الأزمة المصرية الأثيوبية: تراكم الهروب من الواقع

تبدو مصر عاجزة عن الأتيان بحل توفيقي لقضية بناء سد النهضة الأثيوبي. هذا ما يحدث عندما يتم الاستثمار في التشنج الدبلوماسي والعداء وتبني سياسات النعامة.

بقلم: مجدي خليل

لا توجد كلمة سوى الفشل الذريع للتعبير عن سوء الإدارة المصرية لملف مياه النيل في العقدين الماضيين وخاصة منذ محاولة اغتيال الرئيس السابق مبارك في اديس ابابا في عام 1995. وتتجسد قمة الفشل في تعامل مصر مع اتفاقية عنتيبي التي وقعتها 8 من دول حوض النيل حتى الآن ولم يتبقَ من دول الحوض الذين لم يوقعوا سوى مصر والسودان واريتريا، ويرجع الفشل بسبب اعتماد مصر على مجموعة من الخبراء المتشنجين وبعض الدبلوماسيين الذين يتسمون بالعدوانية والعجرفة تجاه دول الحوض. ووصلت العجرفة والعدوانية إلى حد تسريب جهات غربية لأقوال اطلقها مبارك وعمر سليمان هددوا فيها بضرب السدود الأثيوبية بالطائرات.

لقد سلكت مصر والسودان الطرق العدوانية والملتوية في التعامل مع الحقوق المشروعة والعادلة لدول المنبع في الاستفادة من المياه في التنمية والتوسع الزراعي. ساعدت مصر والسودان الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا حتى انفصلت عن اثيوبيا عام 1994 ومنعت بذلك دولة اثيوبيا الكبيرة والتاريخية من أن يكون له موطئ قدم على مياه البحر الاحمر حيث بقت محبوسة في اليابسة وتهدد بتكرار نفس الشيء مع اقليم اوجادين، وساعدت مصر والسودان الحركات الوهابية والإرهابية لزعزعة استقرار اثيوبيا وبث التطرف والرعب بالقتل والتفجير ضد المسيحيين والمسلمين المعتدلين، وارسلت مصر عشرات البعثات الدعوية إلى دول افريقيا لتحويلها إلى الإسلام واستثمرت في ذلك مئات الملايين من ميزانيتها المرهقة، لقد عبر مواطن افريقي عن ذلك بقوله لن اعالج عند المراكز الطبية المصرية، هؤلاء الناس يريدون علاجي في مقابل تغيير ديني وأنا افضل الموت على هذا الابتزاز. وساعدت مصر السودان في عهد النميري ضد جنوب السودان الذي دفع أكثر من 2 مليون ضحية في هذا الصراع العنصري، وأدى ذلك بالطبع لتوقف العمل في قناة جونجلي عام 1983 بعد حفر 240 كيلو متر من طول القناة الذي يصل إلى 360 كيلو متر، وبهذا توقف مشروع كان من المفترض أن يوفر لمصر حوالي 10 مليارات متر مكعب من المياه التي تتبخر في المستنقعات السودانية.

بعد شروع اثيوبيا في التخطيط لبناء سد الالفية الكبير ماذا كان رد فعل مصر؟ انفقت الملايين على وفود مصرية في رحلات مكوكية إلى أميركا واوروبا والصين لحثها على عدم الاستثمار في بناء السد، وكأن هذه الدول لها سلطة على شركاتها العملاقة العابرة للقارات، حتى أن وزير خارجية ايطاليا قال لأحمد ابو الغيط أنا على استعداد لترتيب لقاء لك مع رئيس شركة كورونا لنرى هل ستستطيع اقناعهم بعدم زراعة الكاكاو والبن في اثيوبيا والسودان أم لا؟ اعتمدت الخارجية في عهد احمد ابو الغيط وزميليه منى عمر ورضا بيبرس على سياسة العمل السلبي تجاه سد الالفية بمحاولة منع المستثمرين من المساهمة في التمويل، وكان الفشل الذريع من نصيبهم في كل دولة زاروها حتى الصين ذات الاقتصاد الموجه اعطتهم لطمة على خدودهم بالقول بأن لدينا خطة للتوسع في افريقيا لا نستطيع إيقافها لأنها تمثل مصالح عليا لدولتنا. والغريب أن السيدة منى عمر بعد أن دمرت علاقة مصر بالدنمارك بعد تشنجها وتفجيرها لقضية الرسوم الكاريكاتيرية، عادت بعدها ولمدة خمس سنوات كمسئولة عن ملف مياه النيل، لتعمل على تدمير علاقة مصر بدول حوض النيل ونجحت في ذلك.

بعد إعلان اثيوبيا عن تحويل مجرى النيل الأزرق كعمل هندسي ضروري من أجل بناء السد، انفجر التشنج والصخب في الإعلام المصري وفي المناقشات والتصريحات، ودخلت السياسة الداخلية على الخط بتحميل مرسي ونظامه الأخواني المسئولية رغم عدم صحة ذلك.

