاء ثم ستقوم بارتداء الملابس ‏الخاصة بالمحفل .‏
تم ازالة العصابة من عيني ، وحينها رأيت على الأضواء الشاحبة ، عشرات من القادة العالميين ‏وزعماء الطوائف الدينية والسياسيين العظماء ، وقادة الإرهاب ، ثم تناوبوا في السلام علي وهم ‏يحتضنونني الواحد تلو الآخر ، ثم قال الرجل صاحب الصوت بوقار:‏
‏- مرحباً بك زعيماً للمحفل الإقليمي العالمي ، أنت زعيمه منذ الآن . منذ الآن سنحدد لك طريقة ‏حياتك ، وطريقة مماتك ، منذ هذا اليوم سوف لن تكون أنت هو أنت ، بل أنت هو نحن . والآن ‏عليك أن تؤدي قسم الولاء المطلق .‏
أديت قسم الولاء المطلق ، ثم قادني أحدهم إلى الخارج ، كانت السماء تمطر مطراً خفيفاً ، ‏والأرض المعبدة تلمع من تحتي فتعكس صورتي ، نظرت إلى حيث قدمي ورأيت صورة وجهى ‏على صفحة المياه ، وهالني ما رأيت ، كانت ملامحي تذوب في بعضها ، أنفي فوق أذني ‏وشفاهي فوق حاجبي ، وشعري عند ذقني ، كانت تفاصيل ملامحي تنصهر في بعضها كقناع من ‏الثلج، حينها همست :‏
‏- مصادرة التفاصيل .. مصادرة التفاصيل .. مصادرة التفاصيل ..‏

‏(تمت)‏

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..