ماتــا هــاري

(محظية نعم ، أما جاسوسة فلا .. لقد عشت حياتي دائما من أجل الحب والبهجة)
– ماتا هاري ?

في 7 أغسطس 1876 ولدت (مارجريتا جيرترودا زيلي) في بلدة (ليوفاردين) بشمالي هولندا ، إبنة كبرى وأخت لثلاثة ذكور . كان الأب يمتلك محلا تجاريا ، ثم ما لبث أن ولج عالم الإستثمار فأستثمر أمواله في صناعات النفط فحقق نجاحا كبيرا وأصبح ميسور الحال. على هذه الكيفية عاشت (مارجريتا) طفولة مدللة ونالت تعليما محترما في مدارس خاصة ، حتى بلغت سن الثالث عشر من عمرها . في عام 1889 تعرض الأب إلى إنتكاسة مالية حادة أدت إلى إفلاسة ، مما أثر على حياته الزوجية ، الأمر الذي أدى إلى إنفصال الزوجين لاحقا. بعد عامين من ذلك توفيت الأم فأنتقلت (مارجريتا) لتعيش مع أباها الروحي (بالتعميد) في (سنيك) ، ثم إلتحقت بمؤسسة تعليمية في (ليدين) لكي تصبح معلمة روضة ، غير أنها تعرضت إلى المضايقة الصريحة والواضحة من مدير المدرسة فقرر أباها الروحي نقلها لتلجأ إلى منزل خالها.

خلال مطالعتها للصحف الهولندية قرأت ذات يوم إعلانا لنقيب في الجيش الهولندي يعمل في جزيرة (جاوا) الأندونيسية ، يطلب فيه زوجة لتقيم معه هناك. مع أن (رودلف ماكليود) وهذا إسمه كان يكبرها في العمر كثيرا ، إلا أنها وافقت على أن تخوض التجربة وقبلت الإقتران به. في (جاوا) إكتمل الزواج وتأسس بيت الزوجية وكان من الممكن لحياتهما الزوجية أن تمضي بشكل طبيعي ، غير أن الزوج كان متعسفا ومعاقرا للخمر بشكل بغيض ، ملقيا باللوم على زوجته في كل إخفاقاته العملية. نتيجة لذلك تدهورت حياتهما الزوجية وعاشت (زيلي) حياة قاسية. لإلهاء نفسها عن هذا الشقاء إنكبت (زيلي) على قراءة كتب الثقافة والتقاليد الأندونيسية بما فيها الرقص ووجدت نفسها منجذبة بكلياتها إلى ذلك العالم الأسطوري ، عالم الشرق وسحره الذي لا يقاوم فتعلمت الرقص وأجادت فنونه وأساليبه. بعد وفاة إبنها الصغير وإنصراف زوجها عنها إندمجت في مجتمعات (جاوه وسومطره) وأصبحت راقصة شرقية.

في عام 1902 عاد الزوجان إلى هولندا وكان الإنفصال هو النتيجة الحتمية لهذا الزواج المتعثر فكان أن أنفصلا رسميا في 30 أغسطس من ذات العام. مع أن القانون كان يلزم (رودلف) بدفع نفقة لطفلته إلا أنه لم يفعل ذلك ورفض أن يعيد البنت إلى أمها فقبلت بذلك مجبرة . باحثة عن مستقبلها العملي إرتحلت (زيلي) إلى فرنسا وعملت في البدء فارسة سيرك ، موديل ثم راقصة ، متخذة إسما فنيا هو (ليدي ماكلويد) غير أنها لم تحقق نجاحا مذكورا فعادت إلى وطنها لتمكث عاما من دون عمل لتعود مرة أخرى إلى باريس ، متخذة هذه المرة مسارا أكثر إثارة ، حيث أخذت تقدم وصلات من الرقص الشرقي المثير الذي صادف هوى لدى الكثير من الأوربيين الذين كانوا يرون الشرق في ذلك الوقت مصدرا للإلهام الفني . في هذه المرة إتخذت (زيلي) إسما فنيا أخر هو (ماتا هاري) ويعني بلغة الملايو (عين النهار) أو (الشمس) وأبتدعت قصة خرافية زعمت فيها أنها أميرة أندونيسية تدربت على الطقوس الغريبة والرقص الشرقي وفي رواية أخرى أنها ولدت في معبد هندي مقدس وأن كاهنة ذلك المعبد علمتها كيفية أداء الطقوس والرقصات الهندية وأنطلت الحكاية على الباريسيين وأصبحت (ماتا هاري) بين ليلة وضحاها سيدة من سيدات المجتمع الباريسي .