دعونا من هذا الصخب وتعالوا نناقش الخيارات المطروحة للتعامل مع هذا الواقع الجديد وأيهما يصلح منها:

الخيار الأول: العمل العسكري

تشنج البعض وادعوا أن المسألة حياة أو موت ومن ثم نحن ذاهبون إلى أخر مدى حتى ولو تطلب ذلك ضرب السد بعمل عسكري من خلال الطيران الحربي. هذا الخيار علاوة على أنه خيار مدمر وفاشل فأنه أيضا من الصعب جدا تحقيقه، فضرب سد النهضة معناه عمل عدائي موجه ضد أكثر من 12 دولة مشاركة بالتمويل والخبرات والمشاركة في بناء هذا السد وفي مقدمتها الصين وفرنسا وهولندا وكندا والمانيا والدنمارك، فهل ستترك الصين مصر تعتدي على استثماراتها ودورها الجديد والمتنامي في افريقيا؟ ثانيا ان هذا السد مؤمن بمنظومة دفاع جوي إسرائيلية تشبه برنامج القبة الفولاذي الإسرائيلي ومن ثم فأن طائراتنا سيتم اسقاطها بسهولة على الأراضي الأثيوبية. وثالثا فأن هذا العمل سيكون عدوانا على الاتحاد الأفريقي بأكمله والذي يؤيد دول المنبع في حقوقها المائية العادلة. ورابعا هذا العدوان سيكون عملا عدائيا غير مبرر امام الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ومن ثم سيفتح ابواب جهنم على مصر، علاوة على أنه سيكون عملا من أعمال الحرب تقوم به مصر والسودان ضد اثيوبيا ودول الحوض قد يتسبب في اشعال حرب نحن لا نقدر على تبعاتها ولن ننتصر فيها، واخيرا فأن سيعطي المبرر لاثيوبيا وشركائها للعمل معا للإضرار الشديد بمصالح مصر المائية.

الخيار الثاني: الحل القانوني

ويتمثل هذا الحل في الذهاب للقضاء الدولي ضد اثيوبيا ودول المنبع الموقعة على اتفاقية عنتيبي بذريعة وجود معاهدة موقعة عام 1929. هذا الخيار ليس في صالحنا، فمعاهدة 1929 ليست عادلة بالمرة وتم اقرارها تحت الاحتلال ولم توقعها اثيوبيا وأنما اربعة دول وهي السودان واوغندا وتنزانيا وكينيا ووقعها بالنيابة عنهم المحتل الانجليزي في مقابل الإدارة المصرية، ومن ثم فهي في حكم الملغية لأنها غير ملزمة لدول الحوض، وقد دعت مصر بالفعل خبير القانون الدولي والقاضي بمحكمة العدل الدولية، الدكتور جورج أبي صعب لإستشارته في هذا الموضوع، وكانت اجابته واضحة بأن مصر ستخسر بشكل مؤكد القضية أمام القضاء الدولي، حيث أن الالتزام بالاتفاقيات التي وقعت تحت الاحتلال غير ملزم إلا في حالة الحدود فقط، أما المياه فهي مورد متغير لا تخضع لهذا الالتزام وأنما للظروف المتغيرة، وبالتالي فأن هذه المعاهدة تعتبر لاغية بحكم التطور الذي حدث خلال هذه المدة الطويلة. أما اتفاقية عام 1959 فهي اتفاقية ثنائية بين مصر والسودان غير ملزمة لباقي دول حوض النيل. من هنا يمكن القول بأن مصر لا تجرؤا على الذهاب للقضاء الدولي لمعرفتها بهشاشة دفوعها وعدم صمودها أمام المحاكم الدولية.

الخيار الثالث: العمل السلبي

وهو ما قامت به مصر فعلا، سواء بالامتناع عن التوقيع، أو محاولة عرقلة المشروع، أو اثارة المشاكل، أو تغطية الرأس مثل النعامة وكأن شيئا لم يكن. كل هذا حدث بالفعل وكانت النتائج واضحة وهي أن حركة التاريخ تسير في مسارها الطبيعي والويل للمتفرجين والخائفين والعاجزين عن المشاركة في صنعه.

الخيار الرابع: التعاون والتفاوض

وهذا هو الخيار الوحيد الواقعي والصحيح والممكن، حيث أن القانون الدولي والأمم المتحدة توصي بالتعاون فيما يتعلق بالتعامل مع الممرات المائية المشتركة والأنهار الدولية. لقد حذرنا استاذنا الدكتور بطرس غالي ونحن طلبة من مشكلة المياه التي ستنفجر والصراع العنيف حولها، وطالب مصر بمد الجسور مع افريقيا، وفعل هو ذلك حتى توج أمينا عاما للأمم المتحدة من قلب أفريقيا وبترشيحها وبدعمها. ونبه عالم الجيولوجيا الراحل دكتور رشدي سعيد من أن دول حوض النيل قد تلجأ إلى بيع المياه باعتبارها مورد طبيعي وطني مثل الغاز والبترول.