مع صعودها أخذت تقدم عروضها المثيرة المصاحبة للرقص الشرقي على المسارح ، عارضة مفاتنها للجمهور لتخطف الأضواء وتزداد شعبيتها وتتسع شهرتها ، ثم كان أن طافت أوروبا شرقا وغربا ، مقدمة عروضها التي إشتهرت بها فأتسعت دائرة عاشقيها ومحبيها لتشمل كبار الساسة والعسكريين في البلاد التي زارتها وأصبحت تربطهم بها علاقات قوية كونها أصبحت محظية لديهم. في برلين كادت أن تعثر على حبها الحقيقي حينما وقعت في هوى ضابط الماني وتركت من أجله حياة الرقص والمجتمعات الصاخبة ، لكنه هجرها بعد عامين فأنتقمت منه عن طريق رجل أعمال فرنسي دمر حياته.

برغم كل تلك الحظوة تراجعت مهنتها فقد شن النقاد عليها هجوما عنيفا واصفين ما تقدمه بأنه فن مبتذل وبأنها لا تملك موهبة فنية فعايشت ظروفا مادية صعبة فسافرت إلى المانيا عام 1914 وأستقرت لفترة ومع أندلاع الحرب العالمية في نفس العام عادت إلى موطنها هولندا حيث كانت هناك مفاجأة في إنتظارها شكلت منعطفا هاما لحياتها القادمة ، إذ قابلها القنصل الهولندي في (أمستردام) وأهمها بأنه مغرم بها وعاشق لأجواء الشرق الأسطورية التي عاشتها فكان أن نجح في تجنيدها لتعمل لصالح المخابرات الألمانية لقاء مبلغ ضخم ، مقابل أن تمد الألمان بمعلومات مفيدة عن العدو فقبلت المهمة دون أن تدري خطورة المهمة وبعد التجنيد منحها الألمان الإسم الحركي (هـ 21) .

من هولندا إنطلقت (ماتا هاري) مرة أخرى إلى فرنسا لتبدأ مهمتها المحفوفة بالمخاطر وفيما كانت تسعى إلى الحصول على إذن لدخول منطقة حساسة ، تعرفت على نقيب فرنسي يدعى (لادو) الذي خامرته بعض الشكوك حولها فطلب منها أن تعمل لصالح المخابرات الفرنسية مقابل أجر كبير ووافقت (ماتا هاري) مرة أخرى من دون تضع حسابا للمحاذير على أن تعمل (عميلة مزدوجة) فأرسلها النقيب في مهمة إختبارية إلى إسبانيا ونجحت في الحصول على المعلومات المطلوبة ، لكن في باريس كانت الإستخبارات قد رصدت رسالة مشفرة بعث بها القنصل العسكري في إسبانيا إلى برلين ، يكشف فيها عن هوية (ماتا هاري) كعميلة للألمان وأنها عميلة في قسم تجميع المعلومات في كولونيا ، ثم جرى إعتراض رسالتين أخريين تتحدث إحداها عن ضرورة أن تسحب (ماتا هاري) مبلغا ضخما من المال من باريس نظير ما قدمته من خدمات.

بناء عليه ألقي القبض عليها وحاولت الرجوع إلى المصدر الفرنسي الذي تعاملت معه فتنصل عنها وإنفض عنها كل من عرفها ولم يبق معها سوى صديق قديم يعمل محاميا فتبرع للدفاع عنها وبذل جهدا كبيرا لإنقاذها غير أن الأمر كان قد قضي فقد كان كل شيء معدا . . بعد مداولات إستمرت (40) دقيقة فقط أصدرت المحكمة حكمها على (ماتا هاري) بالإعدام رميا بالرصاص وإستقبلت الحكم ببرود فلم تطلب تخفيفا للحكم أو رأفة . في 15 أكتوبر 1917 جرى إقتيادها إلى حصن (فنسن) الجبلي خارج باريس وهناك أظهرت ثباتا نادرا ورباطة جأش عالية حينما رفضت أن تعصب عيناها وفضلت أن تواجه الموت عيانا . بعد أن أفرغت فرقة الأعدام رصاصتها في صدرها كانت حياة (عين النهار) قد إنطوت في ذلك النهار ، غير أن قصتها لم تنته فقد أصبحت مادة شديدة الثراء للأدباء والمؤرخين وصنّاع السينما وبقي السؤال الكبير : هل أخطأت (ماتا هاري) في حق نفسها ، أخطأ الأخرون ، أم الأقدار هي التي ساقتها إلى هذا المصير المحتوم ؟

(إن الشر الذي فعلته هذه المرأة هو أمر لا يصدق . ربما كانت أكبر جاسوسة في القرن) ? المدعي العام .

—————–

* من مصادر عدة .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..