إذا خلصت النوايا، فأن الاستثمار في التعاون وفي العناية بالممر المائي وفي التنمية المشتركة للموارد المائية سيؤدي حتما إلى تعظيم المنافع بالنسبة للجميع. فالمياه المهدرة كبيرة جدا ويمكن ترشيد هذا الهدر بالتعاون والاستثمار المشترك لدول الحوض. أما التحجر والتمسك بمعاهدات عفا عليها الزمن فلن يفيد ولن يوقف عجلة التاريخ.

المسألة إذن لا تحل بالتخويف والإرهاب والابتزاز بل بالتوافق حول المنافع المشتركة للنهر وتنمية الموارد المائية والحفاظ عليها خلال رحلتها الطويلة. المسألة لا تؤخذ بالذراع ولا بالصوت العالي، ولكن بالعقل والحوار والاتفاق وخلافا لذلك ستخسر مصر بالتأكيد.

بقيت نقطة أخيرة تتعلق بدور الكنيسة القبطية في هذه الأزمة ورأيي أن لا تتورط الكنيسة في موضوع سد النهضة الأثيوبي للاسباب الأتية:

اولا: أن سد النهضة بمثابة مشروع قومي في اثيوبيا مثل السد العالي لدينا، والشعب كله ملتف حوله ونحن لا يصح أن نقف ضد رغبة الشعب العادلة في التنمية وتحسين مستواه.

ثانيا: أن هذا السد سوف ينقل اثيوبيا نقلة كبيرة من دولة فقيرة في التنمية إلى دولة متوسطة في التنمية، ومن ثم فهو هام جدا بالنسبة للشعب الأثيوبي وبالنسبة لمستقبل الدولة.

ثالثا: أن مبارك طلب من الراحل قداسة البابا شنودة منذ عدة سنوات أن يتدخل في هذا الشأن، وسافر إلى اثيوبيا وقابل البطريرك الراحل ابونا بولس وفشلت الزيارة حيث ابلغه البطريرك أننا لا نتدخل في السياسة ولا نرغب في ذلك.

رابعا: أن الكنيسة الاثيوبية اخذت دير السلطان القبطي هدية من إسرائيل بعد تهجير يهود الفلاشا، ولم نستطع استرجاعه حتى الآن، فإذا كنا فشلنا في استرجاع ديرنا منهم، وهي مسألة دينية فكيف سننجح في مسألة سياسية ووطنية هي سد النهضة.

خامسا: أن مصر والسودان ارتكبتا العديد من الخطايا السياسية الكبرى في حق اثيوبيا وحرضت المتمردين، ومازالت، وساندتهم حتى انفصلت ارتريا فكيف نتدخل في هذا الموضوع المخزي ونشارك في هذه العدائية.

سادسا: هذه الزيارة هي توريط للكنيسة حتى إذا فشلت، وستفشل بالتأكيد، في مهمتها ستنهال نظرية المؤامرة علينا أننا لم نستطع اقناع الكنيسة الأثيوبية وتحالفنا معها ضد مصر، وما اكثر هذا الكلام السخيف في مصر.

سابعا: ماذا يعني الطلب من كنيسة مضطهدة، تُحرق كنائسها وتخطف بناتها القبطيات وتنهب ممتلكاتها، أن تتوسط؟ الا يعني ذلك قمة المهانة والإذلال؟، وهل لا يعلم الطرف الاثيوبي ماذا يحدث للأقباط في مصر؟

واخيرا: هذه المسألة سياسية ومن الأفضل للكنيسة البعد عن السياسة حتى لا تحصد مساؤها. وليكن شعارنا كلام الحكيم باعد رجلك عن الشر.

مجدي خليل
ميدل ايست أونلاين

تعليق واحد

  1. شكرا لمقال الجيد ولكن ليس من حقك تحميل تبعات رعونة السياسة المصرية السودان،، ثم لعلمك ولعلم جميع المصريين حكومة وشعبا السودان لا دولة منبع ولا مصب السودان ممر فقط ولن يقف مع مصر في النفق الضيق.. فمن فضلك اذا مصر تريد خيار الحرب فذا وشأنها فالسودان لن يشارك ولن يساعد في الحروب التي نحن نكتوي بها من اكثر من نصف قرن.. اثيوبيا من حقها انشاء السد والسودان لن يتضرر بالعكس سيستفيد السودان جدا من هذا السد،، فيكفي ان استعبطنا حكومة مصر فيما مضى ولن يسمح الشعب السوداني يتكرار التجربة وليكن في علم الجميع ان الذي يربطنا باثيوبيا ليس باوهن ما يربطنا بمصر،،

  2. الأخ- دهب السودان دولة مصب وليس ممر ولا يوجد شى أسمه دولة ممر- وأنضم اليك فى مقالك الى ان من حق اثيوبيا بناء هذا السد وعدم حرمانها لانها دولة فقيرة و تعتمد على الزراعة و السياحة وهذا حق عادل لا مناص فيه أما الاخوة المصريين لا يريدون خير لا للسودان أو اثيوبيا ينظرون لمصالخم دون مراعاة الأخرين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..